الحديث ليس لعيسى بن هشام ــ فالزمان ليس زمانه. ولا المكان مكانه. و أسلوبه لم يعد أسلوبا عصريا, ولا طرائفه البريئة, الممزوجة بخبث فاقع, تضحك تجهم عالمنا ــ وإنما حديث لشهود عيان من مغتربين أريد لهم دوام الاغتراب عن الأوطان. والدخول في مجاهل النسيان. وتحريم ذكرهم على كل لسان.
يُنسب إلى احدهم انه قال:
مع قدوم كل صيف, ومنذ أكثر من 30 عاما وأنا احلم بقضاء عطلة في الوطن, كل بلاد العالم مفتوحة لي إلا الوطن. ما يهمني من العالم كله هو الوطن. ورؤية الأهل والأصدقاء, وارض الطفولة بساحاتها ومدارسها ومرابعها, وطرقها, والذكريات, كل الذكريات. انه الوطن وإنها محبته, وليس كالمغترب محب لوطنه إلى درجات العشق.
بعد أكثر من 30 عاما اغتراب دخلت الوطن, للمرة الأولى, بشروط, فالدخول مشروط كالخروج, على عهدة المنسوب إليه الكلام. تجاوزت عتبة بيتنا داخلا , ولا ادري لماذا قفز لمخيلتي مباشرة عبد الرحمان الداخل, مع عدم تشابه الأشخاص والأهداف والمناسبة والمكان والزمان, عتبة كنت قد اجتزتها خارجا قبل أكثر من 30 عاما. العتبة نفسها, وهي ككل عتبة بيت عربي ترحب بالداخل أحر الترحيب, وتودعه خارجا بالتمنيات بالعودة وتكرار الزيارات. البيت نفسه, تغير فيه فقط لون طلاء الجدران المزدانة بكل ما يفرض الولاء لحماة الأمة, لعل ذلك تلائما مع الطلاء. وبقدر تعدد الصور يكون عمق الولاء. بلاط أرضه اخذ لونا غير لونه الذي عرفته. أما سقفه فهو على حاله. السقف, أي سقف, غير قابل لرفعه, حتى ولو كان برمزية سقف سقيفة بني ساعدة الذي تغير تحته مجرى التاريخ. وحتى ولو أراده المالك أو المتعهد أو المهندس. فلكل سقفه وتحته يقف. سقف لتفكيره, سقف لكلامه لا يتجاوز سقف حلقه. سقف لكتاباته. سقف لتعبيره. سقف لحريته. ولإنسانيته سقف. وكل سقف مرسوم بمرسوم, حتى ولو خرج البعض القليل من تحت السقوف و تحدثوا فوق السطوح.
ليست فقط سقوف المنازل ــ بمعنى البيوت, و بمعنى المنازل والمراتب والمقامات, وسقوف الحريات, (الحقوق وحدها غير مسقوفة, متحركة تحت قبة السماء, دون ضوابط ولا ثبات, ولا استقرار أو حدود, أو حماية من انتهاك) ــ هي المرسومة سلفا للجميع, وإنما كذلك سقف المعيشة , وأنواع الغذاء. فقد توازى مع انخفاض سقف وجبات الفقراء إلى ما دون الحمص والفول والمجدرة, ارتفاع , كنتيجة طبيعية, لسقف وجبات الأغنياء, حديثي النعمة, إلى الكفيار وأشياء تقدم لهم جاهزة لا يعرفون أسماءها لا بالعربية و لا بلغاتها الأصلية, ويعجبهم مذاقها لأنها وصُفت لهم, من مصادرها, على أنها اللذة بعينها, ولا تناسب إلا الأذواق الرفيعة.
رأيت أبي, يضيف المنسوب إليه الكلام, وقد كبر 30 عاما وكبرت مثلها أمي. متماسكان, أي جبروت يتحليان به, تساءلت, لو غاب عني ابني 30 يوما هل كنت سابقي على توازني؟.
لا ادري إذا بقيت بالنسبة لهما أنا قبل الاغتراب كأنا العائد بعده ــ عودة مؤقتة ومشروطة حددها لي الوطن !!! ــ. هل رأيا بي الجزء الذي يعرفونه؟. و بقي عندهم الجزء الأخر, المصنوع في المغتربات بشروطها وظروفها, غامضا مجهولا ؟ أم لا يريدون معرفة شيء منه, ويعتبرونه في حكم غير الموجود ؟ أم انه تفصيل غير مهم يغطيه الجزء المعروف لديهم عني؟ . أحسست أن تعرفهم عليّ كاملا, بجزأي, لن يأتي أبدا, فالتعرف عليّ بجزئي, المعروف وحده, لم يأت من اليوم الأول وإنما مع الأيام المتعاقبة, وكأنه مر بعودة اكتشافي على ضوء الذكريات والذاكرة...
بين الخروج والعودة, المشروطة, لم يتوقف الزمن, فمرت أحداث وأحداث على مر الأيام والسنين. ولد من ولد. ورحل عن الحياة من رحل من الأقارب والجيران والأصدقاء. وهاجر طلبا للرزق من هاجر. بعد آن أصبحنا " امة تلفظ شبابها" (مقالنا السابق). وتغيرت معالم مدن وقرى. ورفع الزمن إلى مواقع قيادية من فاتهم حظ أي تحصيل علمي, لنبين للعالمين بأننا امة يمكن أن ترفع إلى العبقرية من تخلف من أبنائها, وقعدت بهم الهمم, إذا ما توفرت مدارس غير المدارس التقليدية. وتكوين بجرعات عقائدية وتنشيطية.
المنسوب إليه الكلام, سمع كلاما جميلا جدا بالإشادة بالمغتربين أينما كانوا. وبان الدولة خصصت لهم وزارة كاملة لرعايتهم في الوطن وملاحقتهم لخارجه, لمغترباتهم, ولان المتحدث لا تنقصه الفطنة, ولا يتحلى ببراءة ممزوجة بخبث فاقع عند عيسى بن هشام, فقد ذكّر المشيدين به وبالمغتربين. بان العناية والرعاية التي خُلقت لها وزارة للمغتربين تقوم بالسعي الدائب لجعل كل مغترب منهم امتدادا لأنظمة بلده ومزمارا ــ لا يطرب الحي ــ يعزف في المهاجر نشازا, وتلح على ربطه بالوطن, المرتبط به أصلا قبل وجود أي وزير ووزارة. ولكن آخر هموم تلك الوزارة أن تريده مساهما فعالا في بناء وطنه, لأنه يعرف كيف تُبنى الأوطان.
ونصح المتحدث, مع انه لا يؤمن بالنصائح, بأدائها أو تلقيها, بان تنصب جهود وزارة المغتربين والأموال المخصصة لملاحقتهم في القارات الخمس ــ حاملة لهم الوطن في وجوه وعطور وجيوب مبعوثيها إليهم, لا لشيء إلا للتوعية وإذكاء الوجد في وجدهم ــ على التخفيف من طموح المواطنين المقيمين في التفكير في الهجرة, وتحين الفرص لتحقيق حلم حمل لقب مهاجر, ومعالجة أسبابها, أو على الأقل تنظيمها حتى لا تؤدي بآلاف إلى التهلكة, فهي مهمة أسهل ولا تتطلب الملاحقة والترحال, وأتعابها وتكاليفها في مقدور المواطن. ولكن الصعوبة كل الصعوبة, وهنا بيت القصيد ومربط الفرس, هي في الخروج من الجلد وتوفير لكل مواطن ما يتطلبه البقاء في الأوطان من كرامة, وأمان, وحقوق إنسان.
أحسست, يؤكد المنسوب إليه الكلام, في بعض وجوه القادمين للسلام علي شوقا يغمرها. وفي أخرى مجاملات لا بد منها لرفع كل عتب. وعند آخرين خشية وخوفا, من كوني "مشموس", أو هكذا يشاع, وهنا الطامة الكبرى فالمشموس يشمس غيريه وينقل إليه الداء, ويجلب له ما لا تحمد عقباه. وليست هذه من طرائف عيسى بن هشام البريئة الممزوجة بالخبث الفاقع. وإنما وقائع ثابتة. مضيفا, كبرهان لا يقبل الدحض, أن احد أقربائي, وهو وجه كبير في القوم, لم يكنه سابقا, جاء مع زوجته للتهنئة بالسلامة بعد تردد تغلّب عليه بفن التمويه والطلاء المعتاد في الوصول, واخبرني بأنه في حالة لم يحصل له شيئا خلال إقامته ومرت الأمور بسلام, فانه سيجمع أقاربه, ووجوه العائلة, ويأتي بالجميع للسلام والتهنئة بالعودة, المشروطة, وبالسلامة غير المضمونة.
ويتساءل المنسوب إليه الكلام, ودائما بغير براءة "خبث" عيسى بن هشام:
ـ هل هذه هي اللحمة الاجتماعية, والوحدة الوطنية, التي تجمع بين المواطن والمواطن, أكان موقعه في الداخل أو في الاغتراب, خوف وإذلال, وهل هي الثقافة المناسبة للمغترب والمقيم ؟.
ـ لماذا لا يكبر الخوف إلا في أوطاننا, ويكبر ويكبر ليولد خوفا مستمرا يدخل العظام وحتى النخاع, فتصبح أوطاننا لا تخيف إلا مواطنيها, ولا تكسب احترام أي صديق. ولا يقيم أي عدو لها أي حساب.
ومع ذلك ومع قدوم كل صيف وعطل, يحاول المنسوب إليه الكلام, حزم الحقائب وشراء الهدايا, على أمل عودة غير مشروطة, ولكنه في نهاية الصيف, وانتهاء المواسم, يعود متحسرا لفتح حقائبه في عين المكان, وإغلاق القضية, علها تُفتح في القادم من العطل الصيفية.
د. هايل نصر
التعليقات (0)