أهدتني الشاعرة فرات أسبر مجموعتها الشعرية التي أصدرتها مؤخرا وهي المجموعة السابعة في سلسلة اصداراتها على ما أعتقد .. لم أقرأ مجموعاتها السابقة وهو قصور مني .. وإن كنت أقرأ ما تنشر بين الحين والآخر في العديد من المواقع الأدبية والفكرية التي تتواصل معها الشاعرة على نحو دائم .. إذن هي تجربة ثمينة ،مجموعة شعرية كاملة بين يدي الآن ولي هذه الأثناء ان أسجل انطباعي الخاص الى ما وصلت إليه تجربة الشاعر الفذة اسبر..
في الواقع هذه المقالة ليست قراءة بقدر ما هي انطباعات خالية من غرض النقد أو الاشادة ذلك أنه عندما نقول قراءة. فإن هذا يجعل استرسلنا هنا محدداً بشروط تفرضها طبيعة القراءة ، إذ القراءة شيء يختلف عن العمل النقدي. وتأكيدي على القراءة هنا أنه ينبغي أن يشير إلى أمرين أثنين بالغي الأهمية:
الأول : أنني لست معنياً بممارسة التأطير النقدي. فحين يتناول أحدنا تجربة لزميل له. فهذا يعني بالضبط قراءة لها. ثم محاورتها وتلمس عناصرها الفنية والجمالية ، دون أن تكون هذه القراءة مدفوعة دوماً لمقاربات النقد في سياقه العلمي، أو الصوابية المطلقة. إنه ضرب من ضروب الحوار الباحث، وفي مثل هذه الممارسة : أن تبحث أكثر أهمية في الواقع من أن تجد.
ثانياً : إنني ألقي في شكل هذا الحوار فسحة من الحرية في البحث والتمعن في تجربة الشاعره في دلالاتها الكونية ، بحيث يتيح لي أفق البحث اكتشافات لا توفرها أبدا الأعمال النقدية مهما بلغت أصالتها وجدتها. وربما استثارت هذه القراءة مزيداً من الحوار الإبداعي على أصعدة مختلفة. تتجاوز أطراف الحوار. ولصاحب النص، والقارئ بعد ذلك، حرية كشف انحيازات هذه الكتابة نحو النقد بين حين وآخر من هنا أتمنى أن تسهم هذه الاطلالة السريعة في توسيع شكل الحوار مع الشاعرة المتميزة اسبر .
إذن فإن كل ما يرد هنا ليس سوى إضاءات صادرة عن انطباع ما، لا تدعي حصانة المعطى أو نهائية المعنى.
وإذا ما وقع جانب من هذه القول في التفسير، فإنما هذا يحدث لضرورات لا يمكن تجنبها داخل السياق وتجلياته . فأنا لا أهدف إلى التفسير، لأن الشعر لا يقبل ذلك ولا يتطلبه ولا يعنيه في شيء ، إنه فعل عاطفة مشحونة بالتجربة، ولا أزعم أني قادر على تفسير المشاعر ولا الغوص في ملكات النفس الشعرية ، إنني فقط أحاول معايشتها، فأنت لا تستطيع مثلاً، أن تفسر الحب، لكنك تستطيع أن تعيشه.
هذه المجموعة جعلت الشاعرة عنوانها مستفزا وصادما الى أقصى حدوده الممكنة . ( زهرة الجبال العارية ).. عنوان يشي بما بعده ثم يتكسر على سارية اللغة ويبقى لونه مثل ظل دافئ حميم .. واللغة كما الصورة تتشظى فهي ليست ما قاله الآخرون وفي احيان كثيرة ما تصوروه، هنا يبدهك عنوان المجموعة، ويصبح الغلاف الذي اتخذ لونه الأسود مثل رداء فاضح لزهرة خجلة تأخذ شكل قلب يدميه الأصفر متماهيا مع ظل إمرأة مقطوعة الرأس ..
ولكي يتسنى لنا الاقتراب أكثر من تجربة هذا الديوان، يجب أن نتخلى عن شروطنا التي نتسلح بها عادة في مواجهة قراءة الكتب الأدبية، أعني أن نتنازل عن طلب المعنى المنجز، ففي هذا الديوان لن يتوفر المعنى ببعده الموضوعي، الذي تنتهي إليه النصوص عادة، مانحة فكرة أو حكمة أو موعظة، فرات اسبر لا يهمهما المعنى المتولد إنها تنطلق لتدفع بالقارئ إلى حالات، إلى مناخ شامل ينهض على الصورة، ويتسلح باللغة الشعرية المكتنزة، لذلك يتطلب الدخول في هذا المناخ انغماراً كلياً في المشهد الذي تجسده لنا النصوص، وإذا كان ثمة موضوعات ومعان فإنها حتماً لن تكون مكتملة في القصيدة، بل هي قابلة لأن تتخلق في ذهن القارئ أثناء وبعد فعل القراءة، وهذه ميزة لا تتوفر إلا لدى الشعراء بالغي الحساسية........................
فرات في ديوانها تتقدم إلى الشعر وتواجه التجربة بتردد وأحيانا برتباك في التعامل مع الأدوات، تمثل هذا في مظاهر عديدة يمكن ملاحظتها في التأرجح بين بدائية الرؤية الفنية والمراوحة في خلخلة الايقاع باعتباره من شروط الشعر الموروثة، وبين ابتكار قوانين في الكتابة الجديدة.
بحيث نواجه منذ النص الأول اللغة الشعرية الخالصة التي تحمل عبء مهمات لم تألفها محمولات الصورة . وعندما تعلن الشاعرة في البداية قولها :
أطلق اسر الجبال
والزهرة في اقصى الوجود
تفك أسر النجوم تلبس الشمس عنقي
تجعلنا هكذا في محايثة النص نسير الى جانبه دون أن يسمح لنا بأن ندلف الى عوالمة الداخلية ومحايثة نص على هذا القبيل أو النحو أمر يستدعي دائما اشتباكا آسر بين النص والقارئ فهو يسمح بتدفق المعنى دون أن يفض أسراره أو يبوح بكل عوالمة مما يجعله على الدوام مساحة للتأمل الدائم والمستمر ..
صوت الشاعرة في كل قصائدها الأربعين صوت يرتجف رعبا لكنه ممعن في المباغتة والمشاغبة كمن يمنح الحياة وجعها مثل وجع تزفه الجداول للحقول و مثل جرس دامي يزخر برنين متقطع يضيء القلب ويدهش الروح
وتصير الشاعرة كصليل الجهات .. تتجاوز مفاجأتها الحدود اشبه بنور يسرب في اقاصي الكون ويتنقل من كوكب الى نجم ومن نجم الى روح شارد في فلوات الكون .. مثل فكرة مسكونة بشهو الضوء والرحيل .. شاعرة خارجة من موقد تجربة فريدة لهبها يتأجج بما لا يقاس من الاتصال بأفق العالم تشكل انعطافة حادة في الرؤية وثمة طموح يهتز في حميمية أشبه بعناق الرفقاء شاعرة جرحها السؤال منذ بداية وعيها وصار الجرح رمز يقودها الى المفازات التي لم تطأها قدم .
أدفن الكلام أطوي جناحه المكسور وأطفئ المعاني
الخيال النائم في ثوبه الليلي توقضه امرأة مسحورة
حملت أسرارها للمغيب
وبأيام عمياء تسير
شبيه بهذا ما يوقع الآخرين في مأزق البغتة وهم يطالعون النص الذي تشحذه مثل نصل سيف تقطع به رؤوس الأحلام المجنحة ليس رغبة منها في العودة الى الواقع بكل أثقاله ولا السباحة في شفافية الخيال ولا هي بين هذا ولا ذاك لكنه الخيال لحظة تجسده .
الخيال غير الكتابة والتعبير عن المعنى لا تتحمله اللغة بكل اتساعها ... هنا تتسق نظرتها وتتوحد رؤيتها ولهذا فكل نصوصها تأخذ شكل الانفجار الصوري متجهة نحو خلق حالة الحياة بتفاصيل صغيرة لحركة خيال تتحول أو تحولها الى واقع يوشك لفرط وجعه أن يلمس المعنى ثم يجعل المعنى ذاته يتكور في مناخ يتصاعد مثل بخار الجحيم..
وللمتلقي أن يكتشف جماليات هذه اللحظة التي تمتد في كل قصيدة من قصائدها .. ولهذا فهي لا تحفل بالبنية الإيقاعية فشعرها شكل يتلبس ضلال المعاني ومن هنا يصير الإيقاع هو هو صورة تتفلت من الخاص متجه صوب أمل برهافة و بحساسية عظيمة تجاه اللغة التي تصنعها على نحو مغاير للمألوف.
وللدارس أن يكتشف أيضاً أن هذا الشاعر ة كانت على ما يبدو مولعة بالإيقاع وهائمةً به. بل يمكن أن نلمس أنها خالقة خاصة للإيقاع المختلف. وإذا لم يكن قارئ قصيدة فرات على درجة من الحس الموسيقي فإنه سيفقد سر الحيلة الإيقاعية التي تبتكرها باستمرار بقدرة فائقة تكادت محو حدوداً واقعية بين النثر والوزن ولا تبقى إلا الصورة وشيء خافت من المعنى . وربما صارت هذه الحدود وهماً. إنها لاتعنى كثيراً بوزن الشعر، لكنها تحتفي بإيقاع الروح. روح الشعر والإنسان معاً. فإذا أنت لم تفهم حيلتها الفائقة فسوف تقع في النثر. رغم تكرار الصور التي تتداعى أحياناً كأنها الأشلاء من جسد يحترق
في قصيدة الغامض المطمئن تقول :
أرمرم جدران هذا الكون .. أجمع آمالي .. أسرارها سوداء .. أرى جسدي .. يمضي ذابلا .. يحصي خريفا .. عبر هذا الصوت الذي لا أفهمه .. عبر هذه الحياة التي لا أعرفها .. أشد على يد الحياة .. وأصرخ .. اشبه الحياة لأني جماد .. اطلقت روحي تبحث عن وجه الإله الذي مضى .. تاركا الينابيع .. في الغامض المطمئن..
أي جسد هذا الذي تخاطبه فرات بنوع من التدله لكنها تتمنى له نارا تحرقه مثل الهشيم فتذروه الريح العاصف في مهب المجهول .. ثم يتحول الى حريق بالغ القسوة على هذا الإله الذي مضى .. واذا كان ثمة خطيئة في اطلاق شهوة نار جسد على هذا النحو فهي لا تاسى له ولا عليه ولا تشد يدها على الحياة إلا لأنها مشغولة بنعمة الخطايا .. ويطيب لها أن تمتحن غامضها المطمئن الى رهبة الكشف وخوف التعلق ... فلم يعد الواقع يحتمل عذابا من هذا النوع واللهب المستكين في روح الشاعرة تستثيره القصيدة .. وجسدها الذي تجرر أثقاله يتقدم أمامها بصورة مستقبل تراه عينها كشهوة الصوت الذي لاتفهمه بقدر ما يسترعيها صداه .. روحها مكبوتة وكامنة وكل هذا يشير الى اختمالات غنية تستدعيها هذه المهود وهي تتنقل في سجو رماد أو بقايا رماد الشاعرة الذي لا زال يهذي بالحياة وان كانت شبيهة بالحالم ....
إن الشاعرة، في مواقع كثيرة في نصوصها، تشير إلى انحراف تعبيري، يرحل بالمفردات من مستقرها الدلالي السابق، والشائع إلى اتجاهات مغايرة ومختلفة تماماً، هذا الانحراف هو ما يمكن الاشارة اليه باعتباره الخروج غير المتوقع للكلمات من معانيها المستقرة إلى مستويات جديدة من المعنى. ولعل تجربة اسبر في هذا الديوان تقوم على فعالية انحراف من هذا النوع، مما يدفع بالصورة الشعرية عندها إلى مهمات دلالية مركبة، وعلى اللغة في هذا السياق أن تقول ما لم تتعود على قوله هذا ما يمكن تسميته بانحراف التعبير في أعلى تمثلاته الممكنة .
ولاشك أن مثل هذا الانحراف التعبيري و اللغوي ينطوي على قدر كبير من التخريب اللذيذ القائم على بذر الفتنة الجليلة داخل النص.
ليست الفتنة فقط على صعيد المعاني، حيث حرية الفعل والبوح والمجابهات، ولكن كذا الفتنة على صعيد اللغة، حيث حريات العلاقات اللغوية وهندسة الشكل وتدفق الكلمات والحروف والمعاني بما يكفل توالد الصور الشعرية المباغتة وغير المتوقعة، وهيام الشاعرة بالشكل والشكل فقط، جعل للفتنة طابعاً من السحر والجلال ، ولعل ما يثير الفتنة دوماً - حسب تعبير الناقدة كريستين وكسمان : هو ما يكسر نظاماً ويدفع إلى اختراق الحدود . لكننا ينبغي أن نتحلى بالحذر تجاه هذا الإغواء أو الدلال ، فليس كل اختراق للحدود، أو نقض لقاعدة هو بمثابة حق وجدارة بإنجاز القصيدة الجديدة قالبا ورداء . لأن شرط الجمال الشعري هو الذي يمنحنا فرصة اكتشاف نجاح هذا النص أو فشله. في الشعر ليس للمنطق سلطة التفسير أبدا ، وليس للصورة معنى منجز مسبقاً في ذهن الشاعر ، إن النظام الذي تكتسبه علاقات الكلمات والصور في الجملة هو الذي يمنحنا الصورة الشعرية. فجملة ( اشبه الحياة لأني جماد ) ستأخذ تاريخها الخاص .. تاريخا تصنعه الشاعرة وتمنحه وجودا وتعيننا خاصا ليس بمثابة كونه نطق خاص ولكن هو المعنى الذي يظل يتناسل من جديد هو ما تهدف اليه الشاعرة وهذا يعد بمثابة التاريخ الذي نقصده هنا ... هذا هو فعل تداعي المعاني الذي بدأ عند الشاعرة منذ بداية نصوصها ، ولن يتوقف عن القارئ، ولعل هذا الاحتمال لم يصدر عن برهانية عقلانية اعتمدها بناء الصورة، ولكنه التجاور العفوي بين الكلمة والأخرى هو الذي أنشأ سيلاً من الصور المنطوية على احتمالات المعنى أو ضلال المعنى .
هذا مع العلم أن صدفة التجاور التي تحدث للمفردات ليست ناتجة عن منطق ذهني، ولكنه منطق اللاوعي الشعري هذا المنطق الغامض جدا ، وفي الفن عموما - بحسب علم النفس - يشكل اللاوعي المصدر الأكثر صدقاً من العقل. فمن هناك تصدر الحقائق التي سيعمل العقل الواعي دائما على طمسها بل وإنكارها، أو التغافل عنها، وسوف يشكل اللاوعي بذلك، مصدراً غنياً وزاخراً بالصورة الصادقة، والمذهلة والجميلة ، وهي تتحول بواسطة اللغة المتدفقة شعراً آخذا بالغ الروعة ، وعندما نتأمل معطيات هذه العملية الشعرية، ونتلمس الطاقة التعبيرية التي تمنحها لنا كل هذه العلاقات، سنفهم على شكل أفضل تعبير العالم النفسي ..لاكان..) حين قال : (إن الذي يتكلم أو المتكلم ليس الشخص، بل البنيات اللغوية، ونسق اللغة ذاته . .. والنسق هنا هو النظام ) و يوضح ( فوكو ) عبارة (لاكان) للاوعي، بقوله (أن المعنى لم يكن على وجه الاحتمال سوى نتيجة سطحية أو لمعان متولدة ، أو زبد، وأن ما يخترقنا في العمق هو النسق أي النظام ) لكن هذا الاجتهاد، إذا كان من شأنه أن يفسر لنا جانباً من حالات الشعر بل ربما حرصنا، بدرجة أكبر من الوعي، على تبادل العبء والمسئولية بين الشاعر والقارئ، لئلا نقف أمام المعنى الجاهز الذي ليس أكثر من لمعان أو يزيد وأن تعمقاً في شبكة العلاقات للصور والكلمات في النص، من شأنه أن يدفع بنا لجماليات الأفق الرحب للنص.
الصورة الشعرية، عند فرات اسبر تنشأ عن التجاور بين المفردة والأخرى نعم وهذا ما ميز الشاعرة ، وبين الصورة والأخرى كذلك ، هذا التجاور القائم على المصادفة، وإذا استخدمنا اصطلاح السرياليين، فإنها الصدفة الموضوعية . التي تتحقق في لحظة التداعي الشعري، دون الوقوع في آلية السرد الشعري التي اعتقد بها اندريه بريتون في تأكيده على فعالية الصورة الشعرية، ولا ينبغي الخلط بين الذاتية وبين السردية التي يرهنها السورياليون بالكتابة الآلية. وفعالية الصدفة الموضوعية تعتمد على حقيقتين اقترحهما علينا فعل التجريب الحديث في قصيدة النثر على العموم ، الحقيقة الأولى علمية، والأخرى فنية :
والأولى دائما تتصل بمصداقية التداعي الحر الذي يصدر عن تجربة ذاتية،
والثانية، الفنية فهي متصلة بطاقة اللغة اللامحدودة واستعدادها لمتطلب الحالة الشعرية فإنما هي تتبدى في ذلك النثار الذي يهز النفس .. وهذا موضوع طويل في تحليل بنية القصيدة عند الشاعر وخاصة أسباب هذا التداعي وكأننا في هذا الديوان حيال قصيدة واحدة أو نزف واحد يلمه سؤال الشاعرة أيتها الأنا ما أنت ...
على العموم أشكر الشاعرة الصديقة فرات اسبر التي أهدتني مجموعتها الشعرية وأرجو أن أعود في يوم ما الى تحليل واسع لتجربة فرات الشعرية منذ بدايتهتا الأولى وحتى هذه اللحظة ..
التعليقات (0)