رسائل مهمة ارسلها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب بوقوفه الطويل في طابور يصل إلى عشرات الامتار ورفضه تجاوز الناخبين للتصويت في الانتخابات التاريخية التي من المؤمل ان ترسم شكل المستقبل السياسي لمصر لاجيال قادمة.. ورغم تعدد الجهات التي كانت تترقب موقف الازهر الشريف من العملية السياسية الجارية في مصر لما يمثله من ثقل معنوي واخلاقي في ضمير ووجدان وتاريخ الشعب المصري ولكن يبدو ان فضيلة الشيخ آثر ان تكون رسالته الاولى هي للشعب المصري النبيل من خلال التأكيد على اولية الواجب الوطني واهمية إدلاء المواطنين بأصواتهم في الانتخابات لكونها تدشن مرحلة جديدة تعتبر ميلادا للديموقراطية والحرية والعدالة في البلاد.والتي اكدها بقوله :"إن إدلاء المواطن بصوته فى الانتخابات بمثابة الشهادة التى لا يجوز لأحد كتمانها مصداقا لقوله تعالى "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه"، وأضاف معربا عن سعادته بالمشاركة فى الانتخابات، " إن كل ما هو واجب وطنى يعد واجبا دينيا، ونحن الآن نسعى لبناء دولة مدنية حديثة"
وقد تكون عبارته الاخيرة شديدة الوضوح تجاه رغبة مؤسسة الازهر بالنأي بنفسها عن اي من الاطراف المتنافسة في العملية الانتخابية وخصوصا بين قطبي الحركة الاسلامية المتعطشة للوصول الى السلطة بنفس آليات وتقنيات الانظمة "الكافرة"متعجلين استثمار فرصة امكانية تحالفهم مع العسكر ضمن اطار الضوء الاخضر الامريكي الواضح لامكانية التعامل مع حكومة تدار بواسطة الاحزاب الاسلامية..
فيبدو ان التودد الذي حظي به الازهر الشريف من قبل الاخوان المسلمين والتيار السلفي لم يفضي الا الى بعض عبارات المجاملة والحديث عن الوحدة والمصير المشترك واحترام الخيارات..وحتى التحركات التي اتخذت طابع التدخل الخارجي من قبل الدول الداعمة للحركات الاسلامية يبدو انها لم يكن لها كل ذلك التأثير في ظل وجود الرغبة الاكيدة من قبل مشيخة الازهر في الانسلاخ من سجله الطويل من التبعية للسلطة عن طريق خطوات واضحة من الابتعاد عن المجلس العسكري الحاكم والتقرب من جانب آخر الى التيارات السياسية الأبرز بعد الثورة، وخاصة التيار الليبرالى، والإسلامى رغم العديد من نقاط الاختلاف السابقة مع هذه الاطراف..
فليس من الصدفة ان نجد الدكتور الطيب الذي استهل مشيخته بالتأكيد على ان فكر جماعة الإخوان المسلمين لا يتفق مع فكر الأزهر يتكلم عن ان "جماعة الإخوان هي من أكثر المؤسسات الحركية التي تحمي الأزهرليجيبه المرشد العام للجماعة التي كانت دائما ما تهاجم المؤسسة الدينية الرسمية على انها مغرقة في التبعية للحكم بأن"للمسلمين إماما واحدا فقط، هو شيخ الأزهر"وانه"المرجعية الدينية الوحيدة للمسلمين".وهذا الغزل قد يكون ما دفع بالمملكة العربية السعودية المشغولة بحساب الخسائر الكبيرة للتيار السلفي امام الاخوان الى الدخول بثقلها الممثل بوزير اوقافها الدكتور صالح آل الشيخ الذي اعترف للازهر بانه " القلعة الإسلامية الشامخة والمرجعية الإسلامية لأهل السُّنة والجماعة " وهي المؤسسة التي لطالما حملوها مسؤولية التقريب بين المذاهب الإسلامية باعتباره نوع من المساواة بين الحق والباطل..وكل هذا مما يشير الى ان هذا الاتفاق على مرجعية واولية الازهر لم يكن الا تضليلا مبيتا للمرور الآمن من خانق الصندوق الذي لم يتعود عليه الاسلاميون ..وهذا ما يبدو ان الازهر يعيه بصورة جيدة..
وهنا قد لا يكون من الحكمة ارجاع هذا الموقف الى ردود افعال لحظوية او ارتباك في الرؤية بقدر اعتبارها خطوات في مسيرة تبنتها المؤسسة الدينية تهدف الى تفادى تكرار أخطاء الماضى، تجلت في محاولاتهم كسب ود الثوار، وتأييد الثورة، فى تبدل واضح لموقف المؤسسة الدينية من الثورة قبل سقوط النظام، والابتعاد عن الفتاوى التى من شأنها إثارة الغضب والاستياء لدى الشارع المصرى، والعربى، والإسلامى..ولكنه كذلك لا يمكن تجاهل التنكب الواضح للازهر عن طريق الصراعات الاكيدة القادمة التي ستلي اعلان النتائج الانتخابية والتي ستدور رحاها بين الحركات الاسلامية المرجح فوزها في الانتخابات..
فليس من الرجم بالغيب ان الاسلاميين سيكون لهم ثقلا واضحا في المجلس التأسيسي القادم ولكن هذا الفوز سيكون نهاية التبريد القسري لسخونة العلاقات ما بين الاخوان المتمتعين بحيثيات نجاح النموذج التركي وبين السلفيين الأكثر ميلا إلى الأصولية والمحملين بكل مساوئ الحكم السعودي المغلق..منذرا ببداية نزاع على السلطة في ميدان يبدو انه من غير الممكن اقتسامه معا..ومنهيا لتقية انتخابية تجبر الطرفين عن انتقاد بعضهم بعضا متأبطين خطط الانقضاض حال انقشاع ادخنة المعركة الانتخابية واتضاح الرؤية..
ولكن ما فات على تلك الحركات الاسلامية ..وما يعيه الازهر جيدا هو ان التفوق الآني للاسلام السياسي هو مسألة تنظيم وتماسك سببه المداهنة المستترة حد الرعاية لانشطة تلك الحركات ما دامت بعيدة عن المطالبة بالحكم ..وهذا ما جعلها تتردد في الانخراط في الثورة حتى اللحظات الاخيرة التي لم تحسن شهادات الجزيرة على تغطيته بصورة جيدة..وان المستقبل مفتوح على العديد من الخيارات والقوى التي من الممكن ان تكون اكثر تعبيرا عن خيارات المجتمع المصري وطموحاته التي دفع ثمنها باهظا من دمه وكرامته في الدولة المدنية الحرة الحديثة..
فمن الصعب تصور حركات ملتبسة الرؤى والخطاب تجاه الاسلوب الامثل لادارة الدولة الكبيرة التعددية الرائدة بحجم مصر ودورها المستعاد في المنطقة وتتحصل على زئبقية التعاطي مع مفصليات العملية السياسية من الصمود في قلب وعقل المواطن المصرية مع كل هذا التخاتل عن ابداء موقفهم الواضح تجاه مفاهيم الديموقراطية والدولة الحديثة وحقوق المرأة وطبيعة المجتمع المدني الذين ينادون به.والرهان على استمرار الدعم الغربي المرتبط برؤية خاصة للرئيس الامريكي قد لا تصمد لاربعة سنوات قادمة..
ان هذه المعطيات قد تكون هي التي دفعت بالمؤسسة الدينية الى اصدار "وثيقة الازهر"استباقا لظهور قوى اخرى في المستقبل وتأسيسا لمفهوم الدولة المدنية الحلم والمعبرة عن آمال الشعب المصري وحقه في الحرية والعدالة والمساواة والتمتع بحقوقه السياسية..وقد تكون هذه المعطيات ..وهذا الفهم . وهذا الايمان بانها عدة سنوات اخرى من التجارب الضائعة من عمر المشروع الوطني..وربما عوامل اخرى كذلك..هي ما دفعت فضيلة الشيخ الى الابتعاد عن ما قد تأتي به الراهن من الايام ومكابدة الوقوف مع الشعب في الطابور ..
التعليقات (0)