أن تكون باحثا وقبطيا وقريبا من الحركة الإسلامية، فهذا وقوف في مربع ساخن، وفي منطقة ملتبسة، يرفض البعض أن يراك فيها.
ففي كل لحظة تاريخية هناك مساحات من المناطق المغلقة، والتي لا يريد البعض أن تقتحم. فهناك مساحات محظورة تحافظ على بقاء الأوضاع الراهنة، وتستخدم لتحقيق مصالح سياسية، واقتحام تلك المساحات يسبب قلقا للبعض، فيحاول منع أي أحد من اقتحامها. وبسبب حالة الاحتقان والفرقة التي تعاني منها الأمة، يصبح الخروج على المواقف المألوفة أمرا يزعج البعض، لأنه لا يتطابق مع القوالب السائدة.
فمن يتعامل مع الحركة الإسلامية بنزاهة البحث العلمي الموضوعي، يتجاوز حسابات النظرة السياسية المخاصمة للحركة الإسلامية، والتي تريد ليس فقط رفضها، بل وتشويه صورتها أولا حتى تتمكن من الانتصار عليها، نظرا لما تتمتع به الحركة الإسلامية من تأييد شعبي واضح.
فإذا كنت باحثا وقبطيا، وتريد رصد الصورة الحقيقة للحركة الإسلامية، تصبح كمن يتجاوز كل المحظورات، غير عابئ بحسابات السياسة والمصالح.
وإذا كنت باحثا يريد رسم صورة موضوعية عن الحركة الإسلامية، بعيدا عن خلافات الحركات الإسلامية، وبعيدا عن الخلافات داخل الحركة الواحدة، وتريد أن تحافظ على موقع الباحث عن الحقيقة، فأنت كمن يريد البحث في مناطق مختلف عليها، وفيها من الخلاف أو الصراع ما ليس بقليل، ويريد أن يظل طرفا محايدا، وهو أمر لا تقبله بعض الأطراف، والتي تريد تصفية خلافاتها والانتصار لفكرتها، دون تدخل من أحد، ومن يتدخل حتى وإن كان عن غير قصد، يصبح خصما، عليه أن يدفع ثمن إخلاله بميزان المواجهة بين الآراء المختلفة. وكأنه من الممكن أن يكتب الباحث، دون أن يكون لما يكتبه تأثير على الآراء المختلفة، أي أن يكتب دون أن يكون لما يكتبه معنى محدد.
أما إذا كنت تريد معرفة ماهية المشروع الإسلامي، فأنت بين آراء واجتهادات مختلفة، فإذا رأيت تصورا، ستكون كمن يرفض التصور الآخر. وتصبح المشكلة في معرفة ما هو المشروع الإسلامي، ولا يبقى إلا أن تنحاز لفريق ضد آخر، وتدخل في المعارك بين الاتجاهات المختلفة، ويصبح عليك دفع ثمن تلك الخلافات. فمن يريد أن يتعرف على أسس المشروع الإسلامي المجمع عليها، كمن يريد أن يكون حكما بين المختلفين، فتصل له نيران تلك الخلافات.
وإذا اقتربت من فصيل إسلامي، ثم اقتربت من فصيل آخر، فأنت كمن يؤيد فريق على آخر، ثم يغير موقفه. وإذا كانت رؤيتك تصب في مصلحة رؤية داخل الحركة الإسلامية، فأنت كمن يحارب أصحاب الرؤى الأخرى.
وإذا أردت معرفة ورصد حالة الحركة الإسلامية، فستجد نفسك مرة أخرى بين من يختلفون على توصيف تلك الحالة. وتصبح كمن انحاز لطرف لصالح الآخر، لذا يجوز في حقك نفس الاتهامات التي يكيلها طرف لآخر، وكأنك كنت جزأ من المشكلة وتاريخها، رغم أنك لم تكن طرفا فيها.
فإذا كنت قبطيا في لحظة ترفض فيها الجماعة القبطية الهوية الإسلامية جملة، وليس فقط المشروع الإسلامي، فيصبح موقفك أصعب. لأن مخالفة الجماعة التي تنتمي لها له ثمن، والثمن يأتيك من الجماعة ومن كنيستها.
وليس من حقك أن تقول أنه علينا النظر في الاحتمالات الأخرى، أو التفكير بصورة مختلفة. أما إذا أردت هدم الفجوة بين الجماعة المسيحية والمشروع الإسلامي، ونحن في زمن الفتنة، فتكون كمن تجاوز كل الخطوط الحمراء، وتجرأ على حسابات النظام الحاكم والدول الغربية الداعمة له، وتجرأت أيضا على حسابات التحالف بين الدولة والكنيسة، وحسابات النخب العلمانية التي تستقطب الأقباط، وتجرأت أخيرا، على حالة الرفض المنتشرة بين صفوف الجماعة المسيحية للمشروع الإسلامي.
فإذا أردت بعد كل هذا أن تبقى باحثا وقبطيا، وقريبا من الحركة الإسلامية، يصبح عليك أن تدفع ثمن إصرارك على السير في عكس الاتجاه، ودفع غرامة مخالفة قواعد اللعبة، والتغاضي على قواعد الصراع الحاكمة للمنطقة العربية والإسلامية، والحاكمة للأوضاع في مصر.
وتلك مجازفة كبرى، ثمنها كبير، ويأتيك من كل اتجاه، من الجماعة المسيحية أو من الكنيسة، كما يأتيك من النخب الحاكمة أو النخب العلمانية، ويأتيك أيضا من داخل الحركة الإسلامية نفسها، والتي قد يرى بعض المنتمين لها أنك تقف في موضع ليس مألوفا، وكل ما هو ليس مألوفا، فهو يثير الريبة. فماذا يدفعك بعد ذلك أن تكون قبطيا وباحثا وقريبا من الحركة الإسلامية، هل هو حب المغامرة والمخاطرة، أم البعد عن المألوف؟ وكأنه لا يوجد احتمال آخر، بأن تكون باحثا عن مستقبل أمة تعيش في خطر.
إن ما كان في الماضي من توافق حول المرجعية والهوية، لم يعد موجودا على الأرض الآن، فكان من السهل على القيادي القبطي البارز مكرم عبيد، أن يقول أنه مسيحي دينا ومسلم حضارة، ولكن هذا القول لم يعد يجرؤ عليه أحد، وإلا ناله الهجوم من كل جانب. فسوف يأتيه الهجوم من الجماعة المسيحية، والتي ترى في ما يقول خروجا على الهوية المسيحية، والهوية المصرية الخالصة. وسوف يأتيه الهجوم أيضا من طرف إسلامي، لا يفهم لماذا يكون موقفه مختلفا عن غيره من أبناء جماعته المسيحية.
وتصبح المشكلة في كيفية بناء جسر بين الجماعة المسيحية والحركة الإسلامية، فأي حركة إسلامية وأي بديل إسلامي، وما هو المعيار الذي يمكن القبطي من فهم الاختلافات بين الحركات الإسلامية، ومعرفة مواقفها. فإذا كان هدفك هو بناء جسر من التفاهم والفهم بين الجماعة المسيحية، والتيار السائد في المشروع الإسلامي، فقد أوقعت نفسك في مشكلة أكبر.
فأنت كمن ينحاز لفريق ويعتبره تيارا سائدا داخل الفكرة الإسلامية، وهو بهذا يقلل من شأن الفرق الأخرى، حتى وإن لم يقصد. فإذا كان التنافس قد أنحصر في بعض الحالات حول من هو الأحدث والأكثر تطورا، فلن يقبل منك أن تدخل في تلك المعركة التنافسية، ولن يقبل البعض إلا أن تكون معه، أو تكون خصما للرؤية الإسلامية الحديثة التي يمثلها. وإذا كانت رؤيتك تتوافق مع رؤى توصف بالتشدد، ستصبح متشددا. وإذا جاءت رؤيتك متوافقة مع الرؤى التي توصف بالمهادنة، فسوف تكون متآمرا على الحركة الإسلامية.
والحقيقة أنك في كل الحالات ستكون متآمرا، لأن حالة الخلاف الحادثة داخل الساحة الإسلامية، جعلت التهم تلقى يمينا ويسارا، ولا يمكن لأحد، خاصة إذا كان باحثا وقبطيا، أن يظن أنه بمنأى عن تلك المعركة، أو يمكن أن يترك لحاله، على أساس أنه ليس طرفا في خلافات الحركات، أو خلافات التنظيم. فلا يقبل بحال أن تكون تصوراتك تفيد طرف أو تتوافق مع تصوراته، دون أن تكون خصما لخصومه.
وتصبح مشكلة من يبحث عن أسس الفكرة الحضارية الإسلامية، ويريد أن لا يكون طرفا بين الخصوم الإسلاميين، أنه كمن يريد أن يؤثر على حسابات خلافات الفصائل، ولا يتأثر بما فعل.
فهل هي جريمة إذن؟ أن تكون باحثا وقبطيا، ومناصرا للحركة الإسلامية؟
فلماذا تقدم على هذه الجريمة، إن كانت جريمة؟
ولماذا تقدم على هذه المخاطرة، إن كانت مخاطرة؟
وهل هناك ضرورة لذلك، رغم ارتفاع التكلفة والضريبة، وهناك سبل لها عائد وبدون تكلفة؟
تلك هي الأسئلة المحورية التي توجه لقلم باحث قبطي، وهو كاتب هذه السطور، وتفتح ملفا كنت أظنه لن يفتح إلا في نهاية المشوار، ولكنها الأقدار إذن.
دكتور/ رفيق حبيب
التعليقات (0)