معنى الصيام الشرعي:
لقد جعل الإسلام التعبد لله تعالى، هو أول ما يطالب به المسلم، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، وكان أول نداء في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
وكانت أركان الإسلام، ومبانيه العظام، تتمثل في عبادات لله تعالى، هي - بعد الشهادتين -: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام.
ونوَّع الإسلام في عباداته التي شرعها، فمنها: ما يتمثل في الفعل، كالصلاة والزكاة والحج.
ومنها: ما يتمثل في الترك والكف، وهو الصيام.
ومن هنا يمكن أن نُعرف الصيام بأنه: كف وحرمان وترك بنية التقرب لله تعالى. قال تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فهذه الآية بينت حقيقة الصيام المأمور به، وبينت مدته أيضا، فأباحت المباشرة بين الرجال والنساء، أي الأزواج والزوجات، كما أباحت الأكل والشرب كذلك طوال الليل، حتى يتبين الفجر، ثم أمرت بإتمام الصيام من الفجر إلى الليل، ويدخل الليل بغروب الشمس.
فالصيام إذا: إمساك وترك للطعام والشراب والشهوة، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس تعبدًا لله تعالى.
الحكمة من الصوم:
لم يُشَرِّع الإسلام شيئًا إلا لحكمة، عَلِمَها مَن عَلِمَها، وجهلها من جهلها، والحكمة في الطاعة عائدة إلى مصلحة المكلَّفين أنفسهم، فالله عز وجل غني عن العالمين، وعباده جميعًا هم الفقراء إليه، فهو سبحانه لا تنفعه طاعة، كما لا تضره معصية.
وفي الصيام حِكَم ومصالح كثيرة أشارت إليها نصوص الشرع ذاتها، منها:
1- قوله تعالى في الحديث القدسي: "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، فهذا دليل على أن المؤمن يتخلى عن شهواته، وعن لذيذ طعامه، وشرابه، ويتحمل ألم الجوع، ومرارة الحرمان، من أجل الله وحده، وهذا يعني أن هذه العبادة تعمل على تزكية النفس بطاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر، فهو يحرم نفسه من شهواتها، ويحررها من مألوفاتها، كل ذلك لله وحده.. وتزكية النفس مصلحة عظيمة، وحكمة جليلة، بها يتحصل الإنسان الفلاح في الحياتين، والسعادة في الدارين، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}، وقال:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}.
2- قوله صلى الله عليه وسلم: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه"، وفرحة الصائم اليومية، تكون بسبب ما وفقه الله له من إتمام صيام يوم كامل، حيث علا على جانبه المادي (الطيني) والحمأ المسنون، وارتفع بجانبه الروحي. والاتفاع بالجانب الروحي على الجانب الطيني، مصلحة عظيمة أيضًا، وحكمة جليلة، يتحصل عليها الإنسان من الصوم، وبذلك يكون الصوم انتصارا للروح على المادة، وللعقل على الشهوة.
3- قوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء"، فللصوم تأثيره في كسر الشهوة الجنسية، التي تعد أعتى الشهوات في الإنسان، بل قال بعض علماء النفس: أنها هي المحرك الأساسي لكل سلوك بشري.
4- ما ورد عن شهر رمضان: "وهو شهر المواساة" وإن كان الحديث ضعيفًا، فالصيام يفرض على المؤمن جوعا إجباريًّا، وربما كان غنيًّا واجدًا موسرًا، يستطيع أن يدفع آلام الجوع عن نفسه، لكن في ذلك لا شك مصلحة عظمى، وهي الإحساس بالمحرومين والفقراء غير الواجدين، الذين يعانون آلام الجوع هذه طوال العام أو ايامًا كثيرة في العام، وورد عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: (كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة)، فالصوم يوجد بذلك نوعا من المساواة بين الأغنياء والفقراء، والواجدين والمحرومين، والموسرين والمعسرين، ليشعر أولئك بآلام هؤلاء، وكما قال ابن القيم رحمه الله: (... ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين).
5- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، والتقوى هي الحكمة الجامعة، وكل ما سبق مبني عليه، فلا يدركه إلا المتقون، بل إنها المصلحة المقصودة من جميع العبادات، وكان أول نداء في القرآن للناس جميعا بالعبادة، التي تؤدي إلى التقوى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. وتعد الوصية بالتقوى أم الوصايا، وهي وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}، ولما طلب أحدهم النصيحة من شيخ، وقال له: أوصني وأوجز. قال: عليك بآخر سورة النحل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.
والصيام له أكبر الأثر في الرقي بالإنسان في منازل المتقين، ولهذا قال ابن القيم: (وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وَحِمْيَتِهَا عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها، أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ})اهـ
التعليقات (0)