مواضيع اليوم

معضلة لون السوداني الأسود

معضلة لون السوداني الأسود
في علاقته بمحيطه العربي الأسمر

(حلقة 1)
 

يشتكي أطفال السوداني من اللذين ولدوا في الدول العربية الأخرى سواء في مصر أو شبه الجزيرة العربية أو الشام ونشأوا وسط مجتمعاتها بسبب تواجد أسرهم في تلك الدول التي هاجروا إليها بهدف البحث عن فرص افضل للعمل وكسب العيش .... يشتكي هؤلاء من أنهم وخلال فترة التحاقهم بالمدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية في بلاد الاغتراب العربي المشار إليها أعلاه فإنه يجري نعتهم على ألسنة أقرانهم وزملائهم العرب في الحي والمدرسة بالعبيد والسخرية من لونهم الأسود في الأغلب الأعم. ولا يخفي هؤلاء الأطفال بالطبع ضيقهم وتبرمهم من هذا الفرز العنصري (وإن كان نظرياً وعلى سبيل التهكم ليس إلاّ) بسبب ألوانهم على نحو بات فيه معظم من يعود للسودان منهم للإلتحاق بالتعليم الجامعي يرفض العودة مرة أخرى للالتحاق بذويه خارج السودان مفضلا الاستقرار في السودان والعمل به حيث يجد بالطبع نفسه ويتشبع لديه الإحساس بالمواطنة وأنه شخص طبيعي بلونه وملامحه وسحناته ولهجته وسط شعب بلده.
حتى الكبار من طلاب الجامعة الذين كانوا فيما مضى يشدون الرحال إلى مصر من أجل الالتحاق بجامعاتها ومعاهدها العليا حتى أواخر سنوات السبعينيات من القرن الماضي حيث لم يكن التعليم العالي منتشرا ومتوفرا على النحو الذي هو عليه حاليا في السودان ...... حتى هؤلاء لم ينج معظمهم من نعت البعض لهم بسواد بشرتهم عند حدوث مشاجرة ووصفهم بأبناء السوداء. وكذلك تبخيس أقدارهم وقدراتهم ومواهبهم على حد سواء. على الرغم من أن بعضهم كان حجة في اللغة العربية والآخر من كبار الشعراء والكتاب والأدباء والحركيين السياسيين والعقائديين.

بروفيسور عبد الله الطيب

ومن بين ما تحفظه الذاكرة السودانية أنه حين دعي السودان للمشاركة في أول مؤتمر لمجمع اللغة العربية بالقاهرة أرسلت الحكومة السودانية البروفيسور عبد الله الطيب أستاذ اللغة العربية بجامعة الخرطوم لتمثيل السودان وحين جاء دوره للتحدث بإسم السودان توجه نحو المنصة وهو يرتدي الجلباب السوداني والعمامة والقفطان وكان صغيرا آنذاك في نهاية العشرينات من عمره وضعيف البنية فلم يتمالك الحضور من جهابزة اللغة العربية وأساتذة الجامعات من أعضاء الوفود الأخرى من الضحك عليه وعلى منظره .. لم يأبه البروفيسور عبد الله الطيب واعتلى المنصة ثم بدأ يتحدث مرتجلا برصانة عربية أجبرت الجميع على الصمت . ومنهم من لم يسعفه رصيده اللغوي على إدراك واستيعاب وفهم معنى بعض ما ينطلق به عبد الله الطيب من كلمات عربية فصحى .. وعند ذلك وحين خيم الذهول على الرؤوس. إذا بالدكتور طه حسين رئيس المؤتمر يتوجه بحديثه إلى عبد الله الطيب قائلا له:
- أرجو من البروفيسور عبد الله الطيب أن يتواضع فينزل في حديثه إلى مستوى الحضور حتى يستوعبوا ما يقول.
كان الدكتور طه حسين يريد بالطبع أن يلقن أولئك الذين سخروا في البداية .. كان يريد تلقينهم درساً لا ينسونه أبداً.
ومنذ تلك الحادثة عرف من كان يضحك ويسخر مقدار وحجم البروفيسور عبد الله الطيب على الرغم من صغر سنه مقارنة بهم. حيث لم يكن يتعدي عمره 28 سنة . وأدركوا أيضا أن معلوماتهم العامة عن السودان وعروبته ومواطنيه من العرب إنما كانت مغلوطة بسبب أنهم استقوها من بعض الأفلام المصرية وقتها والتي قدمت السوداني على اعتبار أنه بواب وبربري لا يجيد التحدث باللغة العربية.
ولد البروفيسور بقرية قرب مدينة الدامر بشمالي السودان في يونيو 1921 ونال دبلوم الآداب من كلية غوردون التذكارية بالخرطوم عام 1942 ثم البكالوريوس من جامعة لندن، ثم نال الدكتوراه في الدراسات الشرقية من جامعة لندن عام 1949.
عمل البروفيسور عبد الله الطيب أستاذا بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ثم عميدا للكلية ثم مديرا للجامعة . ثم وعين بالجامعة أستاذا مدى الحياة عام 1979 . وهو المؤسس وأول مدير لجامعة جوبا عام 1975.

  
الملك الراحل الحسن الثاني

وفي خارج السودان عمل رحمه الله (توفي في يونيو 2003م) عميدا لكلية اللغة العربية بجامعة أحمدو بيلو بنيجيريا عام 1964 وأسس هناك كلية باييرو بمدينة كانو التي صارت فيما بعد جامعة كاملة وعمل أستاذا للغة العربية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس بالمغرب وأستاذا بجامعة الدار البيضاء عام 1978. وقد استقبله جلالة الملك الراحل الحسن الثاني في قصره عدة مرات لإلقاء محاضرات عن اللغة العربية وتاريخ العرب والإسلام وكان يتواضع له لغزارة علمه فيجلسه على كرسي جلوس فاخر ويجلس جلالته رحمه الله وحاشيته ومستشاريه في مواجهته ومن حوله فوق السجاد على الأرض تكريما للعلم والعلماء.
إلى جانب ذلك كان البروفيسور عبد الله الطيب الفقيد عضوا بعدد من مجامع اللغة العربية والمؤسسات الأدبية أبرزها مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وهو أول رئيس لمجمع اللغة العربية بالخرطوم. وقدم الطيب خمسة آلاف حلقة إذاعية بعنوان دراسات في القرآن الكريم أكمل فيها تفسير القرآن الكريم.
..................

عبد الخالق محجوب

ومن ضمن النوادر التي حكاها الأستاذ عبد الخالق محجوب (أعدمه الرئيس السابق جعفر نميري يوم 28 يوليو عام 1971م شنقا إثر فشل محاولة انقلابية قادها الحزب الشيوعي ضده). وعبد الخالق محجوب هو أحد مؤسسي وسكرتير الحزب الشيوعي السوداني أكبر وأقوى حزب شيوعي في العالم الثالث حتى مطلع السبيعيات من القرن الماضي قبل تصفيته دمويا من جانب نميري .
وكان عبد الخالق محجوب قد أكمل دراسته الجامعية خلال فترة نهاية عقد الأربيعينات من القرن الماضي متخرجا من كلية الحقوق جامعة القاهرة .. ثم أنه ومجموعة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني التي كانت في مصر وقتها تم القبض عليهم بعد حريق القاهرة الشهير على عهد الملك فاروق بواسطة البوليس السياسي المصري للاشتباه بتورطهم في أنشطة وعلاقات حركية مع حزب حدتو الماركسي المصري والسفارة السوفييتة. وحين تم تقديمهم إلى القاضي نظر إليهم بإستغراب وسألهم قائلا:

- إنتم من فين؟؟

يقول عبد الخالق محجوب أنه كان وزملاؤه السودانيين في اللجنة المركزية من طلاب كلية الحقوق والطب والهندسة بجامعة القاهرة يدركون سلفا نظرة المصري الإنطباعية نحو السوداني بوجه عام . ولأجل ذلك قرروا الاستفادة إلى أقصى حد ممكن من هذه الثغرة وبالتالي تم الاتفاق على ان يترك لعبد الخالق محجوب مهمة الرد وحده على أسئلة القاضي. فتقدم عبد الخالق نحو المنصة وهو يدعي العبط والهبل ممثلا دور (البربري) و (عثمانة البوّاب) بإتقان ورد على سؤال رئيس المحكمة قائلا:-

- يا زوووله ..... كيفك إنتي إنشاء الله طيبة نهنا جيناكم من الحصاحيصا حالبين بقر أم روابة وماكلين البفرة وأشواك توكر واتبرا وسنكات وبربر نشوف الحلا ونبيع الطلح والشاف والحرجل والعرديب والمحريب والجلد . طواقينا وعراريقنا مقدقدات .. يا زولة إنتي الناس ما هكوا ليكي شِنْ شافوا وشِنّ الحصل؟

فقاطعه القاضي والدهشة ترتسم على وجهه ؟؟
- أنت بتقول إيه ؟؟؟؟ ... ما بتعرفوش تتكلموا عربي ؟؟؟

ثم التفت إلى ممثل الإدعاء وضباط القلم السياسي المرافقين للمعتقلين منتهرا وصارخا في وجوههم:

- إيه اللي إنتوا هببتوه دا ؟؟؟ دول شوية برابرة ما يفهموش حتى يتكلموا عربي .. جايبنهم بتهمة اعتناق الماركسة وتنظيم حزب شيوعي في مصر ؟؟؟ ..... إنتم مجانين ؟؟؟ يبقى خلوا بالكم من شغلكم المرة الجاية وماتضيعوش وقت المحكمة في كلام فاضي ..... ثم اصدر القاضي قراره الحازم بشطب الدعوى وإطلاق سراح (البرابرة) و (البوابين) الذين لا يفقهون شيئا.
وبالطبع لم ينتظر عبد الخالق ومجموعته في القاهرة بعدها. وغادروا إلى السودان عبر القطار من فورهم وهم لا يصدقون بالنجاة.

...................................

  

                 أيّ ذنبٍ جنيتُ فانْدَلعَـت ثورةٌ منكِ خانها الجَــلَدُ ؟؟

ومن ضمن ما جرى لشاعرنا السوداني العريق الأستاذ الطيب محمد سعيد العباسي ؛ أنه وخلال فترة دراسته في جامعة القاهرةمنتصف القرن العشرين صادف في طريقه إلى الجامعة فتاة مصرية بيضاء تضع على كتفيها الفراء وعلى صدرها الصليب فأعجب بها وأرسل لها قبلة على الهواء فانتهرته بشدة قائلة له:
- إخرس يا إسود يا بربري .. مد رجليك على قدر لحافك.

وقد استدرك الشاعر العباسي لاحقا خلال سهرة تلفزيونية أنه فوجيء بعد ذلك أن هذه الفتاة زميلة له في الجامعة بعد أن شاهدها في الكافتيريا وأنه حين سأل عنها عرف أنها ليست عربية الأصل وإنما من بقايا الأرمن.
ومما زاد الطين بلة وجعله يسخر من نفسه أنه وبعد أن كتب القصيدة قدمها إليها لتقرأها وكانت المفاجأة أنها لا تدرك معانيها بسبب جهلها باسس وقواعد اللغة العربية التي تؤهلها لقراءة وفهم وتذوق الشعر العربي الفصيح...
أما القصيدة التي جادت بها قريحة الشاعر الطيب العباسي فقد جاءت كلماتها على النحو الآتي:

[ ذات الفــــراء ]

يا فتاتي ... ما للهَوى بَلَدُ .....  كُلُّ قّلبٍ في الحُب يَبْتَـردُ
وأنَا مَا خُلِقتَ فـي وَطَـنٍ .....    الهَوى في حِمَاهُ مُضطهَـدُ
فلـمَـاذا أرَاكِ ثَـائِــرةً .....      وَعَلاَمَ السِّبَـابُ يضطـرِدُ
والفراءُ الثميـن منتفـضٌ .....    كفؤادٍ يشقى بـه الجَسَـدُ
ألأنَّ السَّـوَاد يغْمُـرنـي ..... ليس ليفيه يا فتـاةُ يـدُ
أغريبٌ؟ .. أن تعْلَمي .....      فأنا لي دِيَارٌ فيحا ولـي بلـدُ
كَمْ تَغنيـتُ بَيـنَ أرْبُعِـه ..... لِحبيبٍ فـي ثغـرِه رَغَـدُ
وَلكـمْ زَارنـيوطَوَّقنـي ..... بذراعيـهِ فَاتـنٌ غَــرِدُ
أيَّ ذَنبِ جَنيـتُ فانْدَلَعـت ..... ثورة مِنك خَانهـا الجَلَـدُ
أو ذنبي في قبلةٍ خطَـرت ..... مَع نَسيـمٍ إليـك يَتئـدُ؟
ألِهذا فالنهْـدُ مُضَّطـربٌ؟ ..... ولهـذا العيـون تَتـقِـدُ؟
ولماذا هذا الصليبُ تُـرَى ..... بينَ نهْدَيـك راح يرْتَعِـدُ؟
خبريني ذات الفراء ..... فقـد جَفَّ جناني وأحْدَبَ الرَّشَدُ
أيَمـرّ النُميـر بـي ألِقـاً ..... وأنـا ظـامـئٌ ولا أرِدُ؟
أو غيري هـواكِ ينهبُـه ..... وفؤادي لدَيْـكِ مُضطهـد؟
أليَّ الهَجْر والقِلـى أبـداً ..... ولغيري الشفاهُ والجسَـدُ؟
لي كغيري يا زهرتي أمَـلٌ ..... وفؤاد يهوى ولـي كَبِـدُ
لي بدنيايَ مثلمـا لهم ..... ولِي مَاضٍ وَحَاضِـرٌ وغَـدُ
فالوداعَ الـوداعَ قاتلتـي ..... هَا أنا عن حِمـاكِ أبتعـدُ
سَوفَ تنأى خُطايَ عن بَلَدٍ .....حَجَرُقلبُ حوائـه صَلِـدُ
وسَأطوي الجراحَ فِي كبدي .....غَائراتٍ مَـا لهـاعَـ
دَدُ

وقد وجدت هذه القصيدة طريقها فيما بعد إلى التلحين والغناء على يد مطرب سوداني هو الطيب عبد الله. بعنوان (يا فتاتي) .... وقد تم ذلك في خلال فترة الستينيات من القرن الماضي وقد شكلت هذه الأغنية للأسف مزيدا من الضغوط على دعاة الوحدة مع مصر وكذلك القوميين العرب وزادت من أسهم دعاة الأفــرقــة ولا تزال هذه الأغنية تردد في السودان سواء عبر محطات وقنوات أجهزة الإعلام الحكومي الرسمي أو الخاص وتفهم على هذا النحو العنصري على الرغم من أن كاتبها الشاعر الطيب العباسي نفي لاحقا أن تكون هذه الفتاة مصرية عربية وأفاد أنه أدرك بعد كتابتها فقط أنها من بقايا الأرمن في مصر الذين ذهبت هيبتهم بعد ثورة 23 يوليو وتحول مصر إلى مسار القومية العربية.

  

يا فتاتي ... ما للهَوىَ بَـلَـــدُ

وعلى الرغم مما شهدته العلاقات الاجتماعية بين أبناء السودان خلال الفترة الأخيرة من انفتاح مع العديد من الشعوب العربية الأخرى لاسيما في لبنان ومصر وتونس والجزائر والمغرب وتكررت العديد من الزيجات الناجحة بين الشباب منذ نهاية القرن الماضي لاسيما أولئك الشباب الذين نشأوا في بلاد الإغتراب والمهجر ؛ إلا أن المشاعر داخل السودان لا تزال متأججة وهي تسمع أو تردد هذه الأغنية التي حفرت طريقها بعمق في داخل العقلية والشعور الإنساني لدى المواطن السوداني ...... وبرغم استدراكات شاعرها الأستاذ الطيب العباسي إلا أنه وكما يقال فإن الكلمة تظل ملك صاحبها طالما لم ينطق بها ... فإن نطق بها أصبح لا يمتلكها.

بقلم : مصعب الهلالي

8 أغسطس 2009م

(يتبع حلقة رقم 2)




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات