معضلة لون السوداني الأسود
في علاقته بمحيطه العربي الأسمر
حلقة (2)
طفل عربي سوداني من الشمال .. لا تبدو قسماته مختلفة عن بقية الأطفال في اليمن وعمان والحجاز .. ولكن وكما يقال : الصيت ولا الغنى
على العكس من جميع الدول العربية الأخرى فإن نسبة العرب كعرقية في السودان لا تتجاوز ألـ 40% ويتشكل المكون الآخر للمواطن السوداني من عرقيات زنجية وحامية متعددة لكنها تبقى على الرغم من ذلك فسيفساء لا تجمع بينها روابط وحيث لا توجد مجموعة من هذه العرقيات الغير عربية تشكل وحدها كتلة تصل إلى نسبة الكتلة العربية من الكل السوداني ...
إن الذي حفظ للعرب في السودان السيطرة والهيمنة السياسية والثقافية إنما يتلخص في سببين رئيسيين:
1) أن القبائل العربية السودانية موحدة فيما بينها بسبب اللغة والديانة والمصاهرة على العكس من القبائل الغير عربية الأخرى التي لا تجمع بينها روابط لغوية ودينية واحدة على الأقل.
2) التمازج الثقافي والديني الذي تم بين العربي السوداني ورصيفه غير العربي داخل السودان . ذلك أن معظم الكتلة السودانية الغير عربية تدين في عقيدتها بالديانة الإسلامية وبالتالي اتخذت اللغة العربية ثقافة لها بمحض إرادتها وإختيارها دون أن يقسرها أحد على ذلك تماما كدخولهم الإسلام الذي كان عن طريق (القدوة الحسنة) عبر اختلاط زعماء قبائلهم وأجدادهم فيما مضى بالتجار العرب المسلمين فكانت لأمانة هؤلاء وحسن تعاملهم وتمسكهم بأداء شعائرهم الدينية من صلاة وزكاة وصيام وكذلك ترفعهم عن الزنا وشرب الخمر والتزامهم بنحو عام بما أمر به الله واجتنابهم لنواهيه الأثر الكبير في التأسي يهم .... ثم كان هناك العديد من أولياء الله الصالحين من المسلمين والصحابة العرب الذين دخلوا السودان ونشروا الديانة الإسلامية وتعاليمها وصبروا على ذلك فكان لحسن أخلاقهم وبعض المعجزات التي أجراها الله عز وجل على ايديهم من شفاء للمرضى وتحسين لطرق الزراعة وتربية الثروة الحيوانية من أبقار وإبل وماعز .. إلخ الأثر الكبير في دخول معظم سكان السودان من غير العرب في الإسلام لأنهم وجدوا فيه دينا تتقبله الفطرة السوية كونه ملتصقا بحياة الفرد وحلا للعديد من مشاكلهم التي كانوا يعانون منها.
شاب سوداني عربي من أبناء الشمال ...... أو كما يطلق عليهم (أولاد البلد)
كان لابد أن يسفر الاختلاط والتعايش السلمي وتبادل المصالح والمنافع وعقد التحافات السياسية والعسكرية بين العرب وغيرهم في السودان عن تزاوج ومصاهرة فالإنسان كما يقال مخلوق اجتماعي لابد له من أن يتأثر بمن حوله ويندمج بهم في كل الأحوال ... ولأجل ذلك فإن المشاهد أن السوداني العربي قد تبنى لاحقا واحتفي بحرارة وصدق بكافة الأطروحات الثقافية الأخرى الغير عربية الأصل في السودان وشيئا فشيئا مزج بينها وبين موروثه وقناعاته الثقافية وحتى العقائدية فخرج من رحم هذا التبني ما يمكن وصفه بثقافة سودانية عربية فريدة من نوعها لم تتاح الفرصة بعد للعرب خارج السودان من اكتشافها ودراستها . وحيث كان البعض في السودان ولا يزال يلقي باللوم في ذلك على ضعف أجهزة الإعلام السودانية .. ولكن ربما تساهم الفضائيات وثورة المعلوماتية نوعا ما في طرح ما يمكن أن يلفت نظر الغير من العرب إلى كنوز السودان الثقافية وتفردها... ولكن المسألة تحتاج إلى كثير من الوقت .. وبعض الإهتمام ضروري حتما.
شابة سودانية عربية من الشمال ..... أو كما يطلق عليهن (بنات البلد)
إذن يعيش الفرد السوداني العربي حالة فريدة من نوعها في محيطيه العربي من جهة والأفريقي من جهة أخرى .. فهو في كلا الجانبين يكاد يكون نسيج وحده بدون منازع.
عجوز سودانية عربية من الشمال
وربما يحتج البعض أن هذا التفرد الحصري للسوداني العربي ينافسه فيه أيضا المواطن الموريتاني والصومالي والجيبوتي وفي جزر القمر بوصفهم أعضاء شرف في الثقافة والجامعة العربية وفي خانة لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك من واقع الغياب التام لهؤلاء الأربعة في مجال الساحة الثقافية العربية والسياسية على حد سواء .
وجه عربي حامي خليط من شرق السودان (قبيلة البجا) هاجر أجداده إلى السودان بعد انهيار سد مارب ثم اختلطوا بشعب أكسوم في الحبشة وحين جاءهم الإسلام وجدهم عاكفين على عبادة ذي الخلصة وهبل واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى كما عهدوها في الجزيرة العربية
ولا تبدو مشكلة اللون معضلة للسوداني العربي في محيطه العربي بل تشكل له أيضا سبب لفرز نوعي في محيطه الأفريقي وعلى نحو يجعله حائرا بين العربي الأسمر والأفريقي الزنجي الأسود ......
أسرة جنوبية أمام مسكنها في جنوب السودان
وبالطبع فإن السوداني العربي أو ما يطلق عليه مصطلح (الشمالي) إنما هو خليط من أب عربي وأم نوبية في الأغلب الأعم ؛ وذلك إلى جانب أمهات زنجيات هنا وهناك. وحيث كانت هجرة العرب الرئيسية إلى السودان بعد انتشار الإسلام وفتح مصر قد جاءت على حساب ممالك نوبية يمتد تواجدها السكاني الحيوي من مدينة الأقصر جنوب مصر إلى منطقة سوبا جنوب الخرطوم حاليا ..
فتاة جنوبية (من ضحايا التمرد) تكدح من أجل إعداد طعام أسرتها في الجنوب
فتيات جنوبيات (لاجئات في الولايات المتحدة) .. يبدو الوضع أفضل والشفافية أوضح والجسد لامع وأنعم في غياب الضنك والجلد بالكرباج الذي بات تهديدا ملازما يؤرق مضجع المرأة السودانية حاليا.
في عام 652م أبرم القائد العسكري ووالي مصر (القرشي) عبد الله بن ابي السرح في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه .. ابرم مع ملوك وقبائل الشعب النوبي في شمال السودان ما عرف تاريخيا بإتفاقية (البقط) التي كان لها الدور المفصلي الحاسم في تغيير التركيبة السكانية والدينية لشمال ووسط وشرق وغرب السودان حيث دخلت مجموعات كبيرة من قبائل عربية بثرواتها وأنعامها وأسلحتها إلى عمق السودان وشيئا فشيئا دخل معظم قبائل تلك الجهات وأهمها قبائل النوبة في الإسلام وتزاوجوا مع العرب.
منطقة مما لك النوبة القديمة ما بين مدينة الأقصر شمالا ومدينة الخرطوم جنوبا حيث توضح الخريطة أهم مدنها وهي الأقصر ، أسوان (داخل الحدود المصرية) و وادي حلفا ، دنقلا ، مروي (داخل الحدود السودانية).
وبمرور السنوات اصبح النوبة والعرب الوافدين كتلة واحدة يصعب التفريق بينهم اللهم إلا جزر وتكتلات بشرية هنا وهناك ظلت محتفظة بسماتها الأصلية ولا تزال حتى تاريخه ؛ لكنها رغم ذلك تبنت خلال ذلك الثقافة العربية وتقبلتها من واقع إدخالها لأبنائها في سلك تلقي التعليم النظامي العربي والديني الإسلامي في السودان ومصر على حد سواء.
طقوس فولكلورية خلال حفل زواج نوبي شمال السودان
وبالطبع كان لعرب السودان ملوكا وتجار وافراد اتصالاتهم وتواصلهم الاستراتيجي مع أوطانهم الأصلية سواء فيما يتعلق بتلبية الجوانب الروحية الدينية أو الثقافية وكذلك التعاون في المجال الأمني والاستخباراتي والعسكري الذي يكفل الأمن والأمان لهم داخل السودان في تلك الحقبة الغير مستقرة بالطبع . وامتدت تلك الاتصالات حتى شملت الأندلس من واقع أن مؤسسي مملكة سنار هم في حقيقة الأمر ينحدرون من أصول أموية لجأؤا للسودان من دمشق والجزيرة العربية عبر أثيوبيا بعد زوال الدولة الأموية على يد السفاح .. وكان لها بالطبع امتدادها الأمني والثقافي الاستراتيجي الحيوي المتمثل في مكة المكرمة وصعيد مصر والفسطاط ثم القاهرة والأزهر . وكانت هناك شواهد مادية موثقة لهذا التعاون الاستخباراتي بين دولة الفونج العربية في وسط السودان وبين مصر فيما يخص بأطماع فرنسا في شرق السودان وإجهاض تحالفها مع أثيوبيا والذي أدى إلى نشوب حرب ضروس بين البلدين انتهت بانتصار ساحق لدولة الفونج العربية في السودان. وبذلك لم تعد فرنسا تفكر في الشأن السوداني على الأقل من نواحيه الشرقية ..... ثم حاولت عام 1898م تقريبا الدخول عبر جنوبه ففشلت .... ونراها الآن عقب عام 2008م تتلمظ وتمص شفتيها بعهر وشبق فاضح طامعة في الدخول إليه عبر إقليم دارفور في الغرب... فهل يطفيء لها إقليم دارفور شبقها المحموم هذه المرة أم تطاردها لعنة الحرمان من فحولة السودان كما طاردتها في الشرق والجنوب من قبل ؟
فتاة عربية من غرب السودان ... لاحظ انك كلما توغلت داخل السودان من جهة الشرق والشمال كلما ازدادت نسبة الدم الحامي الذي يجري في عروق العرب منهم.
كذلك كان الحال فيما يتعلق بممالك في غرب السودان أهمها مملكة المسبعات ومملكة دارفور الذين كان لهم علاقتهم المماثلة مع العرب والخلافة العثمانية بسبب أن ملوكهم ينحدرون من نسل أمراء عباسيين لجأوا للسودان بعد زوال الدولة العباسية وتزاوجوا من بنات ملوك القبائل الزنجية في المنطقة
............... ولكن ....
هل كان عرب السودان في خضم كل هذا التواصل راضون عن ما يجري أم أنهم كانوا يشتكون الغبن ؟؟؟
أهرامات سودانية من آثار حضارتي نبتة ومروي النوبيتان (4500 ق.م)
في واقع الأمر ومن خلال المنظور السياسي والأمني الاستراتيجي كان اهتمام العرب في (السياق الرسمي) بالسودان ولا يزال ووفقا للحال العربي والضعف السائد .. كان ولا يزال (وسطا) .... كان لمصر اهتمامها الخاص بالسودان لما يربطها به من علاقات إقتصادية واستراتيجية وأمنية وعرقية وثقافية تتمثل في أنهما معا يشكلان امتداد طبيعي وعمق لبعضهما البعض ويمثل نهر النيل شريان الحياة لكليهما بقدر هنا وقدر هناك وكذلك وجود جاليات مشتركة في كلا البلدين وعلاقات ووشائح مصاهرات ونسب نشأت عبر آلاف السنوات خاصة بين أبناء النوبة في شمال السودان وجنوب مصر لكن تظل علاقة النسب والمصاهرة بين العربي السوداني ورصيفه المصري اقل شأنا من مثيلتها في الكتلة النوبية بين البلدين.
الجزء الخاص بمكتب رئيس الجمهورية من مبنى القصر الجمهوري في الخرطوم - المقر الرسمي لرئيس الجمهورية السودانية تم تشييده بداية الربع الثاني من القرن التاسع عشر
وفي المجال السياسي فقد كان للعرب ولا يزال مواقفهم المشرفة في معالجة المشاكل التي يتعرض لها السودان وسعيهم لإيجاد الحلول لها عبر الوسائل الدبلوماسية بقدر الإمكان . وعلى سبيل المثال فقد كان اهتمام مصر وقطر والسعودية وليبيا لإإيجاد حلول لمشكلة دارفور ومأزق الرئيس عمر البشير مع محكمة الجنايات الدولية دلالة واضحة على أن العربي الرسمي لا يدخر وسعا للوقوف إلى حانب العربي السوداني في أزماته السياسية التي تمس جوهر تواجده وقضاياه الحيوية سواء في الداخل أو الخارج.
أغدا ألقاك ؟؟ .. يا خوف فؤادي من غــدِ وإحتراقي في انتظار الموعــدِ
وأما على صعيد العلاقة الاجتماعية وأعني بها علاقات التزاوج والمصاهرة والنسب بين العربي السوداني ورصيفه في شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام (عدا لبنان) فلا توجد علاقة تذكر بسبب النظرة الدونية التي ينظر بها هؤلاء إلى السوداني عربه وعجمه بوصفه (أسود اللون) سواء أكان عربي الأب والثقافة أو زنجي حامي الأصل لا يمت للعروبة بصلة.
التعليقات (0)