تحت هذا العنوان ، نشرت مجلة روز اليوسف المصرية ، وقائع هذه المعركة التي دارت بين الشاعر نزار قباني ، والروائي نجيب محفوظ ، الذي بدأ الجولة الأولى من المعركة ، بالهجوم على المضمون السياسي لقصيدة نزار قباني " المهرولون " ، فدافع الشاعر عن نفسه وشعره وفكره السياسي ، مقارعا خصمه الروائي ، بالأسلحة والذخائر اللفظية المناسبة ، تلميذ " المدرسة الساداتية " ، الموسوم بطفح جلدي اسمه " كامب ديفيد " ..
والمعركة ، بجبهتيها " الساداتية " ، و " الناصرية " ، هي مضمون :
" حوار الأسبوع بين الروائي والشاعر " ..
تضمَّنت الجبهة الأولى : حوارا مع الروائي الكاتب الكبير نجيب محفوظ ، منقولا عن جريدة الحياة اللندنية ، يتحدث فيه عن قصيدة الشاعر نزار قباني التي نشرها قبل ذلك بقليل ، بعنوان (( المهرولون )) ، وذلك بعد توقيع السلطة الفلسطينية ـ وقتذاك ـ اتفاقيات أوسلو مع العدو الصهيوني عام 1995، والتي أدان فيها هرولة وتهافت بعض الأنظمة العربية ، على مفاوضات استسلامية مجانية ومسدودة الأفق ، مع العدو الصهيوني ..
وتضمنت الجبهة الثانية ، ردُّ الشاعر نزار قباني ، على حديث الروائي نجيب محفوظ ..
ويميز فيه ، بين نظرة الشاعر والروائي ، للقصيدة نفسها ، وللشعر العربي عامة ..
والخلط بين " الشعري " و " السياسي " الذي وقع فيه الروائي الكبير ..
كما يميز بين الخطاب الروائي ، والخطاب الشعري ، في تعاطيهما للموضوعات السياسات الساخنة ..
ملاحظة : قصيدة الشاعر نزار قباني " المهرولون " منشورة في نهاية هذا المقال ..
والحواران منقولان عن مجلة روز اليوسف في عددها رقم 3514 ـ تاريخ 16/10/1995 ، تحت عنوان :
حوار الأسبوع
بين الشاعر والروائي
أولا :
الروائي نجيب محفوظ :
وصف نجيب محفوظ قصيدة نزار قباني " المهرولون " ، بأنها قصيدة قوية جدا ، وقنابل تفرقع في عملية السلام ، من دون أن تقدم بديلا عنها ..
وأضاف في تصريح لجريدة الحياة الصادرة في لندن ، بعد أن نشرت القصيدة :
لقد أعجبتني رغم اختلافي السياسي معها .. إنني لا أنفي إعجابي بها ، ومن يشارك نزار قباني موقفه ، سيجد فيها تعبيرا قويا عن هذا الموقف ، لكنه موقف يبدو أضعف من القصيدة بكثير ، قصيدة قوية ، وموقف ضعيف ..
وأبدى محفوظ تقديره لما حوته القصيدة ضمنا ، من نداء للعرب ، بأن يهبوا .. واعتبر ذلك أملا نتطلع إليه جميعا .. لكنه رأى أن هذا لا يكفي من دون طرح بديل لما يجري في عملية السلام ، وأعرب عن عدم اقتناعه بأن يكون البديل هو أن نوقف هذه العملية ، ونقعد ساكتين ، ملاحظا أن نزار قباني لم يقل إنه مع الحرب ، ولم يقدم أي بديل ..
قال : " نعم ، في مثل هذه المواقف ، لا بد أن يقدم البديل .. لا يكفي أن يهاجمهم ، لأنهم يهرولون ويلهثون ، ويقبِّلون حذاءَ القتلة ، ويفرِّطون في كل شيء .. فالأهم هو أن يقول لهم ماذا يفعلون .. وقال : " أعرف هناك منْ يرفضون السلام ، فيما لا ينادون بالحرب ، ولا يقدمون خيارا ثالثا .. فماذا يفعل هؤلاء المتهَمون بأنهم يهرولون ؟؟ هل يجلسون ساكنين بلا فعل ؟؟!! وإذا كان البديل هو الانتظار السلبي ، فإن الطرف الآخر لا ينتظر أحدا ، وإنما يمضي في ابتلاع الأرض ..
وقال : " لا يوجد سلام بغير تفاوض .. وما دام خيار الحرب غير وارد ، فلا مبرر لهذا الهجوم على المفاوضين العرب الواقعيين والعمليين ..
وأضاف : " إنهم يريدون الوصول إلى حل ، ولو كان بإمكانهم الحصول على ما هو أفضل ، مما أتوْا به .. ما كانوا قد فرّطوا، إنهم يفاوضون في ظروف صعبة ، وموقفهم في المفاوضات انعكاس للوضع العربي العام ..
وتمنى نجيب محفوظ لو كان الوضع العربي الراهن أقوى مما هو عليه ، وقال : " في هذه الحالة ، فإن نتائج المفاوضات تختلف .. لكن من أين نأتي بوضع عربي أفضل الآن ؟؟ وليس من مصلحتنا التوقف ..
لأن الطرف الآخر لن ينتظر ، فلسنا في مباراة للكرة ، حتى نحصل على استراحة ثم نعاود اللعب من جديد .. فإذا أخذنا استراحة ، سيباغتنا الطرف الآخر بتسجيل أهداف في مرمانا ..
وذكر نجيب محفوظ بمبادرة الرئيس المصري الراحل " أنور السادات " في آخر عقد السبعينيات ، والتي كان رحّب بها في حينها على رغم رفض معظم المثقفين المصريين والعرب عموما لها ..
وأضاف : " قل في السادات ما شئت ، لكنه أخذ المبادرة واستعاد الأرض المصرية المحتلة ، ورفع علم فلسطين في مواجهة إسرائيل ، وقال للفلسطينيين : تعالوا .. لكن : " ماجوش وما حاربوش " .. وكانت الشروط المطروحة عليهم آنذاك أفضل منها الآن عشر مرات .. فقد قبلت إسرائيل وقتها بالحكم الذاتي ، إلى جانب إعادة سيناء لمصر " ..
لكنه رأى أن هذا لا يبرر الهجوم على القيادة الفلسطينية الآن ، عندما أدركت أنه لا بديل عن التفاوض ، ولا الهجوم على القادة العرب الذين يساندونها ..
وقال : " إنهم يسعوْن لحل المشكلة بقدر ما يستطيعون ، وفي حدود ما تسمح به ظروف الواقع ، ولا جدوى من أن نشبعهم تقريعا ، ونقول لهم أضعتم الحياء .. أضعتم غرناطة وإشبيلية وأنطاكية .. وفرّطتم في كل شيء ..
وأوضح أن هؤلاء الموصوفين بالمهرولين يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه ، لأننا أخصائيون في إضاعة الفرص ..
ومع ذلك كرر محفوظ إعجابه بالقصيدة ، باعتبارها تعبيرا عن موقف صادق يحترمه على الرغم من اختلافه معه ..
وقال : " إن نزار قباني مخلص في موقفه ، ولا يقول هذا الكلام تزييفا .. إنه رأيه ، وهو مقتنع به ، وله كل الحق في ذلك ، وهناك من يؤيدون هذا الرأي في كل البلاد العربية ، ومن يرفضون السلام على طول الخط حتى إذا حققنا منه مكسبا .. وهذا حقهم " ..
ثانيا :
الشاعر نزار قباني :
ـ 1 ـ
الأستاذ نجيب محفوظ ، إنسانٌ رقيقٌ كنسمة الصيف ، وحريريٌّ في صياغة كلماته ، ورسوليٌّ في سلوكه على الورق ، وسلوكه في الحياة .. إنه رجل اللاعنف الذي يمسك العصا من منتصفها .. ولا يسمح لنفسه بأن يجرح حمامة .. أو يدوس على نملة .. أو يغامر .. أو يسافر .. أو يغادر زاويته التاريخية في حي سيدنا الحسين ..
هو رجل السلام والسلامة .. ولا يُعرَف عنه ، أنه تشاجر ذات يوم مع أحد .. أو تعارك مع رجل بوليس .. أو وقف في وجه حاكم .. أو أمير .. أو صاحب سلطة .. إ،ه دائما يلبس قفازات الحرير في خطابه الاجتماعي ، والسياسي ، ويتصرف ( كحكومة الظل ) في النظام البريطاني ..
هذا الموقف السكوني الكلاسيكي ، في طبيعة أستاذنا الكبير ، هو الذي جعله ينتفض كعصفور ، عندما قرأ قصيدتي الأخيرة " المهرولون " ..
فهو لم يتعوّد خلال تاريخه الطويل ، على قراءة القصائد المجنونة التي تفرش عباءتها على الأرض .. وتصرخ كالقطط المتوحشة في ليل الانحطاط العربي .. غير مكترثة بالفضيحة ، وبما يقوله الناس عن ظهورها في الشارع عارية .. أو نصف عارية .
ـ 2 ـ
فليعذرني عميد الرواية العربية ، إذا جرحت عذريته الثقافية ، وكسرت عاداته اليومية ، وقلبت فنجان القهوة عن الطاولة التي يجلس عليها مع أصدقائه ..
فالقصيدة ليس لها عادات يومية تحكمها .. أو نظام روتيني تخضع له ..
إنها امرأة عصبية .. وشرسة .. تقول ما تريده بأظافرها .. وأسنانها .. القصيدة ذئب متحفز ليلا ونهارا .. ومواجهة بالسلاح الأبيض مع كل اللصوص .. والمرتزقة .. وقراصنة السياسة .. وتجار الهيكل ..
ـ 3 ـ
أستاذنا نجيب محفوظ قمة روائية لا يجادل فيها أحد ، لكن نظرته إلى الشعر ، نظرة ساذجة ، وملتبسة ، تحتاج إلى بعض التصحيح ..
ففي تعليقه على قصيدتي ، خلط الروائي الكبير خلطا عجيبا بين الشعري والسياسي ، بين القصيدة وبين الموقف ، فامتدح القصيدة جماليا ، وهجاها أيديولوجيا ..
إنني لا أناقش الأستاذ نجيب محفوظ في عقيدته وقناعاته السياسية ، ولكني أقول له : إن الشعر دولة ليبرالية ، لا سلطان فيها إلا للجمال ، والعدالة ، والحرية .. وليس من وظيفة للشعر سوى أن يكون شعرا .. وأن يكون صادقا مع الناس ، ومع نفسه .. ومع الحقيقة ..
ـ 4 ـ
هذا هو موقف الشعر العربي مما يجري على المسرح العربي ..
فإذا كان الأستاذ نجيب محفوظ يرى موقفي ( ضعيفا ) ، ويطالبني أن أصفق لمسرحية اللامعقول التي يعرضونها علينا بقوة السلاح ، وقوة الدولار ، فإنني أعتذر عن هذه المهمة المستحيلة ..
ربما كنت في قصيدتي حادا ، جارحا ، ومتوحش الكلمات .. وربما جرحت عذرية كاتبنا الكبير ، وكسرت زجاج نفيه الشفافة ..
ولكن ماذا أفعل ، إذا كان قدره أن يكون من ( حزب الحمائم ) .. وقدري أن أكون من ( حزب الصقور ) ؟!
ماذا أفعل إذا كانت الرواية عنده جلسة ثقافية هادئة في ( مقهى الفيشاوي ) .. وكانت القصيدة عندي ، هجمة انتحارية على القبح والانحطاط ، والظلام ، والتلوث السياسي والقومي ؟
ـ 5 ـ
ربما كان الخطاب الروائي يختلف في طبيعته ، وأدواته ، وتقنيته ، عن الخطاب الشعري .. فالروائي يجمع عناصر روايته ، ويرتبها ، ويدرس سيكولوجية أبطاله ، كما يفعل الأكاديميون والباحثون الذين يشتغلون في مختبراتهم بعقل بارد ، دون أن يشعروا بضغط الزمن عليهم ..
أما الشاعر ، فهو يشتغل بمادة سريعة الانفجار ، لا يمكنه أن يؤجل التعامل معها إلى فترات طويلة ، وإلا انفجرت بين يديه .
الشعر ، برق لا عمر له ..
أما الرواية ، فورشة تفتح أبوابها لمدة 24 ساعة ..
ـ 6 ـ
ولأن الشعر يتصرف بطفولة وتلقائية ، لا يمكننا أن نطلب منه أن يكون حكيما ، أو واعظا ، أو خطيبا ، أو معلم مدرسة ..
ليس من وظيفة القصيدة أن تقترح الحلول ، وتجد البدائل ، وتكتب الروشيتات للمرضى والمعاقين ..
والشعراء ليسوا جنرالات .. ولا يعطون التعليمات من غرفة العمليات ، ولا يعلنون الحرب ، ولا يوقفونها ، ولو كان مسموحا للشعراء أن يكونوا في مركز اتخاذ القرار لما امتلأ العالم بالمجازر العرقية والعنصرية ، ولما حوَّلت قنبلة هيروشيما 250 ألف ياباني في ثانية واحدة إلى شوربة بشرية تتبخر ..
ـ 7 ـ
والذي يدعو إلى الدهشة في كلام الأستاذ نجيب محفوظ ، هو مطالبتي بتقديم بديل لعملية السلام المتعثرة ، كأنني السكرتير العام للأمم المتحدة ، أو عضو دائم من أعضاء مجلس الأمن ، أو كأنني المسؤول عن صياغة النظام العالمي الجديد !!
إن مطالبة الشاعر بتقديم البدائل تعطيه سلطة تتجاوز سلطته البشرية ، وتجعله مركزا من مراكز القوى ، وشريكا في اتخاذ القرار السياسي ..
وهذا يدخل في باب المحرمات في أنظمتنا السياسية الأوتوقراطية التي لا مكان فيها للشريك الآخر ، أو للفكر الآخر .. أو للرأي الآخر .
ـ 8 ـ
الشاعر في بلادنا هو ( صفارة إنذار ) تنطلق في ساعات الخطر .. وتطلب من الناس أن ينزلوا إلى الملاجئ .. ويلبسوا الأقنعة الواقية من الخوف .. والقمع .. والديكتاتورية !!
الشاعر في تاريخنا هو ( زرقاء اليمامة ) التي حذرتْ قومَها من الخطر الذي يقترب من خِيامهم ، ولأخبرتهم بتفاصيل رؤيتها ، ولكنهم لم يصدقوها .
ـ 9 ـ
ولو أن الرئيس أنور السادات قرأ قصيدة شاعر مصر الرائي والمستكشف ( أمل دنقل ) (( لا تصالح )) لما دخلنا في ذلك النفق المظلم الذي لا نزال نتخبط فيه إلى اليوم .
لقد قدَّمَ الشاعر أمل دنقل إذن للرئيس المصري نبوءته ، واجتهد اجتهاده الشعري والقومي .. ولكن صوته ضاع في ضجيج محركات الطائرة الرئاسية (( طائرة السادات )) المسافرة إلى القدس .
هذه هي محنة القصيدة التي لا يريد أحدٌ سماع شهادتها .. ولو قدّمَتْ ألف دليل ، وألف بديل .
فهل يتذكر أستاذنا الكبير ضراعة أمل دنقل للرئيس أنور السادات كي ( لا يصالح ) ؟!
ولكن صرخة الشاعر تناثرت فوق مياه النيل .. ومات أمل دنقل على سرير مرضه .. مُحبَطا .. ويائسًا .. ومقهورًا .
ـ 10 ـ
لا يحق للأستاذ نجيب محفوظ أن يعين نفسه قاضيا ، ويصدر حكما مستعجلا على قصيدة .. تتعارض مع خطه السياسي .
فما يعتبره هو ( موقفا ضعيفا ) .. أعتبره أنا موقفا شجاعا .
وما اعتبره أنا موقفا انبطاحيا .. يعتبره هو موقفا واقعيا .. وبراغماتيا .
وهذا يستدعي العودة قليلا إلى أواخر السبعينيات حين هبطت طائرة الرئيس السادات في مطار بن غوريون في تل أبيب .. وتقدّم فاتحا ذراعيه لكل الجنرالات الذين أهرقوا دم مصر وداسوا ترابها .
وابتداء من هذه اللحظة التي جعلت التاريخ يقف على رأسه .. ظهر طفح ثقافي على جلد بعض المثقفين المصريين اسمه ( كامب ديفيد ) .. وكان أستاذنا نجيب محفوظ أحد المبدعين الكبار الذين ظهرت على كتاباتهم أعراض هذا الطفح .
كان الأستاذ نجيب محفوظ معجَبا بعبقرية أنور السادات ، ومقتنعا بكراماته ، ونبوءاته ، ورؤيته الرسولية للمستقبل .
لذلك فإنني أعتبر تعليقه على قصيدتي نوعا من ( عودة الروح ) لعصر السادات ، وفكره ن ونهجه السياسي .
ـ 11 ـ
وعلى ضوء ما تقدَّمَ ، فإن المسافة الأيديولوجية التي تفصلني عن الأستاذ نجيب محفوظ لا يمكن ردمها .
فهو تلميذ المدرسة الساداتية التي كانت تريد نصرا سينمائيا .. وتلفزيزنيا .. واستعراضيا ، ولو كان هذا النصر على حساب تاريخ مصر العربي ، وبطولات الجيش المصري الخرافية في حرب أكتوبر .
وأنا تلميذ المدرسة الناصرية بكل عنفوانها .. وجنونها .. واقتحاماتها القومية .. وانتصاراتها .. وهزائمها .. وأعراسها .. وأحزانها ..
إنهما موقفان منفرجان .. ونقطتان لا تلتقيان أبدا ..
فأصابع الأستاذ نجيب منقوعة في الماء ..
وأصابعي تتقلب فوق النار ..
ولكنني لا أصرخ .
ـ 12 ـ
لا يمكنني كشاعر أن أكون ضد السلام .
فالشاعر بطبيعة تفكيره النفسي والقومي والإنساني عضو مؤسس في حزب السلام ، إذ لا شعر يُكتب في ظل الموت ، والإبادة ، والخراب .
لكن ما يطرحونه علينا ليس سلاما .. بل ( مصّاصة من الكاوتشوك ) ، لا حليب فيها .. وزجاجة من النبيذ لا قعر لها .. ورسالة حب مكتوبة بالحبر السري .
ما يعرضونه علينا يأخذ ما فوقنا .. وما تحتنا .. ويتركنا على الحصيرة .. فالمستعمرات في خاصرتنا .. والمسجونون في سجونهم .. والمنفيون في منافيهم .. وانتقال المواطنين من أرض فلسطينية إلى أرض فلسطينية تحت رحمتهم .. والخليل مؤجلة .. والقدس مؤجلة .. وحريتنا .. وأعمارنا .. وأحلامنا .. كلها مؤجلة ..
فماذا بقي لنا من فلسطين في ظل هذا السلام البائس ؟ إذا كان أنبياؤنا ممنوعين من قراءة كتبهم المقدسة . وشعراؤنا ممنوعين من تلاوة شعرهم على أرض فلسطين .. وفلاحونا ممنوعين من الاقتراب من شجرة برتقال كانوا زرعوها قبل خمسين عاما .
ـ 13 ـ
ماذا بقي من فلسطين ؟!
إذا كان محمود درويش يقول في أول حوار أجري معه في غزة : ( بأنه عاد ولم يعد .. ووصل ولم يصل .. وأن منفاه لم ينته بعد .. وأن على بلاغة اللغة أن تتواضع قليلا أمام هذا البؤس !! ) .
ـ 14 ـ
هذه أحاسيس أمام الصلح الكاريكاتوري ، الذي يبشر به الأستاذ نجيب محفوظ ، ويدعونا إلى القبض عليه قبل أن يفلت من يدنا !!
وأنا لا أعتقد أننا سوف نخسر كثيرا ، إذا قاومنا هذا الصلح المعبّأ بكل إمكانيات الحرب .
وما دمنا لن نأخذ شيئا من إسرائيل ، لا بالحق ولا بالباطل ، لأنها مصممة على أن تصالحنا وتستعمرنا في الوقت ذاته ، فماذا نخسر إذا كسرنا الدف وتوقفنا عن الغناء ؟!
إن إسرائيل غير مبتهجة أساسا لمشروع سلام مع العرب إلا بشروطها هي .. وضمن مشروعها التوراتي القائم على ( إسرائيل كبرى ) تبتلع فيه كل غصن أخضر من النيل إلى الفرات .
وأريد أن أذكر أديبنا الكبير أن إسرائيل غير سعيدة بصلحها مع مصر ، وهي نادمة كثيرا على إعادة سيناء إلى السيادة المصرية ، لأن معدة إسرائيل لم تتعوّد على إرجاع أي طعام دخل إليها ..ولذلك فهي تسمي سلامها مع مصر ( سلاما باردا ) ..
فشكرا للرئيس العظيم جمال عبد الناصر الذي زرع في جسد الشعب المصري هذه المناعة القومية النادرة .
ـ 15 ـ
.... وبعد ..
فشكرا لأستاذنا الروائي الكبير الذي قرأ قصيدتي ( المهرولون ) فأعجبته شعريا .. ولم تعجبه أيديولوجيا .. وموقفا .
وإذا كان هذا الخطاب الشعري قد هز أعماقه ، فهذا دليل على أن حساسيته الشعرية لا تزال بخير .. وقلبه الكبير لا يزال يفرح بالتماع البروق ، وسقوط الأمطار .
أما مواقفنا الأيديولوجية المتصادمة في قضية السلام ، فهي بسيطة ، وهامشية ، ولا تفسد للود قضية .
هو له رؤيته واجتهاده ، وأنا لي رؤيتي واجتهادي .
هو يرى خشبة المسرح بعين الروائي المهتم بالأضواء ، والديكور ، وحركة الممثلين ، وأنا أرى المسرح بعين الشاعر الذي يريد أن يعرف ما يجري خلف الكواليس .. ومن يدير الحوار .. ومن هو كاتب السيناريو .. وماذا يجري بين صفوف المتفرجين الذين يشعرون بالإحباط والخديعة ، وبأن التمثيلية كلها ( أونطة بأونطة ) .
هو على يقين بأن الرواية حقيقية .
وأنا على يقين بأن الرواية توع من الفانتازيا السياسية التي لا تستهوي أحدا .. برغم ضخامة التمويل .. وكثرة الإعلانات .. ووجاهة المدعوين إلى حديقة البيت الأبيض !! .
(المهرولون) ..
قصيدة الشاعر نزار قباني
1
سقطتْ آخرُ جدرانِ الحياءْ
وفرحنا.. ورقصنا..
وتباركنا بتوقيعِ سلامِ الجبناءْ
لم يعد يرعبنا شيءٌ..
ولا يخجلنا شيءٌ
فقد يبستْ فينا عروقُ الكبرياءْ...
2
سقطتْ.. للمرةِ الخمسينِ عذريّتنا..
دونَ أن نهتزَّ.. أو نصرخَ..
أو يرعبنا مرأى الدماءْ..
ودخلنا في زمانِ الهرولهْ..
ووقفنا بالطوابيرِ، كأغنامٍ أمامَ المقصلهْ
وركضنا.. ولهثنا
وتسابقنا لتقبيلِ حذاءِ القتلهْ..
3
جوَّعوا أطفالنا عشرينَ عاماً
ورمَوا في آخرِ الصومِ إلينا..
بصلهْ...
4
سقطتْ غرناطةٌ
- للمرّةِ الخمسينَ – من أيدي العربْ.
سقطَ التاريخُ من أيدي العربْ.
سقطتْ أعمدةُ الروحِ ، وأفخاذُ القبيلهْ.
سقطتْ كلُّ مواويلِ البطولهْ.
سقطتْ إشبيليهْ..
سقطتْ أنطاكيهْ..
سقطتْ حطّينُ من غيرِ قتالٍ..
سقطتْ عموريَهْ..
سقطتْ مريمُ في أيدي الميليشياتِ
فما من رجلٍ ينقذُ الرمزَ السماويَّ
ولا ثمَّ الرجولهْ..
5
سقطتْ آخرُ محظيّاتنا
في يدِ الرومِ ، فعنْ ماذا ندافع؟
لم يعدْ في القصرِ جاريةٌ واحدةٌ
تصنعُ القهوةَ.. والجنسَ..
فعن ماذا ندافعْ؟؟
6
لم يعدْ في يدنا أندلسٌ واحدةٌ نملكها..
سرقوا الأبوابَ ، والحيطانَ ، والزوجاتِ ، والأولادَ ،
والزيتونَ ، والزيتَ ، وأحجارَ الشوارعْ.
سرقوا عيسى بنَ مريمْ
وهوَ ما زالَ رضيعاً..
سرقوا ذاكرةَ الليمون..
والمشمشِ.. والنعناعِ منّا..
وقناديلَ الجوامعْ
7
تركوا علبةَ سردينٍ بأيدينا
تسمّى " غزّة "
عظمةً يابسةً تـُدعى " أريحا "
فندقاً يدعى فلسطينَ..
بلا سقفٍ لا أعمدةٍ..
تركونا جسداً دونَ عظامٍ
ويداً دونَ أصابعْ...
8
لم يعدْ ثمةَ أطلالٌ لكي نبكي عليها.
كيفَ تبكي أمةٌ
أخذوا منها المدامعْ؟
9
بعدَ هذا الغزلِ السريِّ في أوسلو
خرجنا عاقرينْ..
وهبونا وطناً أصغرَ من حبّةِ قمحٍ..
وطناً نبلعهُ من غيرِ ماءٍ
كحبوبِ الأسبرينْ!!
10
بعدَ خمسينَ سنهْ..
نجلسُ الآنَ على أرضِ الخرابْ..
ما لنا مأوى
كآلافِ الكلابْ!!
11
بعدَ خمسينَ سنهْ
ما وجدنا وطناً نسكنهُ إلا السرابْ..
ليسَ صُلحاً ، ذلكَ الصلحُ الذي أُدخلَ كالخنجرِ فينا..
إنهُ فعلُ اغتصابْ!!..
12
ما تفيدُ الهرولهْ؟
ما تفيدُ الهرولهْ؟
عندما يبقى ضميرُ الشعبِ حياً
كفتيلِ القنبلهْ..
لن تساوي كلُّ توقيعاتِ أوسلو..
خردلهْ!!..
13
كم حلمنا بسلامٍ أخضرٍ..
وهلالٍ أبيضٍ..
وببحرٍ أزرقَ.. وقلوعٍ مرسلهْ..
ووجدنا فجأةً أنفسنا.. في مزبلهْ!!
14
من تُرى يسألهم عن سلامِ الجبناءْ؟
لا سلامِ الأقوياءِ القادرينْ.
من تُرى يسألهم عن سلامِ البيعِ بالتقسيطِ ..؟
والتأجيرِ بالتقسيطِ .. والصفقاتِ..
والتجّارِ والمستثمرينْ ؟
وتُرى يسألهم عن سلامِ الميتينْ ؟
أسكتوا الشارعَ.. واغتالوا جميعَ الأسئلهْ..
وجميعَ السائلينْ...
15
... وتزوّجنا بلا حبٍّ..
من الأنثى التي ذاتَ يومٍ أكلتْ أولادنا..
مضغتْ أكبادنا..
وأخذناها إلى شهرِ العسلْ..
وسكِرنا ورقصنا..
واستعَدنا كلَّ ما نحفظُ من شعرِ الغزلْ..
ثمَّ أنجبنا، لسوءِ الحظ ، أولاداً معاقينَ
لهم شكلُ الضفادعْ..
وتشرّدنا على أرصفةِ الحزنِ ،
فلا من بلدٍ نحضنهُ..
أو من ولدْ!!
16
لم يكُن في العرسِ رقصٌ عربيٌّ
أو طعامٌ عربيٌّ
أو غناءٌ عربيٌّ
أو حياءٌ عربيٌّ
فلقد غابَ عن الزفّةِ أولادُ البلدْ..
17
كانَ نصفُ المهرِ بالدولارِ..
كانَ الخاتمُ الماسيُّ بالدولارِ..
كانتْ أجرةُ المأذونِ بالدولارِ..
والكعكةُ كانتْ هبةً من أمريكا..
وغطاءُ العرسِ ، والأزهارُ ، والشمعُ ،
وموسيقى المارينزْ..
كلُّها قد صنعتْ في أمريكا!!
18
وانتهى العرسُ..
ولم تحضرْ فلسطينُ الفرحْ.
بلْ رأت صورتها مبثوثةً عبرَ كلِّ الأقنيهْ..
ورأتْ دمعتها تعبرُ أمواجَ المحيطْ..
نحوَ شيكاغو.. وجيرسي.. وميامي..
وهيَ مثلَ الطائرِ المذبوحِ تصرخْ:
ليسَ هذا العرسُ عرسي..
ليسَ هذا الثوبُ ثوبي..
ليسَ هذا العارُ عاري..
أبداً.. يا أمريكا..
أبداً.. يا أمريكا..
أبداً.. يا أمريكا ..
الخميس 02/12/2010
التعليقات (0)