معركة الدشيرة
محطة مضيئة في مسيرة الكفاح من أجل الوحدة
معركة الدشيرة، ونستهدف عبره تنوير الأذهان الناشئة بتاريخها والتزويد من معانيه وقيمه.
لا يخفي على أحد الآن أنه أضحى من الواجب الوطني صيانة الذاكرة الوطنية والحرص على استمرار التواصل معها، وذلك لجعلها – عبر الأجيال المتعاقبة، وقفات تأمل وتدبر لخدمة مسار ترسيخ المواطنة الإيجابية والفاعلة.
إن معركة الدشيرة، معركة خاضها جيش التحرير الجنوب ضد قوات الجيش الإسباني في غضون خمسينيات القرن الماضي.
منذ تمركزت قيادة جيش التحرير الجنوب بكلميم في منتصف سنة 1956، انطلقت معارك ضارية وحامية الوسيط بأرجاء الصحراء المغربية بالتحام وترابط بين أبناء مختلف القبائل الجنوبية وأعضاء جييش التحرير الآتون من باقي جهات المملكة، يجمعهم هدف واحد هو تحرير الصحراء من قبضة المحتل الأجنبي الغاشم ورجوعها إلى اون الأم قصد استكمال الوحدة الترابية.
لقد خلدت معركة الدشيرة أروع صور البطولة والشجاعة التي برهن عنها أبناء الصحراء المغربية ضمن طلائع جيش التحرير ملقنين فلول الاستعمار الإسباني المدجح بأغنى الأسلحة، مدعماً بالطائرات الحربية، درساً لم تقو مدريد علة نسيانه إلى حد الآن.
ومن المفارقات التي جاءت بها عليها الصيرورة التاريخية قرب تاريخ ذكرى معركة الدشيرة من ذكرى جلاء آخر جندي إسباني عن الصحراء المغربية.
معركة الدشيرة من أبرز معارك الوحدة
تعد معركة الدشيرة من أبرز المعارك التي شهدتها ربوع الصحراء المغربية، والتي شارك خلالها أبناء الصحراء بجانب المجاهدين الوافدين من جميع أنحاء المملكة دفاعاً عن وحدة الوطن مسترخصين أرواحهم ودماءهم في سبيل عزة المغرب وكرامته ومن أجل تحرير الأقاليم الصحراوية من سيطرة الاستعمار الإسباني.
ظلت معركة الدشيرة ملحمة بارزة في تاريخ الكفاح الوطني وفي سلسلة من المعارك ألحق فيها جيش التحرير الجنوب هزائم نكراء بقوات الاحتلال الإسباني فيما بين 1956 و1960 على أرض الصحراء، ومنها معارك "الرغيوة" و"المسيد" و"أم العشار" و"مركالة" و"البلايا" و"فم الواد" وغيرها. وأمام هذه الانتصارات الساطعة لجأت القوات الإسبانية إلى إبرام تحالف مع قرات الاحتلال الفرنسي لإعداد عملية "إيكوفيون" (والتي عرفت كذلك بعملية "أراغون") والتي حاول أعضاء جيش التحرير الجنوب التصدي إليها بكل ما أوني من قوّة رغم امكانياته المحدودة.
جرت أطوار معركة الدشيرة يوم 13 يناير 1958 على بعد 25 كيلومتر شرق مدينة العيون، تصدي فيها جيش التحرير الجنوب لواحد من أهم الفيالق الإسبانية المزود حينئذ بأحدث العتاد والأسلحة المتطورة.
سيبقى فضاء جماعة الدشيرة الذي كان مسرحاً لمعركة ضارية وحامية الوطيس رغم عدم تكافؤ طرفيها عدداً وعتاداً، شاخصة في ذهن مرحلة الاستقلال، بتضاريسها الصحراوية التي يخترقها وادي الساقية الحمراء غير بعيد عن منطقة "المسيد" التي هي الأخرى كانت شاهدة على معركة اقترنت بالروح الوطنية الوحدوية لأبطال وهبوا حياتهم فداء للوحدة ودفاعاً عن مقدسات الوطن.
تسلسل أحداث معركة الدشيرة
خرجت القوات الإسبانية من مدينة العيون مدججة بأحسن الأسلحة في اتجاه "تافودارت"- شرق الدشيرة- وكل الجنود الإسبان وضباطهم كانوا يعتقدون أنهم خارجون لجولة ظانين أنهم سيقضون نهائيا – وبكل سهولة – على مراكز المقاومة، سيما المقاطعة التاسعة التاسعة لجيش التحرير الجنوب التي كان يقودها وقتئذ الرائد صالح بنعسو.
إلاّ أن هذه المقاطعة التاسعة علمت بهذا التحرك بواسطة وبفضل الوطنيين المقيمين بمدينة العيون والذين كانوا بمثابة عيون وآذان أعضاء جيش التحرير الجنوب يتابعون حركات وسكنات القوات الإسبانية الاستعمارية.
وفي سرية وكتمان تامين استعد أفراد جيش التحرير الجنوب للأمر وقرّروا اعتراض طريق القوات الإسبانية وسط وادي الساقية الحمراء مع مطلع شمس يوم 13 يناير 1958.
تمركزت خمسة فرق في الواجهة الشرقية وخمسة فرق أخرى في الواجهة الجنوبية قبل انطلاق معركة حامية الوطيس استمرت جولتها الأولى أكثر من 12 ساعة تكبّدت خلالها القوات الإسبانية خسائر فادحة.
غنم جيش التحرير الجنوب ثلاث سيارات محملة بالمؤونة والذخيرة وأسلحة خفيفة ووسائل الاتصال، بينما استشهد 12 فرداً من أعضاء جيش التحرير الأساوس وكلهم مدفونين بجماعة الدشيرة.
في هذه المعركة نهجت قيادة المقاطعة التاسعة لجيش التحرير الجنوب أسلوباً تاكتيكيا ساعد المجاهدين على الصمود في التصدي لجيش الاحتلال الإسباني العرمرم عند عبوره المنطقة، حيث لازمت مجموعات جيش التحرير موقع "الكوشة" دون مغادرته، وهو حصن حصين وقلعة وعرة أشرف منها مقاتلو المقاطعة التاسعة لجيش التحرير الجنوب على توجيه الضربات المركزة والمؤلمة صوب القوات الإسبانية وآلياتها وعتادها. ولم يسمح أعضاء جيش التحرير فلول جيش الاحتلال من عبور منطقة "الكوشة" وكبدتها خسائر جسيمة أدخلت الرعب الشديد في نفوس الجنود والضباط الإسبان رغم تفوق عددهم وعتادهم.
شاهد عيّان
كان المقاوم المحجوب ولدّا بن باهيا أحد المشاركين في معركة الدشيرة ضمن المقاطعة التاسعة لجيش الجنوب.
ولازال المحجوب يختزن في ذاكرته دقائق هذه المعركة والمجال الذي دارت رحاها فيه وما بدله الآباء والأجداد من تضحيات جسام دفاعاً عن وحدة الوطن.
ويؤكد المحجوب ولدّا بن باهيا أن العدو تكبّد خسائر في الأرواح والعتاد، وأنه ترك في ساحة المعركة عشرات القتلى ومئات الجرحى. مضيفاً أنه شارك في معركة الدشيرة عدد كبير من الجنود الإسبان بلغ تعدادهم 1600 فرداً تصدي لهم عدد قليل من مجاهدي جيش التحرير الجنوب ببطولة نادرة واستماتة وشجاعة كبيرة مكّنتهم من ذخر القوات الاستعمارية الغاشمة وإرباك مخططاتها العسكرية آنذاك.
وبذلك تلقى الفيلق الإسباني الثالث هزيمة نكراء رغم الاستعمال الكثيف للأسلحة.
الدرس والمغزى
شكلت معركة الدشيرة بنتائجها وانعكاساتها وتداعياتها محطة مضيئة في مسيرة الكفاح من أجل الوحدة ضمن سلسلة من المعارك التي دارت رحاها بين سنتي 1956 و1958 في ربوع الصحراء المغربية للتصدي للاحتلال الـأجنبي.
في معركة الدشيرة امتزجت دماء الشهداء من الأقاليم الجنوبية بدماء إخوانهم من الأقاليم الشمالية، مما جسّد مبكراً إرادة المغاربة في الوحدة والتصدي لكل المكائد والمنارات التي استهدفت النيل من المغرب ووحدته ومقوماته وترابطه.
لقد رسخّت معركة الدشيرة معلم ستظل شاهدة على أهميتها لأنها خلّدت أروع صور الكفاح الوطني دفاعاً عن الوحدة. وإيمان مجاهدي جيش التحرير الجنوب الراسخ بهذه الوحدة جعلتهم ينتصرون بامتياز في معركة غير متوازنة بكل المقاييس، عسكرياً وعدداً وعتاداً ولوجستيكياً، بين القوات المتواجهة.
كان الإيمان الراسخ بوحدة الوطن والاعتزاز بالانتماء للهوية المغربية هو السلاح الأقوى الذي مكّن ثلة من رجال جيش التحرير الجنوب من دك فيلق اسباني.
الشهداء الأبرار
سقط في مغركة الدشيرة 12 شهيداً روت دماؤهم رمال الصحراء توقاً لربط شمال المملكة بجنوبها، وهم:
1- محمد عالي بن سيدي ابراهيم
2- سيدي ولدونها
3- إدا ولد الركيك
4- افضيلي بن لحسن
5- بشراي- بن محمد- يحضيه بن سيدي عالي
6- يسلم بن سيدي عالي
7- اسليمة بن البشير بن عمر
8- سيدي أحمد بن الكوري
9- محمد بن أحمد الزين
10-السالك بن عبيد
11- محمد بن الفقير
12- إبراهيم الإدريسي
على سبيل الختم
سجلت معركة الدشيرة بمداد الفخر والاعتزاز مدى بطولة أبناء القبائل الصحراوية وطلائع المجاهدين في الدفاع عن وحدة الوطن والذروة عن مقدساته الدينية والوطنية ومقوماته الحضارية والتاريخية والتمسك بمغربيتهم.
إن معركة الدشيرة تذكرنا بمعني الوحدة والتضامن، كما تذكرنا بأن خدمة هذه الوحدة هو السبيل الكفيل لدرء الأخطار التي مازالت تتربص بوحدة المغرب الترابية. إنها المعركة التي برهن من خلالها أبناء الصحراء بمختلف انتمائهم القبلية والعشائرية عن تشبثهم بالوحدة الترابية للمغرب مبكراً قبل افتعال نزاع الصحراء من طرف قصر المرادية الذي يعلم علم اليقين أن الجزائر، لم يشهد التاريخ أنها كانت دولة بمفهوم "الدولة الوطنية"، لأنها بكل بساطة، دولة خلفتها فرنسا تاريخياً باقتطاع أجزاء مهمة من الدولة المغربية التي يشهد التاريخ أنها طلت قائمة علة امتداد قرون حتى قبل أن تصحا أوروبا من سباتها وأن تخرج من الظلمات.
إدريس ولد القابلة
الصحراء الأسبوعية
التعليقات (0)