معاني الثورة الوجودية و الاجتماعية و ثورة المعاني في أدب ألمسعدي..؟
بقلم: محمد بن سالم بن عمر
يعتبر(محمود ألمسعدي 28 جانفي 1911// 16 ديسمبر 2005) من أعظم أدباء تونس خلال القرن العشرين، ومن أوسعهم معرفة بالتراث الفكري والأدبي والثقافي في الحضارة العربية/ الإسلامية، ومن أشدهم تعمقا في أصول الثقافة الغربية القديمة والحديثة على حد السواء، ومن أكثرهم انفتاحا وإطلاعا على ثقافات العالم وحضاراته،فهو يمثل علامة بارزة في الحياة الثقافية و السياسية و في حركة التحرر الوطني التي كان احد رموزها .. وهو مثقف قد جمع بين ثقافته العربية الإسلامية الأصيلة وبين آداب أوربا وفكرها وفنها ومزج بينهما مزجاً طريفاً، فاقتبس من التراث العربي الشكل القصصي القديم كالحديث والمقامة والسيرة واختار منه الشخصيات العربية القديمة النموذجية التي يسهل على القارئ إيجاد ما يشاكلها في كتاب الأغاني ومؤلفات السير والمغازي والرحلات وتناوله هذا كله بأفكار صريحة يغلب عليها طابع الفلسفة الوجودية.
لقد حمل ألمسعدي في فكره ووجدانه طموح جيل كامل من المثقفين الذين كانوا يناضلون من أجل بناء ثقافة تونسية أصيلة مواكبة لروح العصر ومتحررة من الجمود والتكلس.
و لئن تكشف أعمال ألمسعدي عن تأثير القرآن على تكوينه الفكري والعقائدي وعلى أسلوبه كما تنم عن إحاطته بأعمال المفكرين المسلمين في مختلف العصور وبالأدب العربي القديم التي بدأ اهتمامه بها منذ مرحلة دراسته الثانوية، فإنّها أيضا تبيّن مدى اطلاعه على الآداب الفرنسية خاصة والغربية عامة. فلقد نهل ألمسعدي من معين المدرسة الغربية وتأثر إلى حد كبير بالفلسفة الوجودية التي من أعلامها "جون بول سارتر Jean-Paul Sartre" و"الباركامي Albert Camus ".
عاد ألمسعدي من باريس إلى تونس أواسط الثلاثينات من القرن الماضي وقد أصاب من الثقافة والمعرفة في مجالات متنوعة ومتعددة ما سوف يتيح له أن يكتب أعمالا كبيرة لم يعرفها الأدب التونسي من قبل مثل "السد" و"حدث أبو هريرة قال..." و"مولد النسيان"...
ويرى محمود ألمسعدي أن القضية الأساسية التي تناولها في كتبه هي "قصة التجربة الوجودية، ومغامرة الكيان الإنساني". وهي أيضا "قصة المسيرة الطويلة التي هي مسيرة الحي في سبيل الاضطلاع بمسؤولية الوجود الإنساني. لأن الإنسان ليس شيئا معطى مقررا حاصلا من البدء كما في معطيات الحسابيات، بل هو كائن يتكون تدريجيا، ولا يزال في حال صيرورة مستمرة وتكون متواصل من أول لحظة من الحياة إلى آخر ثانية منها".
وفي "السد"، خاض ألمسعدي المغامرة الوجودية بكل أبعادها، إذ أنها معركة كل الذين "يرومون تغيير الواقع الموروث" ضد "قوى الظلمات" بهدف "خلق واقع جديد".
وأزعم أن روايته :حدث أبو هريرة قال..التي بدأ نشرها (1939، وطبع العمل كاملا عام 1973) تعد حجر الزاوية في معرفة جل أفكار ألمسعدي و فلسفته الوجودية و الاجتماعية و السياسية..؟
فماهي أبرز ملامح فلسفته الوجودية و رؤيته الإصلاحية اجتماعيا و سياسيا التي نستشفها من خلال هذه الرواية ...؟
دلالات الثورة الوجودية في " حدث أبو هريرة قال .."؟
مسيرة أبي هريرة الوجودية و البعث الأول :
I- - علاقة أبي هريرة بذاته :-التجربة الحسية و الجمالية :
بطل الرواية "أبو هريرة " يعيش في مكة متقيدا بروابطها الاجتماعية وطقوسها الدينية. فهو ملتزم بعباداته متزوج بطريقة شرعية ، يعيش حياة تقليدية كما هو حال كل الشعب التونسي الذي يرزح تحت استعمار فرنسي غاشم، إلى حين قدوم صديق له يدعوه إلى الخروج عن المألوف قائلا بنبرة واضحة : " أصرفك عن الدنيا عامة يوم من أيامك"
فالبعث الأول لأبي هريرة لم يكن استجابة لحاجات أو تفاعلات داخلية بل كان منطلقه عوامل خارجية عن أبي هريرة / المجتمع التونسي ، استجابة للتحدي الذي فرضه الغرب الاستعماري على كل المستويات النفسية والاجتماعية و السياسية و الثقافية ...!
بدأت إذن مغامرة أبي هريرة فجرا، معلنة عن بداية تجربته الوجودية و تحولاته النفسية و الفكرية.... !
و بعيدا عن مكة و قيودها وانغلاقها و جمود أهلها سيتمتع أبو هريرة وصديقه بمشهد الفتى والفتاة عاريين وهما يرقصان على رمال الصحراء و كثبانها متحررين من كل القيود. هذا المشهد الحسي الجميل صرف أبا هريرة عن صديقه بقية يومه فكان بدء الانفصال عنه وقد هزه الطرب.!
عندها يبدأ أبو هريرة في التحول و تغيير ما بنفسه وذلك ما رغب فيه صديقه الذي عاد مرارا إلى هذا المكان ولبّى دعوة الدنيا وقد لخص ألمسعدي هذه الدعوة في قول الفتى:" نعم دعوة الدنيا ، دعوة الكون ، ترى هذه الأشجار وهذا الماء وهذا النور وهذا الفضاء وهذا الخلاء(ص 56/57) ، و كأن ألمسعدي أراد من شعبه أن يتعلم طرق العيش المثلى من غرب لا يزال جاثما على صدور التونسيين آنذاك ؟!
أصبح أبو هريرة إذن متهيئا لتلقي الدعوة مرة و مرات... فقد عاد إلى مكة جسدا بلا روح يقول :ص 58 "وبقيت عامة يومي مصروف البال إلى أمر الجارية وفتاها"
لكنه لم يتخلص بعد من ثقل الماضي لشدة تغلغله في نفسيته، فيقول:
" فكلما كان من الغد جمعت غرمي وأعرضت عن الدعوة وعدت إلى الصلاة فقضيتها واستغفرت الله "!؟
فأبو هريرة يتأرجح بين الصلاة بما ترمز إليه من سكينة واستقرار و بين الدعوة إلى الدنيا و مباهجها بما ترمز إليه من حركية و نشاط .. في حين أن صديقه قرر مصيره فاتخذ جارته وترك أهله، فكأن الزواج بمفهومه الشرعي لا يتناسب والتجربة الحسية المنفلتة من كل الضوابط الاجتماعية و الأخلاقية.. ؟!
وينتهي الأمر بأبي هريرة اللحاق بصاحبه. لقد فشل في العودة إلى واقعة فيقول: (ص 58) "فذهب ذلك بما تصنعت من العزم فكان البعث" الأول في حياة أبي هريرة.
يقول الأستاذ توفيق بكار في تقديمه ص 21 مصورا التحول الكبير الذي صار إليه أبو هريرة «فيستجيب فيترك مكة والزوجة والصلاة وقد " بعث من بين الأموات" إلى الفردوس.. ليس فردوس السماء الذي ما فتىء يحلم به حتى أحياه بنفخة من طينة من جنة موعودة إلى جنّة موجودة –
من لاهوتية مغرقة ترتقي بكل الحياة إلى الآخرة."لهم الدنيا ولنا الآخرة" إلى إنسانية معتدة بذاتها تنزل بكل الحياة إلى الدنيا حتى تعمل لها " كأنها تعيش أبدا .. فكأنما "عادت الروح " إلى أبي هريرة بعودته إلى" الطبيعة الأم" و قد تحول إلى إنسان جديد يسعى بكل حواسه إلى ملاقاة الكون للعبَ من نبع الوجود ونكهته".
وريحانة بما ترمز إليه من طيب الرائحة و جمال الشكل هي التي سينطلق منها أبو هريرة في مسيرته في تجربة عاطفة الحب و الجمال و الجنس بكل حواسه التي باتت منطلقة من كل القيود الاجتماعية التي كان يحياها بمكة ....؟
كما أن ريحانة شبيهة بأبي هريرة في بعض خاصياته : هي نفور لا تستقر على حال وفي حديث المزج والجد" يتحدث عنها رجل من الأنمار قائلا: أقبلت على شبان الحي وكنت منهم ، غفر الله لنا جميعا فكانت تعاشر الواحد منا ، ثم تهجره إلى غيره ، وكانت في ذلك تلقي لنا فتبسط الأيدي ، فتمسك عنا وتولي حتى تهيجنا كغبار في يوم إعصار"(ص61 – 62 ).
فريحانة تأبى الزواج وتعتبره عبودية. وهي إلى ذلك تحس بالغربة إذ لم تجد التجاوب مع أحد وهجرها للرجال دليل على أن الحس كما يتعاطاه الناس ليس المقصود، بل الحس فلسفة عندها وستعثر على ضالتها في أبي هريرة.
لقد عانى ألمسعدي في عصره تناقضات كثيرة مما دفعه إلى أن يعيش متاهة هذا الضياع و الغربة التي نجدها مكونا أساسيا لشخصية أبي هريرة و ريحانة في أوضح تجلياتها ...؟
إن هذا الضياع الذي كان يعيشه ألمسعدي و خاصة المثقفين منه ليس في الحقيقة إلا إقراراً صريحاً بالضياع الذي كان يعيشه المجتمع التونسي في فترة ما بين الحربين العالميتين التي كتب فيها ألمسعدي "حدث أبو هريرة قال..". ضياع كان يهز المجتمع العربي أو لنقل إنه ضياع فتك بالبشرية كلها في ذلك الزمن.
لا يعتبر الحس مجرد متعة مبتذلة بل تجربة مقدسة جعلت بيت ريحانة- قبل أن تنتقل مع أبي هريرة إلى منزل بالمدينة – في الطريق الواصلة بين مكة والمدينة حجا آخر " الناس بين داخل وخارج" وريحانة في اختلافها عن النساء لا تمثل المرأة بقدر ما تمثل بعدا من أبعاد الكيان البشري فالإنسان لا يخضع بحسّه إلى أي نظام اجتماعي بل يعود به إلى العالم الفطري فالتجربة رمز إليها بريحانة هي تجربة الإنسان الفطرية والتخلص من القيم ليس معناه التمرد على المجتمع و قوانينه بل عودة إلى ما قبل المجتمع .. إلى قانون الفطرة.. !
ستلتقي ريحانة مع أبي هريرة في حديث" التعارف على الخمر" فيشتركان في نزولهما ضيفين في حي من أحياء العرب وقد تم التعارف في مجلس الخمر أي عالم الحس و المتعة. وقدمت صورة تعارف ريحانة بأبي هريرة في شكل صراع تقول : " وهممت ألطم وجهه لطمة تذهب بخمره" لكن أبا هريرة أحسن التملك فتنصهر فيه ريحانة لتصبح جزء منه فتقول : " فما كدت أهم به حتى أخذني واحتملني وأنا اضطرب، فجعلني تحت سمره إلى الأرض وانصب علي فوجدته صاحبا من أشد الرجال ثم شدني إليه حتّى صرت منه (ص 71-72).
وحديث " القيامة" يصف بداية ممارسة التجربة الحسية الجمالية و الجنسية بينهما في إطار مكاني يوحي بالغرابة والرهبة لتعميق مفهوم الحس ليجعل الكون كله قائما على الإخصاب فالحس ليس مكتسبا بل هو فطري يقول ألمسعدي في"تأصيلا لكيان : " إن سر البقاء وتواصل الحياة هو التجربة الحسية ولو لا المتعة الحسية لما وجد الإنسان".
II – - علاقة أبي هريرة بالكون : محطة تأملية :
إن ممارسة التجربة الحسية التي اندفع فيها أبو هريرة بكل حواسه والتي تقول فيها ريحانة في حديث "الوضع" "وأكلته فأكلني وأفنيته وأفناني (ص 102) أورثته جوعا على جوع ، فنتيجة هذه التجربة الحسية كانت سلبية إذ أن أبا هريرة غير قانع بها لشعوره بنقصان كيانه ... ؟! فيقول لريحانة " لقد علمتني الطعام ما لذته.. فهل علمتك يا ريحانة الجوع ؟
وهو إلى ذلك يشعر بالموت "زهرة على القبر" فتطرح عليه قضية الوجود والعدم المتمثلة في إدراك الإنسان ووعيه بمآله و خاتمته :" الفناء" هذا الشعور أصاب أبطال ألمسعدي رغم عشقهم للحياة و تشبثهم بها .
مفهوم المرض واختلاف المواقف بين ريحانة و أبي هريرة :
المرض عند ريحانة مرض جسدي عادي فتسيل الدموع حرقة على أبي هريرة، في حين يكون المرض عنده أزمة وجودية تمثلت في رغبته في الابتعاد عن الجمود ولن يحدث ذلك إلا بتجاوز التجربة الحسية بعد أن استنفد كل أنواع اللذة من العلاقة الجنسية الطبيعية مع ريحانة إلى التطرف في هذه التجربة مع مخنث المدينة. ؟!
نتبين خروج أبي هريرة من حالة الاطمئنان إلى حالة القلق التي ستؤدي به إلى التحول باعتبار إن الحيرة والتساؤل من مسؤولية الإنسانية.
فالمرض إذن سيبعث الحياة و الاستفاقة والإدراك بأن المتع لا تحقق إنسانية الإنسان، ستؤدي بأبي هريرة إلى الرحيل و التفكير المستمر، فهو يكره الأشياء السهلة ويبحث عن الحقيقة. فالصحة عنده تساوي الجمود في انعدام التساؤل وفي الاستقرار، وهو يخاف الاستقرار.. إذ تقول فيه ريحانة في حديث " الوضع" "شديد الكره للنزول يرتاد ولا ينزل ويقتله الطمع ويحييه اليأس ويخاف أن يستقر الجهد" ليصل إلى مرحلة تأملية في رحلة الإيمان بعبثية الكون والحياة نتجت عن تجربة الحس الفاشلة .
يعيش أبو هريرة دوامة من الحيرة والوحشة والتساؤلات الواردة في المجلس الخمري حين قص حياة أخته المعاقة وتساؤلاته عن سبب إعاقتها فيكون هذا المجلس الخمري منبها ليساعد على المأساة التي يعيشها البطل وتمثلت أولا في عدم التلذذ بالخمرة (وهي عالم الحس)، وثانيا في امتناعه الدال على تأمله في هذا العالم الخمري الحسي الذي أصبح غريبا عنه.
فهذا العالم الخمري يصبح عاملا من عوامل تنشيط المأساة لديه ، ما عكس نظرة ألمسعدي الفلسفية للأدب حين قال قولته الشهيرة التي افتتح بها نصا كتبه عن أبي العتاهية، والتي جاء فيها "الأدب مأساة أولا يكون. مأساة الإنسان يتردد بين الألوهية والحيوانية، وتزف به في أودية الوجود عواصف آلام العجز والشعور بالعجز: أمام القضاء، أمام الموت، أمام الحياة،أمام الغيب، أمام الآلهة، أمام نفسه". إن عجز أبي هريرة عن فهم الوجود دلالة على وصول البطل إلى أرقى مستويات التأزم الوجودي ليصل إلى التفكير في تحقيق ذاته عن طريق التجربة الروحية التي سيخوضها مع ظلمة كنقيض لتجربته الحسية / الحيوانية.
- III - علاقة أبي هريرة بالإله : التجربة الدينية الروحية :
يصعد أبو هريرة إلى دير العذارى وقد حددت موقعه الجبلي راهبة الدير ظلمة الهذلية بقولها " وكان قليلا من يطرق علينا لمنعة الجبل وشدة الدير وعسره وانفصاله عن الأرض" فهو قريب من السماء رمز الغيب والماورائيات، ليكون التعبد والانفصال عن الحس و الناس ويرغب أبو هريرة في التخلص من الحس ، هذا التخلص الذي ستروضه عليه هذه الراهبة وتحدث المفاجأة ، وإذا بأبي هريرة يبعث الحس في هذه الراهبة ظلمة انطلاقا من كلمة " اللذة" وإذا بسواكن الحس تنفجر عندها ، وكانت قد كابدت للسيطرة على حواسها منذ حداثتها، فيدخل أبو هريرة في علاقة حسية وراء المحراب . أراد أن تصعده ظلمة إلى السماء فأنزلها بدوره إلى الأرض وبذلك تفشل هذه التجربة الروحية ويهتدي البطل إلى" أن الغيبة تطلب فلا تدرك" فتؤدي به إلى تأملات و تتعمق أزمته الوجودية ؟!.
يعيش أبو هريرة فترة تأملية يستقي فيها نتائج هذه التجربة الروحية فيستخلص أن الكائن البشري مركب من عدة أبعاد : لم يعش طمأنينة في الحس/ الجانب الحيواني للإنسان ، كما أنه لم يعشها في الروحانيات دلالة على أن الإنسان لا يستطيع الانسلاخ عن طبيعته فيرفض الحيوانية الصرفة ولا يستطيع التأله.
أمّا الاستخلاص الثاني فيتمثل في رفضه للسبل المسلّمة التي يتطلبها التسليم للوصول إلى الاستقرار الروحي مما يؤدي ذلك إلى مزيد حيرته ، و لا خلاص له إلا بتجاوز هذه المأساة بالفعل، بالبناء مع العدد ، مع الناس .
- IV - علاقة أبي هريرة بالمجتمع : تجربة العدد : التجربة الجماعية :
يدخل أبو هريرة طور العزلة عن الناس في واد فتكشف له الريح عن جمجمة بشرية ترمز لموت الإنسان وضعفه ، فزادته تأزما لكنه نام فحلم بالإنسان تأله وأخذ يشيد من الطين صرحا فرغم ضعف الإنسان المخلوق من الطين (حسب التراث الإسلامي) ينشد هذا الضعيف من الطين الخلود. فمن هذا الطين يصنع ويبدع ومنه ينشد الخلود. آنذاك ينطلق أبو هريرة في التجربة الجماعية من حالة العزلة الفردية إلى الفعل الجماعي المبدع ، فهذا الحلم ألهمه" القدرة الإنسانية الخلاقة التي تنفي العدم" عن البشر.
وينطلق الحديث عن التجربة الجماعية بنتيجتها الفاشلة إذ يصف كهلان أبا هريرة قائلا: "فكان يحدثني حديث الميت يبعث كرها ويتوق إلى موته". ويبدي أبو هريرة رأيه في الناس" عشت في الناس ثلاثين. فلم أر والله في واحدة منها إلا ذئبا ينهش ذئبا أو صاديا يشرب فيشتد صداه" (ص 149) ليعبر المسعدي من خلال ذلك عن تأثره الشديد بفلسفة "توماس هوبز" (1588-1679 ).
يقول :(ص 51) "خرجت أريدهم على البناء".. وبذلك يركز على ومضات ورائية لذكر هذه التجربة. فقد دعاهم إلى الخلق والتعاون..
وقعت هذه التجربة في مجتمع متخلف ينتظر " الحلول الغيبية" لإنقاذهم من الفقر.
دعوة أبي هريرة هذا العدد "دعوتهم" يفيد أن التجربة لم تنبع من المجموعة ذاتها فيكون خطأ أبي هريرة من البداية، إذ لم يعودهم على العمل والبذل بل وفر لهم ما يشتهون فعلمهم التواكل عليه" فقالوا " دعانا داعي الرحيل قلت كأنكم مثلي لكن هيهات" فرحيل أبي هريرة ايجابي لأنه قائم على البحث واستقصاء معنى لوجوده ، رغم أن تحوله منذ البداية كان بفعل عامل خارجي عنه ، في حين أن رحيل الجماعة اكتسى معنى الحيرة الجوفاء ومجرد البحث عن الراحة والاستقرار فخرج بهم إلى صحراء لحثهم على الخلق والتغيير "فتأكلوا " رمزا للتناحر الاجتماعي والفتن والحروب ، التي كان يحياها العالم آنذاك .
ويبلغ أبو هريرة درجة الثائر الداعي إلى التمرد ومّما يؤكد نزعة الأنا في هذا العمل الاجتماعي والسياسي إن أبا هريرة قد جنى من هذه التجربة لذة فيقول ووجدت في الفعل لمثل "سكرة الخمرة وحسبته من العدد وخصب الكثرة " ، لكنها تفشل فيقـــــــول :( ص 156) " هذه يا كهلان قصة طالب الكثرة جئتهم فسألتهم روحا فإذا هم أفرغ من نفخة إسرافيل"؟!
فتبين أن الأنا إذن هي باعث التجربة الجماعية ، فهناك إرادة فردية للبناء لم تنبع من المجتمع ، فأبو هريرة يريد البناء ليحقق ذاته في هذا البناء لذلك تفشل هذه التجربة ومن ورائها ألمسعدي، بل لنقل فشل جيل ألمسعدي من المثقفين في التغيير الايجابي لمجتمعات تعيش التخلف و الاستعمار منذ عقود ...؟
V- - المنتهى: البعث الآخر :
قد صورت ظلمة أبا هريرة وما يشعر به من شوق إلى المطلق " فإذا عينه أشد ما رأيت شوقا إلى ما لا تراه غيرها من العيون ... وكان يقول : " أليس فيكم من يحذق صنع الأصوات تحضر الآلهة وتكسر الزمان المحدود".فتنتهي به الرحلة إلى بعث أخر ، تطلب فيه الغيبة فتدرك.
يطلب أبو هريرة من أبي المدائن أن يخرج به يوما ليس من الدهر خارجا عن محدودية الزمان ويكون ذلك عند مغرب الشمس ( رمز نهاية مسيرة أبي هريرة). يصعدان جبلا شامخا ينشد النهاية. حركة أبي هريرة حركة تصاعدية من كثبان الرمال إلى قمم الجبال دلالة على صعوبة الملتقى ووجود الحقيقة وتنتهي مسيرة أبي هريرة بالرضي والقبول يقول " هذا ما كنت أطلب".؟!
رحلته لم تكن عبثا بل مكنته من بناء كيانه ومفهوم هذه المسؤولية مستمد من الفكر الإسلامي الذي يفيد من النصوص الدينية تحمل الإنسان مسؤوليته، وتحقيق هذه المسؤولية سعي ترجم عنه الشعر على لسان الهاتف – هاتف الغيب المشحون بمصطلحات صوفية كالحق والحب.
إن علاقة الحب بين أبي هريرة والله أول نتيجة يفوز بها بعد نجاحه في القيام بمسؤوليته الإنسانية. أما مصطلح الشوق فهو دافع أبي هريرة لهذه الرحلة لحاجة المعرفة فرحلته تتعطش إلى المعرفة التي لم تستجب لها أية تجربة وجودية سابقة ، فيجيب أبو هريرة على الهاتف بمفهوم الفناء في الله.
وصف أبو المدائن نهاية أبي هريرة وصفا غامضا، فنحن أمام لوحة فيها صوتان: صوت حيواني صهيل " وصوت بشري " صيحة"
"إلا أن الصوت الحيواني اقترن لحالة نفسية : ألم والصوت البشري اقترن بحالة نفسية : فرح ، فيمكن أن يرمز بالألم إلى موت الحصان أي موت الجانب الحيواني في الإنسان ويمكن أن يرمز بالفرح إلى صعود أبي هريرة إلى السماء أي انعتاق الجانب الإلهي في الإنسان.
فلا أثر لموت أبي هريرة انتحارا ، لأن معنى الموت أو الانتحار ورد على لسان أبي المدائن "وإذا دم على الصخر"
فهل يجوز ألمسعدي الانتحار في كتاباته ؟!
الخاتمة:
نلاحظ أن ألمسعدي ، قد أدرك مثلما أدرك معاصروه أن المجتمع قد أصبح بحاجة أكيدة إلى تغيير جذري في بنيته الفكرية و هياكله السياسية و الاجتماعية والثقافية، و قد جاء هذا الإدراك و الوعي نتيجة مباشرة للغزو الحضاري الغربي لديارنا واطلاع واسع على الفلسفات التي مهدت لثورة 1789م ، و التي تلتها وخاصة الفلسفة الوجودية التي جاءت معبرة عن أزمة فكرية عالمية،ما جعله يحافظ شكليا على هويته الحضارية ، و قد تمظهر ذلك في لغته المستعملة وتسميات أبطاله ، و أماكن ترددهم ، لكنه انصهر فكريا في فلسفات لا علاقة لها بمجتمعاتنا العربية /الإسلامية ، ما أدى إلى فشله و كل النخبة التونسية في تحقيق التغيير الحضاري المنشود لمجتمعاتنا ...؟
إنه ليحز في النفس أن نجد نخبنا الفكرية و السياسية ، قد انقسمت إلى نقيضين متطرفين في مواجهة الصدمة الحضارية الغربية : إما انصهار كلي في فلسفات الغرب و تتبع خطواته شبرا بشبر ، و إما رجوع إلى السلف و تشبث بأهدابهم ، ما حال دون أبصار النخبة للتحولات التي مست كل هياكل مجتمعاتنا العربية ، والقدرة على الرقي بها إلى مصاف المجتمعات المتقدمة التي غزتنا في عقر دارنا ، ونهبت ثرواتنا ، وهو ما أبد تبعيتنا الحضارية لهم و جعلنا في مؤخرة الشعوب .
فهل يعي قومي أن ما نفع "السلف" و "الغرب" في تحقيق رقيهم الحضاري هو حتما لا ينفع غيرهما من الشعوب ، فلا بد من امتلاك آليات جديدة تبصرنا بالواقع و حقائقه ، فنطهره من الشوائب و نرتقي به إلى أعلى درجات الرقي الحضاري الذي ننشده .
المصادر و المراجع
• المصدر : المسعدي (محمود)، " حدث ابو هريرة قال ..، تقديم : توفيق بكار دار الجنوب للنشر- تونس -الطبعة الثانية 1984
• محمود المسعدي: تأصيلا لكيان، تونس، مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله، 1979
• المراجع :- تقديم الأستاذ توفيق بكار" لحدث أبو هريرة قال"
- الأدب المريد للأستاذ محمود طرشونة.
• ـ محمد القاضي : الكتابة عند ألمسعدي ومسألة الأجناس ضمن : محمود ألمسعدي بين الإبداع والإيقاع، تونس، منشورات عبد الكريم بن عبد الله، 1997
• ـ خالد ألغريبي : جدليّة الأصالة والمعاصرة في أدب ألمسعدي، تونـس، دار صامد، 1994
التعليقات (0)