مواضيع اليوم

معالجة الذاكرة في شعر محمود درويش ... زين عسقلان

بلال الشوبكي

2009-07-28 13:50:23

0

بسم الله الرحمن الرحيم

 " ذاكرتي وهمِّي"

معالجة الذاكرة في شعر محمود درويش

زين عسقلان

  المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد..

على هوامش الدراسات باتت، وطوتها السنون التي شكلتها، معناها نقشته ملامح تجرّعها الفلسطيني مذ لحظة لجوئه ونزوحه، هي الذاكرة الفلسطينية، التي أضحت بين ليلة وضحاها جزء من القضية، لم يعلم كثر من أبناء الوطن أن الذاكرة هي الحصن المعنوي لحقوقهم. وتحت غبار هموم الوطن بدأت ملامح الذاكرة تتلاشى. محمود درويش لم ينتظر حتى اختفت، نبض كلامه تناغم مع معزوفة لحن الوطن، ونسيمها نفث الغبار في وجه من شكله في هموم.

 

في هذه السطور البحثية، تسعى الباحثة لأن تكون دراستها إنارة على مفهوم الذاكرة في شعر درويش، فتنطلق بداية من معالجة مجردة للذاكرة، مؤداها أن مجموعة من الأساطير والرموز التي تحكي تاريخ الإنسان وتمنحه الهوية هي التي تشكل الذاكرة، هي بذلك تنسجم مع ما رآه كارل يونغ الذي اتجه في تعريفه نحو الذاكرة الجماعية لا الفردية التي هي جزء من اللاشعور الجمعي حيث يجب أن تصل الجماعة إلى مصالحة مع رموزها للوصول إلى حالة من الاتزان.(يونغ, 1928)

 

الدراسة التي تبحث في شعر محمود درويش تأخذ تحديدا مجموعة من قصائده كتبها ابتداءً من الستينيات حتى التسعينيات, حيث نرى معالجة الذاكرة في شعره في الفترة الزمنية ما قبل أوسلو أي ما قبل عام 1993 وفترة ما بعد أوسلو, حيث تتلخص معالجة الذاكرة في فترة ما بعد أوسلو في قصيدته "الهدهد" من ديوانه " أرى ما أريد" 1990.

 

و يعد عام 1993 نقطة تحول في حياة الفلسطينيين, ونظرا لذلك التحول فإن هذه الدراسة تفترض أن الذاكرة لدى درويش لم تعد كما كانت فالمنفى أصبح يشهد ولادة جديدة عسيرة بطابع جديد ذي هوية جديدة غير واضحة المحيا, بعد أن تلاشت تفاصيل الولادات الأولى للفلسطينيين, ويظهر من خلال هذه الفرضية علاقة النتاج الإبداعي للشاعر بالزمان والمكان والرموز التي يستحضرها في شعره, خاصة الرمز الأسطوري وعلاقته بالرمز التاريخي.

 

تهدف الباحثة إلى توضيح مفهوم الذاكرة الفلسطينية التي لبست ثوبين مختلفين في شعر درويش, وتغيرت بحسب الواقع الذي حاكته هذه الذاكرة, وتكمن أهمية الدراسة في كونها تتبع لما يقدمه لنا الشاعر الفلسطيني محمود درويش من حلول لحالة المفارقة التي تصدع بها الواقع الفلسطيني حيث أن هذه الحلول الأسطورية والتاريخية جاءت معالجة للذاكرة الكبيرة التي حملها الفلسطينيون, وتتبع الباحثة في هذه الدراسة المنهج التحليلي والبنيوي عبر تتبعها للصور والرموز والأساطير عبر فترة زمنية تم ذكرها سابقا مع التركيز على التحول في الرمز الأسطوري في الذاكرة الفردية والجماعية على اختلاف مراحل الكتابة.

دراسات مرتبطة:

 

جرت هناك الكثير من الدراسات والأبحاث المتعلقة بالذاكرة الجمعية والفردية, حيث بحث العلماء آثار الذاكرة الجماعية لدراسة الروايات والحكايات وخرجوا بنظريات توضح بعضا من المفاهيم المتعلقة بالذاكرة, وتثبت عكس المتعارف عليه ككون الأساطير حقيقة وليس خيالا وأنها ليست مستوحاة من الذاكرة الفردية بل هي تعبر عن مفاهيم جماعية، وهذه الأبحاث تحدد لنا مبلغ الحقيقة في مدى علاقة الشعر بالذاكرة التاريخية، ومدى استعمالها في الأدب, وفيما يلي بعضا منها:

 

1. في دراسة له اعتبر الياس خوري الحياة سلسلة ارتبط حاضرها بماضيها القريب أو البعيد وكلما ضعفت حلقات هذه الروابط كلما هزل استعمالها في الأدب، "قد تكون الحركة الشعرية العربية المعاصرة هي التي افتتحت الالتباس بين الأسطورة والرمز، فقدمت العديد من القصائد استخدامات رمزية دلالية الأجواء أسطورية، وأصبحت الأسطورة وعاء تم وضع أبعادها في اللاوعي التاريخي"(خوري, 1982).

 

2. وما بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية يتحدث احمد عطية الله في كتابه "الذاكرة والنسيان" عن كون قيمة الذاكرة في حياة الفرد ليست بأقل منها في حياة الجماعة, وبحسبه اعتبر أن التقدم الاجتماعي يعتمد على ارتباط المجتمع بتقاليده وذكرياته الماضية ومدى ارتباط هذه الذاكرة بالأداء الأدبي هو قائم على مدى تأثيرها في النص فالذاكرة الجماعية تطغى على الفردية في بعض النصوص وفي بعضها الآخر يحدث العكس. ( عطية الله, 1980)

 

3. وحول دراسته في عالم الدلالات في الشعر الفلسطيني يتناول الياس خوري مجددا بحثا حول البدايات الشعرية لثلاث شعراء فلسطينيين: إبراهيم طوقان والكرمي ودرويش, حيث أوجد أن القصيدة تنطلق من كونها أكثر العناصر أثرا في الذاكرة الجماعية ولهذه الذاكرة معنىً ثابتا, أي أن عوامل الاحتمال في الكلمة الشعرية لا تستطيع أن تجيب على المهمات الواقعية التي فرضت على الحركة الشعرية، فالشعر هو صدى لوعي جماعي يستعير بعض نماذج ممارستها ويصبه في الذاكرة، فالقصيدة لها أن تجد وحدتها عبر إيجاد وحدة ارجاعية مع جمهورها فهي تتوحد في ذاكرة جمهورها اللغوية والسياسية والاجتماعية. (خوري, 1982)

يتبين من دراسة خوري الأولى أن الأسطورة ترتبط إلى مدى بعيد بالرمز الذي أصبح يعد عنصرا أساسيا لتكوّن الأسطورة و التي عدّها جزءا من اللاوعي التاريخي, وكل هذا يصب في كون الذاكرة أيضا مكونة من أسطورة ورموز تكاد تكون أسطورية تبدو واضحة لاحقا في قصيدة "هدهد", ويتحدث عطية الله بشكل عام عن قيمة الذاكرة الفردية والجمعية من جهة وقيمة الماضي وعلاقته بالحاضر من جهة أخرى, ومدى تأثير الجهتين في النتاج الأدبي, إلا أن ما توجده الدراسة هو أن الحاضر لدى ذاكرة درويش لم ينبع من الماضي ولم يتسببه الماضي بل تسببه واقع الحاضر, وجعل من الذاكرة نسيانا وأصبح لزاما على الفلسطيني أن ينسى لأنه أصبح بإمكانه تشييد وطنه في أي مكان تواجد فيه, حيث طالب الذاكرة الفردية أن تتكلم ملغية الماضي الجمعي الذي لن يعود.

 

ومجددا يعتبر خوري القصيدة جزءا من الذاكرة, واعتبر أن الشعر هو ما يختلج الجماعة و ما يعبر عن احتياجات الجماعة لا الفرد من جميع النواحي كالسياسية والثقافية والاجتماعية, وتتفق دراسة خوري هذه إلى حد بسيط مع فرضية الدراسة, حيث طغت الأنا الفردية في شعر درويش, مع مطلع التسعينيات على اللسان حال الجماعة مكونة ذاكرة فردية بموجبها أصبح الفلسطيني لا يحمل معه سوى اسمه لا رموزه التي اعتاد أن تكون له هناك في وطنه, والتي حاكت الذاكرة الجماعية في البدايات, وأيضا اعتبر خوري أن دلالات الذاكرة ثابتة لاتتغير بموجب التغيرات, إلا أن درويش كان مرنا في دلالات الذاكرة التي أصبحت في النهاية أسطورة تطالب بالنسيان, فالذاكرة كما ستوجدها الدراسة انطلقت من كونها جماعية وضاقت حتى أصبحت فردية, تحاكي أسطورة رمزت للفلسطينيين بعد عام 1993 تطالبهم بالنسيان الذي ينبع من التذكّر, مع ما تبقى لهم من الفردية كالإسم الذي يملكون حتى وان كان على أضرحتهم في المنفى.

 

 الذاكرة لدى محمود درويش

ماقبل 1993

يقدم الشاعر محمود درويش نموذجا حيا للشعر الفلسطيني الحديث فدرويش الذي يعتصره الم الأم الأرض و لم يبق له إلا أن يلملم جدائل الشمس التي قصها طول الانتظار يصنع من الشعر ذاكرته وذاكرة الفلسطينيين وذاكرة الوطن المتحرك من منفى إلى منفى, ولئن كان ولا يزال شاعر القضية فهو نجح في تحمل عبء هذه الصفة أو الكناية من غير أن يتخلى عنها لحظة بل عمّق هذه الصفة حتى أضحت مغروسة في تراب الماضي والحاضر فلي أن أقول انه سارق النار ومضرمها فهو مفجر الصمت حينا وهو المصغي إلى الصمت حينا آخر..متجذر كما الهوية في أرض محاصرة وزمن ألقي به الفلسطينيون على هامش الزمن, فيحمل درويش مفتاح قضيته ويمضى مقبلا ما بقي من هذا الوطن ومقدما لوحة تراجيدية لا تكاد تكون مظلمة للذاكرة الفلسطينية.

 

وفي مرحلة الستينيات (مرحلة البدايات), بدت الرموز الفلسطينية تكتسب أهمية كبيرة لكونها تجسيدا للواقع المعاش, ولكونها مستوحاة من واقع الجموع الفلسطينية فغدت علامات على زمن البدايات تبحث لنفسها عن ارض ثابتة، ثم ترتفع عبرها الدعوة إلى المقاومة.

 

ومنذ بداياته الشعرية ودرويش يتحدث عن الذاكرة الفلسطينية التي أنهكت خاصرة فلسطين و نفضت غلائلها على مساحات الفلسطينيين, فانطلاقا من " بطاقة هوية" من ديوانه " أوراق الزيتون" التي دوت كلماتها في كل شبر عربي يجسد الشاعر معاني الصمود والتشبث بالأرض الحبيبة التي أخذت طابع الأم فيقول فيها:

سجل

أنا عربي

أنا اسم بلا لقب

صبور في بلاد كل ما فيها

يعيض بفورة الغضب

جذوري قبل ميلاد الزمان رست

وقبل تفتح الحقب

وقبل السرو والزيتون

وقبل ترعرع العشب. (درويش, 1964)

 

ويبدو جليا في وعي القارئ أن درويش يتحدث عن الذاكرة الجماعية التي تظهر في التأصل الجماعي للفلسطينيين عبر مجموعة من المفاهيم التي كونت هذه الذاكرة الجماعية كالضياع والحلم بالعودة والجراح التي ألمت بهم في وطن هو منفى وفي منفى هو وطن إضافة الى الرموز التي مثلت واقعهم كالخيمة والمرايا والبحر والميناء, وأيضا امتلاء هذه الذاكرة بالحنين ونشيد البقاء الأزلي, فكأن الفلسطيني يولد منتميا لهذا الوطن وفي نفس القصيدة يعود ليقول:

وعنواني:

انا من قرية عزلاء..منسية

شوارعها بلا أسماء

وكل رجالها.. في الحقل والمحجر

فهل تغضب؟.(درويش, 1964)

فهو يعود مرة أخرى ليمثل الإنسان الفلسطيني فالأنا هي الأنا الجماعية وليست الفردية ولسان الحال هذا يتكلم بما تختلج به صدور الفلسطينيين جميعا فهو يعزز مفهوم الذاكرة الجماعية مجددا التي ينطلق منها في صياغة شعره, ففي الأبيات السابقة دعوة إلى العودة إلى البدايات حيث التمسك بالأرض وهنا تظهر صورة الأب, الفلاح البسيط وكأنه التاريخ الذي يفلح الأرض التي أمست حقل جراح تنبت جراحات جديدة, فلا يعرف سوى الأرض ولايحدث سوى الارض فقد قامت علاقة وطيدة مابينهما فيحملها رمز انتماء على صهوة الذاكرة ويذهب إلى حالة البساطة حيث ابتعاد الفلسطيني عن الآلة والدبابة التي تعكر صفو أرضه، فتركيزه على قيمة الفلاح هو برأيي رد أولي يمكن أن يتخذه في واقع كهذا، فالقيم الاجتماعية والأيدلوجية أصبحت حاجزا اجتماعيا كثيفا في مواجهة العدوان.

 

تسير قصيدة بطاقة هوية باتجاه واحد من البداية حتى النهاية يرسم بها الشاعر اتجاه الإطار القومي للمقاومة، فهي تبدأ بالفرد ثم تتحول لتصبح وصفا عميقا لظاهرة الصمود، ويتحدث عن وعن امتزاج حبه للأرض بحبه للفتاة الجميلة وعن الشتات والدخول والخروج الفلسطيني المستمر

يقول في قصيدة "أبي" من ديوانه " عاشق من فلسطين":

وأبي قال مرة

الذي ماله وطن

ماله في الثرى ضريح

ونهاني عن السفر. ( درويش, 1966)

فالسفر هو رمز متكرر الظهور في أدب البدايات ففي رواية غسان كنفاني " رجال في الشمس" رحل الفلسطينيون الثلاثة وابتعدوا بحثا عن العمل لكن النهاية كانت لهم بالمرصاد فالسفر لايكون إلا للأرض وباندماجنا بأحشاء الأرض عبر تحقيق وحدة ما بين الذات والوطن فالأم التي زينت معصم الذاكرة أمست وطنا وأرضا.

 

و قبل أن تأتينا كلماته يأتينا انفجار الشغب على شفة لفم العنوان فهو يرفض السفر والأب الفلسطيني يدعوه للتمسك وعدم ترك الوطن فهذا الثرى وتلك الشجرة وحتى أنت كفلسطيني مازلت مندمجا في أحشاء هذه الأرض.

 

منذ 1982 وحتى التسعينيات:

 

ومع الاختناق الذي أصاب الأمة في ظرف هو من أحلك ظروفها احتضرت بيروت في العام 1982, وهنا أصبحت الذاكرة الفلسطينية مستهدفة فمع ما أفرزته النكبة من لجوء والنكسة من لجوء أقسى, يولد الفلسطينيون في منفى آخر جديد, و يعاني الوضع حالة عدم اتزان وتظهر حالة المفارقة في شعر درويش فالهوية الفلسطينية لم تعد كما كانت وأصبحت الحرب حرب انتماء وبقاء للذاكرة ولا شيء أكثر..

فيقول في قصيدة يطير الحمام" من ديوان حصار لمدائح البحر 1984

يطير الحمام

يحط الحمام

إني أحبك, خاصرتي نازفة.

وأركض من وجعي في ليال يوسعها الخوف مما أخاف. ( درويش, 1984)

 

يظهر تأثير الحرب في شعره فهو يطلب الملاذ والأمان بعد أن أضنته زفرات الحرب وأذعنت بولادة جديدة بهوية يناصفها المنفى, وذاكرة تصدعها معاول الاحتلال فكأنما حالة من الفوضى عمّت الذاكرة.

ويزحف الشاعر تدريجيا للحديث عن النسيان بصورة يكاد ينجلي عنها ضباب التذكّر, وبدأت قوافله تحط في بقعة واضحة المعالم فيها يجد الحلول لما ألم به, فيتراءى لنا مجددا كيف أن الذاكرة والهوية أصبحتا مستهدفتين, فيظهر الصراع ما بين إعلان موت الذاكرة وإصرارها على البقاء حية, وفي تلك المرحلة أصبحت الذاكرة تساوي الوجود والمقاومة

ويقول في قصيدة "غبار قوافل" من ديوانه "هي أغنية" 1986:

نحن للنسيان, جئنا لتقديم المدائح

لإله فر من خيمتنا

نحن لم ندخل ولم نخرج. ولكن سوف نرمي

قوة الأشياء. هل متنا كثيرا لتخافوا موتنا

نحن للنسيان, لن نبقى طويلا ها هنا,

لن ندق الطبول, لن نزعجكم, لن تسمعوا أحلامنا

لن نطيل النوم في قريتكم, لن نقطف الوردة من بستانكم

كل صوت يحفر الصخرة- نحن

كل ناي لم يجد أنثاه- نحن

كل حلم لم يجد حالمه الأول- نحن. (درويش, 1986)

 

ويتسرب تأثير الذاكرة وضرورة العودة إليها واستنطاقها، وتبيان علاقتها بالمكان والزمان من جديد ففي مطلع التسعينيات مع إصداره لديوانه «لماذا تركت الحصان وحيداً» و «في حضرة الغياب» و «أثر الفراشة» ونحن نرى ملامح من السيرة الشخصية لمحمود ومن علاقته بالمكان الفلسطيني، تتبدى على نحو أو آخر في نتاجاته الإبداعية.

 

في مرحلة التسعينيات و مابعد 1993

 

وفي "ذاكرة للنسيان" والتي بمنظوري كان من الأصح لو اسماها أزمة ذاكرة يذكرنا محمود درويش من أجل نسياننا حق العودة و استردادا ما ضاع منا في غياهب الصمت فتاريخ هذا الشاعر هو أكثر من تاريخ وحاضره أكثر من حاضر فالمعادلة الشعرية لديه أصبحت تأخذ منحى آخر محتواه أن الذاكرة أصبحت أزمة فأصبح مطلوب من الفلسطيني أن ينسى وأن تصبح الذكريات هي السبب لهذا النسيان.

 

وفي جدارية محمود درويش ينسال أمام القارئ هما مغموسا بالغربة المقيتة وبالنسيان الذي أمسى إلزاما على الفلسطيني فدوى صوت الأنا من المنفى بامتياز ليحكي بلغة الضوء والإشراق لمواجهة حوارية ملتبسة ومشتبكة بين الذات والعالم وبين الذات والموت، مواجهة تستثير غبار الأسئلة الحارقة وتستبطن أقاصي الروح الشاعرة وأقاصي الكلام وتخوم الذاكرة القصية فيبحث درويش عن شيء ما يؤطره بين الذات والعالم ، حيث الذات تصرخ من قلب نسيان ينبع من التذكّر، فيعود يحتضن اسمه لأن اسمه هو من بقي بعد أن اقتنى هوية جديدة وذاكرة جديدة فيقول في الجدارية:

 

يا اسمي: سوف تكبر حين أكبر

سوف تحملني وأحملك

الغريب أخ الغريب

سنأخذ الأنثى بحرف العلة المنذور للنايات

يا اسمي: أين نحن الآن؟

قل: ما الآن، ما الغد؟

ما الزمان وما المكان

وما القديم وما الجديد؟ ( درويش, 2001)

فيبقى الاسم بعد أن تجاوز الزمن الذات ولم يبق منها إلا غبارا يكاد أن يندثر في ذاته فهو الطريق للتخفيف عن الفلسطيني وكأنما الاسم يحمل صاحبه لألا يذهب في غياهب النسيان أكثر وأيضا هذا الاسم أصبح يشير في هذه المرحلة من الكتابة الشعرية إلى تفجر الأنا أو الذات وطغيانها على الوعي الجمعي الفلسطيني فأصبح الفلسطيني ينظر إلى ذاكرته من منطلق فردي, وأن الذاكرة لم تعد هما جماعيا بل كل يمتلك نفسه وذاكرته ولا شيء أكثر فما يعنيني من الذاكرة لم يعد كما يعني كل الفلسطينيين.

 

ويعود ليقول في الجدارية:

"هذا الهواء الرطب لي

واسمي

وإن أخطأت لفظ اسمي على التابوت لي

أما أنا وقد امتلأت

بكل أسباب الرحيل

فلست لي

فلست لي(درويش,2001)

ويعبر مجددا عن حالة الضياع التي اعترت الفلسطيني على خارطة الوطن فيعود ليقتني نفسه ويقتني التابوت فهو ما عاد يمتلك بعد أن أمسى الوطن غريبا في الذاكرة, ولا يمتلك الا اسباب الرحيل.

 

وفي الفترة التي أعقبت أوسلو 1993 برز ما سمي بأدب العودة مشتملا على نصوص تحمل الحديث عن الذاكرة إلى جانب الروايات والسير الذاتية التي اهتمت بالحديث عن اليوميات التي درج الفلسطينيون على تدوينها بشكل كبير مكثف, ففي فترة ما قبل 1993 نشر عدد من الكتاب الفلسطينيين ما يخطه لهم واقعهم وذاكرتهم التي عنت الكثير لهم فمنهم من رسمها بلوحات كما فعل الكاتب الفلسطيني " وليد الخالدي" في كتابه " قبل الشتات: التاريخ المصور للشعب الفلسطيني 1876-1948" والذي ضم عددا من صور حية للذاكرة الفلسطينية التقطت ما بين عامي 1876-1948 تضمنت ثورة على الواقع المتوتر فقد اظهر فيها الذاكرة الصاخبة في مجتمع حيوي.

وشعر درويش تمنحه جمالياته إمكانية الحياة في أي زمان كان وفي أي مكان كان فهو عاصف بكل ما أتى ويأتي اليه فيخرج به من ذاته الصغيرة ليحتضن به العالم وينطلق نحو الآخر, وجاءت قصيدة "هدهد" منذرة بحالة الأزمة التي اعترت الذاكرة وجاء فيها الحل لهذه الحالة, عبر توظيفه للرمز الأسطوري الذي اوجد من خلاله تجسيدا للفلسطينيين.

 

قراءة تحليلية في قصيدة هدهد:

يبتدئ الشاعر في قصيدته "هدهد" من ديوان "أرى ما أريد" باستعمال لغة صعبة لتلائم الوضع الصعب والأزمة التي تعتري واقع الفلسطينيين آنذاك, فابتداء بالعنوان "هدهد" وانتهاء بالأبيات الأخيرة ينسج الشاعر ثوب الذاكرة الثاني حيث تحط كلماته في واقع هو في مرحلة ما بعد النضوج وما بعد الإدراك, ويقترح فيه حلولا لأزمة الرحيل واللاعودة.

وإن استعمال الهدهد كرمز للفلسطينيين يحمل في ثناياه دلالتين مختلفتين, الأولى في رأيي هي أن الهدهد هو طير مهاجر لا يبحث عن موطن وعلى غرار عادة الطيور التي تحن إلى موطنها فالهدهد طير مستمر الرحيل يشيد عشه في أي بقعة حل فيها وهكذا أصبح الفلسطيني في فترة ما بعد الرحيل الثالث, والهدهد أيضا هو الدليل في صحراء التيه التي ترمز في شعر درويش إلى حالة الترهل العام و الضياع التي وصل إليها المهجرون.

والدلالة الأخرى وكما وظفها الشاعر هي التي ترتبط بقصة الهدهد وسيدنا سليمان كما جاء في القص القرآني فهو من نقل أخبار بلقيس ملكة سبأ إلى لسليمان, وبلقيس التي أجبرت أن تمنح ملكها وعرشها لسليمان كأنما تمثل الفلسطينيين الذين اجبروا على أن يعتلي غيرهم ملكهم فبلقيس الضحية هي نفسها الفلسطينيون الضحايا الذين باتت دماؤهم تشرب نخب انتصار في أقحاف جماجمهم.

وعن حصار اللغة والذكرى يقول:

أسرى لو قفزت سنابلنا من الأسوار

وانبثق السنونو..

من قيدنا المكسور, أسرى ما نحب وما نريد وما نكون..

لكن فينا هدهدا يملي على زيتونة المنفى بريده.( درويش, 1990)

وكما يظهر في الأبيات السابقة لم يعد الفلسطينيون يملكون سوى اللغة التي أمست أيضا أسرا وسجنا فهي لغة محاصرة كما حبهم, فحبهم للأرض والأم حب محاصر بالمرايا التي لا يرى فيها الحبيب إلا نفسه ويرحل ليترك وراءه صخب الصدى,و يكتب الفلسطينيون للام المنتظرة من المنفى ويحمل الهدهد أسرارهم وينقلها للأرض.

وفي القصيدة يظهر تمثيل الذاكرة بلون آخر مختلف فتبدو أكثر شفافية فقد أصبحت الذاكرة أم الفلسطينيين التي تسافر في حقائب المسافرين إلى المكان واللامكان بعد أن كانت في أدب البدايات الأم التي تنتظر العائدين على عتبات الوطن, وليست هناك عودة ملموسة وإنما هناك وطن يشيدونه في أي بقعة شاءوا أن يتخذونها موطنا.

ويقدم الشاعر حلا لمعضلة الفلسطينيين عبر دعوة من الهدهد للفلسطينيين للطيران والتحليق والانفصال عن التاريخ لتحقيق الوحدة والوصول عبر الارتفاع, فيقول:

واللهَ أجمل من طريق الله. لكن الذين يسافرون

لا يرجعون من الضياع لكي يضيعوا في الضياع.

 

وتأتيه إجاباتهم :

يا ليتنا, يا ليتنا ولعلنا

سنطير في يوم من الأيام.. إن الناس طير لا تطير

ما نفع فكرتنا بلا بشر؟ ونحن الآن من نار ونور؟

أنا هدهد قال الدليل ونحن قلنا: نحن سرب من طيور

ضاقت بنا الكلمات أو ضقنا بها عطشا وشرّدنا الصدى

والى متى سنطير؟ قال الهدهد السكران: غايتنا المدى

قلنا: وماذا خلفه؟ قال المدى خلف المدى خلف المدى. ( درويش, 1990)

فهم أسرى الحب المحاصر ولا يقوون على التحليق ولا على العودة إلى التاريخ فقد أصبحت الذاكرة معلقة في فضاء ما بين الأسطورة والتاريخ, ما بين العودة ومتابعة التحليق, معلقة في فضاء الاحتمالات.

 

الأم الحزينة

الأم الحزينة إخوة من لحمنا لا جذوع الكستناء ولا الحديد

ستنجب الأم الحزينة إخوة كي يسكنوا

سعف النخيل إذا أرادوا أو سطوح خيولنا. وستنجب

الأم الحزينة إخوة ليتوجوا هابيلهم على عرش التراب. ( درويش, 1990)

وها هو يعود يقترب الشاعر أكثر من دعوة الهدهد فيأخذنا إلى البداية إلى حيث الجذور والى هدم أسطورة ارض الميعاد فهو من له الحق في المكان والأم التي أمست ذاكرة أصبحت تعطي شهادة ميلاد لمن يهاجرون ويدمنون الرحيل وتتوج وجع الفلسطينيين, تتوج الم الضحية وفي هذا عودة إلى قصة هابيل وقابيل إلى حيث تتوج الضحية.

 

وتبدو الإجابة واضحة حين يقول:

ما نفع فكرتنا بلا بشر؟ ونحن الآن من طين ونور؟

- هل كنت تعرف أي تاج فوق رأسك؟- قبر أمي

وأنا أطير احمل الأسرار والأخبار فوق رأسي مهرجان.. ( درويش, 1990)

 

الأم أم كونية يحملونها في كل مكان كوميض يخطف أنات أوجاعهم الأبدية فهي هوية المسافر وموطن الرحيل وهي التاج الذي يجعل المنفى جميلا ويربت على أكتاف الفلسطينيين ويمنحهم ولادة جديدة فهي كما التاج الذي يعتلي رأس الطيور ويجعلهم أجمل , فالفلسطينيون طيور مهاجرة تحمل الذاكرة وتحمل الوجود وتحمل اللغة.

 

 

 خلاصة البحث

يتبين من الدراسة السابقة أن مفهوم الذاكرة قد مر بمرحلة من التغيرات عبر واقع متغير متقلب ففي شعر محمود درويش, يشهد مفهوم الذاكرة نقلة نوعية منذ أدب البدايات في الستينيات وحتى التسعينيات ففي فترة الستينيات شهدت المنطقة حالة من عدم الاتزان القومي وخاصة أنها جاءت نتيجة لحرب 1948 التي ألقت بالكثير من الفلسطينيين خارج بيوتهم في خيام لا تعرف سوى حرقة الشمس والقليل من الطعام, فسمي الأدب حينها بأدب المقاومة وخاصة الشعر وبرز مفهوم الذاكرة من منطلق جماعي يدعو إلى المقاومة واستعادة الأرض ويدعو إلى التمسك وظهرت هناك عدة رموز باتت علامات فارقة على أدب تلك الفترة كالخيمة والمفتاح والمنفى وشجرة الزيتون.

وفي فترة التسعينيات شكلت الذاكرة أزمة للفلسطينيين فأصبح لزاما عليهم أن ينسوا وأن يبنوا وطنا لهم في أي مكان وجدوا فيه, فأصبح نسيانهم نابعا من التذكر وأصبحت الرموز هي رموز حسية ولم تعد ملموسة وأصبح الشك يعلو على صوت اليقين و أصبحت المرايا تعكس الأنا الطاغية على المفهوم الجماعي بحيث يرفض بها الفلسطيني أن يقول وداعا لامه المنتظرة بل يحملها ذاكرة ويشيد بها وطنا ويتحد عبرها بوطنه بعد أن أصبح التشتت أبديا.

 

  المصادر والمراجع:

عطية الله، أحمد (1980). الذاكرة والنسيان. النهضة المصرية ط2. القاهرة
خوري، الياس (1982). الذاكرة المفقودة (دراسات نقدية). مؤسسة الأبحاث العربية. لبنان.
النابلسي، شاكر(1987). مجنون التراب. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت.
درويش, محمود (1990).أرى ما أريد.دار طوبقال للنشر.
درويش، محمود (1964). أوراق الزيتون. دار العودة. بيروت.
درويش, محمود (2001).جدارية.رياض الريس للكتب والنشر.
درويش، محمود (1984). حصار لمدائح البحر. منشورات الأسوار. عكا.
درويش, محمود (1989). ديوان محمود درويش.دار العودة.
درويش, محمود (1966).عاشق من فلسطين. دار الجيل. عكا.
درويش, محمود (1986). هي أغنية.دار العودةط1. بيروت.
يونغ, كارل(1928). جدل الأنا اللاشعور.فرنسا.

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات