أجد من الضرورة بمكان ، إعادة نشر بطاقة التعريف التي ذكرت في القسم الأول من هذه الدراسة ، ويمكن الاستغناء عن قراءتها لمن قرأها سابقا :
"" ذاك عنوان كتاب هام ، أرشف للمعارك الثقافية التي دارت رحاها في الساحة الثقافية السورية بين عامي 1975 ـ 1977 أعدَّه كل من الأساتذة :
محمد كامل خطيب ـ ونبيل سليمان ـ وبو علي ياسين ..
وصدر عن دار ابن رشد للطباعة والنشر في خريف 1978..
والمعركة الأخيرة من الكتاب ص " 288 ـ 312 " ، هي معركة :
" النقد والإيديولوجيا في سوريا "
والمقال ، دراسة نقدية ، قدمْتها ـ أساسا ـ كحلقة بحث للأستاذ الدكتور فؤاد المرعي ، في السنة الرابعة في قسم اللغة العربية في جامعة حلب .. بعنوان " النقد والنقاد في سورية ـ دراسة في المناهج النقدية وتطبيقاتها "
وبنفس العنوان نشر الجزء الأول منه ، في جريدة الدستور الأردنية ـ العدد 3558 / تاريخ 24/06/1977.
وفيها أيضا ، نشر الجزء الثاني بعنوان : " وقفة مع ثلاثة نقاد من سوريا " ـ العدد 3705 / تاريخ 25/11/1977.
(( وسأنشرها لاحقا في صياغتها هذه )) ..
وحينها ، اقترح علي الصديق محمد جمال باروت أن يعيد صياغة الدراسة بمنظور منهج نقدي مختلف ، لينشرها في " الملحق الثقافي " لجريدة الثورة الدمشقية ..
وساهم معه في الصياغة الصديق صالح الرزوق ، ونشرت على قسمين في الملحق الثقافي لجريدة الثورة الدمشقية ، بعنوان :
"" النقد والإيديولوجيا في سوريا "" :
القسم الأول : نشر في العدد 36 ـ تاريخ : 17/11/1977
القسم الثاني : نشر في العدد 41 ـ تاريخ : 29/12/1977
" ولأني لم أعثر على النص الأصلي الذي نشر في الملحق الثقافي ، اعتمدت النص المنشور في الكتاب المشار إليه ، وقد نقلته بحذافيره ، ماعدا بعض علامات الترقيم " .
القسم الثاني
نشر في الملحق الثقافي ـ دمشق ـ العدد 41 ـ تاريخ : 29/12/1977
إشارة أولى :
من خلال الصيرورة التاريخية تنفرز المواقف ، وتخلق كل طبقة منهجيتها وروادها ، وبالتالي ، فإن الصراع ما بين هذه المنهجيات على المستوى النقدي ، هو انعكاس بطريقة معدة ولا مباشرة لصراع الطبقات في واقع المجتمع ، لأنه لا يوجد ، ولم يوجد ، ولن يوجد نقد مجرد يعيش في يوتوبيا معزولة عن السياق الحضاري ، والواقع الطبقي ـ الاجتماعي . فكما خلق التواطؤ التاريخي بين الإقطاع والبورجوازية منهجه السلفي التجديدي ، وكما خلقت شريحة البورجوازية الصغيرة مناهجها المتعددة بتعدد واختلاف نزوعها المتداخل فيما بينه إلى الطبقات المتمايزة، فإن البروليتاريا ـ كطبقة متمايزة ـ قد خلقت منهجها النقدي أيضا ، الذي يطبق رؤيتها لحركة الواقع والعالم على المبدعات الإنسانية .
إشارة ثانية :
إن كل دوغمائية أو ميكانيكية إيديولوجية تظهر في النقد التطبيقي ، دلالة ـ بشكل أو بآخر ـ على موقع اجتماعي معين ، أي : إنها مرتبطة بدوغمائية وميكانيكية البنية الفوقية لهذا الموقع ، ولكنها عندما ترتبط بالمفصل الإيديولوجي الاشتراكي العلمي ، فإنها تشكل ظاهرة مرضية وخطيرة ، تشابه عملية مط الحنجرة حسب مقياس معين سلفا . ولا تهمّ هنا ، طبيعة الوحدة القياسية ، هل السنتيمتر أو المليمتر أو حتى الكيلومتر ، ما دامت القضية قضية بحث عن حيز قابل لاستيعاب عدة حلقات قواعدية نظرية ، لأن الدوغمائية والميكانيكية تجمدان المبدع الأدبي في طوطم سكوني ، وتتجاهلان أول مقولة للاشتراكية العلمية ، وهي الجدلية .
إذن ، هما في الاشتراكية العلمية مرتبطان بطريقة فهم النظرية ، لا النظرية بحد ذاتها .
إشارة ثالثة :
"" إن التغير في الأساس الاقتصادي يلحق ـ بسرعة تزيد أو تقل ـ الاختلال والتحول بكامل البنية الفوقية الضخمة . وعندما نتأمل في مثل هذه الاختلالات والتحولات ، يجدر دوما أن نفرِّق ونميّز بين الاختلال ، والتحول المادي في شروط الإنتاج الاقتصادية ـ الذي يمكن لحظه والتثبت فيه بالطرق العلمية البحتة ـ وبين الأشكال الحقوقية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية ، وبالاختصار ، الأشكال الإيديولوجية التي من خلالها ، وبقناعها ، يحصل البشر على وعي هذا النزاع ويتابعونه حتى نهايته "" . ( كارل ماركس : مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي ) .
من هنا ، فإننا نميز ـ من المناهج المعبرة عن صمود الطبقة العاملة ، والمد التقدمي الثوري في المنطقة ـ تيارين ينبعان من منهل إيديولوجي واحد ، ولكن كلا منهما يذهب في اتجاهٍ تطبيقي خاص ، هو بالضرورة لا تناحري ..
هذان التياران هما :
1 ـ الاتجاه التاريخي ـ في سبيل مفهوم ثوري للطليعة العربية . ( وسنبحثه في هذا الفصل ) .
2 ـ الاتجاه التاريخي الجدلي وبداية وعي الذات . ( سندرسه في الفصل المقبل ) .
ملاحظة حالية مني : هنا ، توقع معدّو الكتاب أن يكون للدراسة فصل ثالث لم ينشر ، بناء على ما جاء في الفقرة السابقة رقم (2) . لكني لا أعلم أبدا أن للدراسة فصلا ثالثا ، وربما كان أحدهما أو كلاهما " محمد جمال باروت ، وصالح الرزوق " يعدّ قسما ثالثا لها دون أن أعلم ..
فائق المحمد :
في ضوء المعطيات التاريخية الجديدة ، أصبح لزاما على فكر البروليتاريا أن يكوِّن نفسَه ، ويصير شخصية مكتملة ( غير منتهية النمو بالطبع ) بإمكانها تحقيق نزوعها الثوري .
انطلاقا من هذه المقولة المُسَلم بها ، أفرزت الطبقة العاملة فكرا ثوريا خارجا على كل الأقاليم والطقوس القديمة المُراوحة بين هشاشة الفكر الإصلاحي ، وصدأ النظريات التبريرية .
وقد مثل منهج فائق المحمد النقدي ، الرؤية الجدلية التاريخية الحقيقية للمبدعات الأدبية ، حيث استطاع من خلال هذه الرؤية تعميق مفهوم الطليعة العربية الثورية في أبحاثه المتعددة .
& ـ دفاع عن الغموض في الشعر : ( مجلة الموقف الأدبي ، العدد الخامس 1974 ) :
يرى فائق المحمد أن رفض الغموض في الشعر عملية غائية غير مستندة إلى نقد ممنهج " فكلما ولدت مدرسة فكرية أو مذهب جديد ، انبرى المدافعون والغيورون يفتقون المعاني ، وينبشون الصفحات بحثا عن جذور تلك المدرسة ـ النائمة ـ في صفحات تراثنا " ..
إنه يرى في الغموض مذهبا ومدرسة ، أي : ظاهرة حضارية ، ليس مشكلة طارئة ( لم يعد مطلوبا من الشاعر أن يرفع عقيرته بالغناء ، ويدبج الحوليات والمعلقات على جباه الحكام وأنصارهم ، وعندما تغيَّر المضمون الشعري تبعه الشكل الخارجي ) .
وبناء على ذلك ، فإن العقيدة الحديثة ( ذات صبغة استقلالية ، تأخذ من القديم ما يناسب أجواءها وتركيبها ، وتضيف إضاءات ورؤى جديدة لها طوابع المعاصرة ) .
وأخيرا ، يربط السهولة بالغموض ، ويفرِّق بين :
1 ـ غموض تفرضه الرداءة والعجز ، وهو عبءٌ تنظيمي على إيديولوجية الفن الحديث .
2 ـ غموض شعري تمليه طبيعة المرحلة الحضارية .
& ـ أزمة المحتوى والشكل عند محفوظ في الكرنك : ( مجلة الموقف الأدبي ـ نيسان ـ 1975 ) :
( إن تحدد المحتوى عند محفوظ وبلورته للوقائع السياسية والاجتماعية عند محفوظ ، لا يقابله تنوعٌ في الأداء وثراٌ في الأساليب ) .
ويتابع الأستاذ فائق المحمد : ( إن تفكك الرواية الجديدة ليس غرضا ، وإنما وسيلة للوصول إلى التداعيات الباطنية والمؤثرات الخارجية ) .
& ـ صورة البطل في أعمال حنا مينه : " ملحق الثورة الثقافي ، العدد 12 ـ 1977 " .
يجد أن البطل أكثر نضجا ووعيا ، حين يتحول من متفرج ينشد العدالة والمساواة إلى ملتزم بعقيدة سياسية تعزز وتؤطر جميع تحركاته ، وقد انعكست على قامة البطل حتمية الصراع التي يؤمن بها في ظل ظروف الإنتاج القائمة ، وفي ظل التفاوت الطبقي .
& ـ النقد يدخل دوار البحر : " نفس المصدر السابق ، العدد 21 ـ 1976 " .
يقوم هذا البحث على فكرتين رئيسيتين :
1 ـ إن الالتزام الوحيد الذي يمكن أن نطالب به المبدع ، هو أن يكون مبدعا .
2 ـ الواقعية النقدية ليست متحجرة بالصورة التي يحاول البعض قسرها فيه ، وليس أخطر على الواقعية من تجميدها في قوالب .
نحو مفهوم ثوري للطليعة العربية :
تقدِم أبحاث فائق المحمد على تجذير الموقف السياسي ، لذلك نحمل في داخلها نظرية إيديولوجية متكاملة . ففي عمليتي الرفض والقبول ، الإدانة والمناصرة ، تتحدد نقاط فكرية هامة تشكل سلسلة مترابطة ، ونقطة البداية لتفسير آلية رفضه وقبوله ، نجدها في محاولته لتحديد ملامح الشخصية المحلية ، ومدى مطابقتها أو تباعدها عن الشخصية القومية ، حيث يبدأ من الصراع الطبقي كبوابة عامة تدخل منها التفصيلات .. الانتماء الطبقي .. المصالح الطبقية .. الظروف الحضارية .. والتنظيمات السياسية ذوات النظريات والمناهج الناتجة عن حطام التجربة العقلية والمعاناة الميدانية .
وليس دفاعه عن الغموض ـ كظاهرة حضارية أو تنبيه للمدارس الأدبية الجديدة ـ إلا صرخة واضحة ضد المذاهب القديمة ، أو بالأحرى ، المفاهيم الاستاتيكية التي تقيم للتراث تمثالا برونزيا في الساحة ـ لا يحول ولا يزول ـ على أنه الفارس الوحيد .
كذلك ، فإن تأطيره لرفض ( التوستالجية ) عملية جدلية واقعية تدين القائلين بتجانس التراث .
إذن ، فـ " فائق المحمد " ، يدعو إلى الاتجاه الجدلي التاريخي ، ومضمونه : الرجوع إلى التراث ضمن مقتضيات الحركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المعاصرة في الوطن العربي .
وهذه النظرية مناقضة ـ من حيث المبدأ ـ للإيديولوجية الإقطاعية التبريرية ، وللإيديولوجية البورجوازية الإصلاحية ، وتعمل على بلورة مفهوم علمي مركب في أبراج لولبية تعاند حقيقة الجاذبية الأرضية بأسلوب تشنجي .
وما دامت هذه النظرية لا تحني ركبتيها أمام خفراء القوانين السلفية اللاعقلانية ، فهي مؤهلة لتكون برنامج عمل البروليتاريين العرب :
ـ لا للسلفية .
ـ لا للتجديد المطلق .
ـ ولا للميكانيكية .
إن أهمية هذا الاتجاه ، تأتي من كونه نقطة تحول .. تحول الواقع العربي إلى هرَم متعدد السطوح ، يمتص الأشعة الواردة ، ثم يقوم بتحليلها إلى عناصرها الأولية ، كما كان يفعل الفلاسفة العرب الاجتماعيون المناوئون للتصورات الدينية الغيبية من أمثال : المقريزي وابن خلدون وابن طفيل ..
وفيق خنسة :
ـ 1 ـ
يضع مفهوم وفيق خنسة عن المعاصرة ، نقاطا ملونة فوق الحروف ، تفيد في إمساك طرف الخيط الذي يقودنا إلى جوهر نظريته الإيديولوجية المعاصر ـ بالتحديد ـ استيعاب إيجابيات التراث والقفز بها إلى الأمام قفزة إبداعية جديدة .
ثم يضيف ـ الجمالية والجماهيرية ـ ليكون الأدب واقعيا .. وبذلك تكون شروط ـ أو بالأحرى صفات ـ الأدب الواقعي :
1 ـ المعاصرة .
2 ـ الجمالية .
3 ـ الجماهيرية .
وبما أنها عناصر مترابطة ومتداخلة لا تفتقر إلى الوشائح الجدلية ، فهي تشكل حجر الأساس لنظريةٍ في النقد الأدبي .
وغني عن الذكر ، أن ارتباط المعاصرة بالبعد الجمالي وتأطيرهما بالجماهيرية محاولة لإغناء فكر الجماهير ـ والجماهير هنا بالذات مدلول طبقي ـ بنظرية إبداعية تساهم في صياغة وعيها الجمالي .
ـ 2 ـ
بعد مفهوم المعاصرة ، وإغناء الفكر الجماهيري بنظرية نقدية متكاملة يقوم بخطوة أكثر خطورة ، هي تحديد الموقف الفردي .. أو بعبارة أخرى : تبيان معنى الإقامة الطبقية ، وتوضيح الحركة الفردية تجاه تمايز الطبقات ، وذلك يكون من خلال سؤالين :
ـ كيف تقيّم حجة الاضطهاد ؟
ـ هل قمة الألم ، ممارسة سادية ، أم تلق مذعور ؟
نجد الإجابة في بحثه : " محمد الماغوط متسكع الأرصفة الحزين ـ ملحق الثورة الثقافي ـ عدد 3 ـ 1977 " ، فيرفض ـ وفيق ـ لكل التفسيرات الداخلية ووضعه دائرة الذات ، ضمن دائرة مركزية أكبر ـ وحسب طريقة الاستدلال على الشيء من رفض نقيضه ـ نستنتج أنه يؤكد على الظروف الخارجية وما يتولد عنها من مؤثرات وظواهر تشارك في صنع ذاتية الفرد وموقفيته ..
إن الإقامة الطبقية ليست مجرد مزاح أو ميل شخصي ، بل هي ظروف اجتماعية واقتصادية معقدة . وهذا ما قاله فائق المحمد بالضبط .
وبالتأكيد ، فالنتيجة الطبيعية التي يمكن أن نتوصل إليها ، هي انبثاق الأستاذين " وفيق ، وفائق " من خلفية واحدة ، ثم تزامن خطواتهما من أجل تعميق نظرية نقدية مستمدة من صلب إيديولوجية قاعدتها الطبقية .
وهما يلتقيان حتى في ربط العناصر ، فيؤسسان علاقة متينة بين ـ الإرث والمعاصرة وإيجابيات الماضي وضرورة التجاوز ـ للتأكيد على طبيعة نظريتهما التاريخية الجدلية .
ورؤيتهما هذه ، تتناقض بشدة مع المنهجين الظاهري والموضوعي .
فالمنهج الفينومونولوجي ( الظاهري ) الذي أسسه " إدموند هوسرل " رافق أزمة البورجوازية الروحية الخانقة في أوربا ، لذلك نصّ على ضرورة استخلاص الظاهرات النفسية أولا .
ويعتبر المنهج الموضوعي ـ كتيار نقدي ـ أبرز مدرسة نقدية في أوربا . فقد ظهرت في الثلاثينيات على أيدي " كرورانسوم ، وبلاكمور " مقرونا بأزمة الرأسمالية العالمية ، وازدياد حدة التناقض بين الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية ، والبروليتاريا ، ودعا إلى معالجة النص وحده باعتباره موضوعا .
الآن ، نستطيع أن نجد في رفض ممثلي المنهج التاريخي الجدلي ( خنسة ـ المحمد ) للمنهجين الموضوعي والظاهري توجّها نحو الطبقة الكادحة التي تتعارض مصالحها مع البورجوازية والرأسمالية بكل أشكالها .
وعلى ضوء هذه النتيجة ، تفسر أيضا ، لماذا اعتبر وفيق خنسة أسلوب حكام الخمسينيات في الوطن العربي نوعا من صناعة " المرطبات الثورية " ، إذ يرى في قصيدة : " طرفة في مدار السرطان " لعلي الجندي ( شهادة بالغة الدلالة على انحلال طبقةٍ تصدّت للمسؤولية منذ مطلع الخمسينات ، فعمدت إلى تصوير العالم من منظور دماري وتلويثه بالخراب لتقرن تنحيتها عن المراكز القيادية بظواهر سلبية ) .
لكن حقيقة الظروف الاجتماعية والسياسية في الخمسينيات ، تعطي تطورا آخر . فقد رفع الحكام ( اللافتات الوطنية ) وعملوا على " رتق " التناقضات الاجتماعية ، وصهر مختلف الفئات في طبقتهم لدعم مركزها الاقتصادي . وبالتالي : فإن رفض صناعة " هذه المرطبات الثورية والنظارات ذات الحواف المذهبة " ـ من جانب وفيق ـ عبارة عن قذف حجر في وجوه المشرفين عليها ، وليس إدانة للعمال المستخدمين ، وهذا يكفي لفرز المواقع الطبقية ، وتسليط أضواء باهرة على قواعدها المستقلة .
ـ 3 ـ
إن المنهج النقدي التاريخي الجدلي عند وفيق خنسة، هو إيديولوجية البروليتاريا العربية الآخذة في حرق قيود سلبيات المرحلة .
من هنا ، كان هذا المنهج متصاعدا مع صعود حركة التاريخ ، وتنامي البروليتاريا العربية ، ومعبرا بكل دقائقه عن صمود هذه الطبقة إلى ساحة الواقع .
نبيل سليمان :
يرتبط اسم ( نبيل سليمان ) كناقد ، بكتابيْه :
ـ النقد في سورية . الذي ينشره في ملحق الثورة الثقافي تباعا .
ـ الأدب والإيديولوجيا في سورية . الذي شاركه فيه " بوعلي ياسين " .
ويؤكد كثيرون ، أن كتابيه عبارة عن نزوة تقوم على مركب عقدة إيديولوجية .
ولكن ، ما دليلهم في ذلك ؟
حين يطرح هذا السؤال ، يبدأ الغمغمة والفأفأة . أي : تبدأ عملية " دق الماء " ، علما أن الماء سيبقى كما هو .
إن ( نبيل سليمان ) يقطع الطريق على الجميع في الاسترسال باتهاماتهم ، حين يقول :
" والواقع أنه فيما بين العرض والنقد ، يكمن أصعب ما يصادفه الناقد ، وهو الربط النقدي والجدلي بين الشكل والمضمون ، في سبيل الوصول إلى إيديولوجيا الكاتب " .
ثم يضيف : " لقد انصب جلّ اهتمامنا إذن على مضمون الأعمال الأدبية المدروسة دون أن نغفل " الشكل " ، وذلك لإدراكنا الارتباط القوي بين الشكل والمضمون ، هنا نرى مع أرنست فيشر : أن ثمة تأثيرا متبادلا بين الشكل والمضمون ، إلا أن المضمون هو الذي يولد الشكل " .
إذن ، هو يلخص العملية النقدية بالأسس التالية :
1 ـ المضمون .
2 ـ الشكل .
3 ـ الإيديولوجيا ـ المنبع .
وكل عنصر من العناصر الثلاثة ، يمتلك دائرة تتم دراسته وفقها . أي ليس هناك مجالات محددة لكل عنصر ، بل طبيعة الدراسة ، وطبيعة العمل تحددان سعة المجال ، وضيقه ، وحركة " الفضول الفني " .
وبهذا الشكل ، يرفض " نبيل سليمان " منطق الوصاية ، ولغة الوعظ الكهنوتي في الأدب ، دون أن يتخلى عن شموليته .
فهو في ختام مقدمة كتابه " الأدب والإيديولوجيا " يدعو النقاد إلى ( التحيز الطبقي ) ، وبذلك يكون قد وضع آخر جملة في " بيانه " .
إن الصورة الأخيرة التي يمكن أن نستخلصها من " بيان " نبيل سليمان وبوعلي ياسين ، مشرقة كثيرا ، وفائقة الأهمية . فهي تصرّح بوضوح تام ، أن النقد غير الحرب وإعلان النفير وإشعال الحرائق ، لكنه أيضا لا يخلو من فعل انقلابي .
وما طبيعة الدور الانقلابي الذي يلعبه خفاش متعلق بشجرة ورأسه متدل إلى أسفل ؟!
بالتأكيد .. لن يستطيع شيئا سوى الحلم ، والحلم المقلوب الذي يمشي على رؤوس أصابعه فقط ..
وهنا أتت أهمية " الانحياز الطبقي " .
ولما كانت البروليتاريا هي المستفيدة الوحيدة من الصراعات الطبية التي تأتي خطوة ثانية بعد " الوعي الطبقي " كنقلة هائلة السرعة إلى حد توازي الحركتين .. " الوعي ، والصراع " ، فإن جهود " نبيل سليمان " النقدية تنصب في صنع مؤشرات حقيقية تشير إلى درجة متقدمة من الوعي النظري والعملي لفئة البروليتاريا .
ونستطيع أن نلاحظ على المنهج النقدي السابق هذه الملامح :
1 ـ توافق حركتي النفي الشامل وتحقيق الوجود الذاتي . ونحن نعرف أن البروليتاريا عندما تعبر عن طبيعتها ، فغنها تبدأ حركة النفي الشامل للقيم البورجوازية كلها ، كما تبدأ حركة تحقيق الوجود الذاتي ، بحيث تتزامن الحركتان وتتداخلان تلبية لطلب واحد ، هو المطلب الكلي الشمولي ، وهذا يوازي خفض البروليتاريا للمجتمع البورجوازي إلى مرتبة الخصوص بعد عموميته وشموليته السابقة .
2 ـ هكذا ، فإن وعي البروليتاريا لذاتها ، يقتضي الوقفة السليمة والارتقاء الاجتماعي لنسف كل الفئات والمؤسسات البورجوازية معبرة عن شموليتها .
3 ـ لقد نسي " زكريا تامر " أنه كان عاملا .. وبدلا من أن يقبل بوساطة المثقفين بين أدبه وجماهير العمال والفلاحين كضرورة مكروهة ، نراه يجعل من الضرورة فضيلة . " هذه المقولة عن زكريا تامر " . ليست إلا الخطوة الظاهرة . أما فيزيائية الحركة ، فيحددها قول " غرامشي " التالي : ( ليس المثقف مجرد انعكاس عن الطبقة ، فكل طبقة تحتاج إلى وسيط لتلعب دورها التاريخي حيث لا يكفي وجود شروط موضوعية للتحويل الاجتماعي ، ولكن يجب هنا تجلي الوعي وارتفاع الإرادة ، وهذان لا يصدران إلا عن المثقفين . فبخلو الساحة منهم ـ أي من المثقفين ـ يتعثر التقدم حتى تنجيهم الحياة ) .
4 ـ إن نبيل سليمان ـ كناقد مادي ـ يعطي الأولوية في دراساته لعامل الضرورة العملية على العامل الذاتي ( الوجداني ) . لأن الحياة لا تعدو أن تكون طرف المعادلة الأول ، ثم تأتي بعد إشارة المساواة التقريبية نشاطات الحياة نظرية كطرف آخر للمعادلة المتوازنة تقريبا .
لذلك ، فـ ( نبيل سليمان ) لا يبحث عن تفسيرات في الذهن البشري ، وإنما يحمل فانوسه ويتحرى علاقات الإنتاج والتبادل .
فحين يرى " فؤاد كحل " ـ مثلا ـ في سباحة " غادة السمان ضد التيار عملية ثورية مسلحة بوعي اجتماعي ورؤيا واسعة شاملة ، فإن نبيل سليمان يرى ذلك ( رؤية مشوشة ليست أكثر من عملية تعميم خاطئ جعلت من الحالة الفردية حالة عامة ، اعتمادا على ظواهر الأمور التي تخدع ، غافلة عن كوامنها الثورية ) .
5 ـ حين نفينا عن نبيل سليمان ـ في مقدمة الدراسة ـ تهمة الميكانيكية ، ووجدنا فيه ناقدا ديالكتيكيا ، اعتمدنا في قولنا على دليل مادي .
فالانتقال من الديالكتيكي يتميز عن الانتقال غير الديالكتيكي ـ برأي لينين ـ بالقفز .. بالتناقض .. بانقطاع الخط المتصل .. ولكن أين القفزات والتناقضات أو الفراغات الناتجة عن انقطاع الخط المتصل في ( الأدب والإيديولوجيا ) ؟ ..
6 ـ أخيرا : لما كنا نعرف ارتباط المادية الديالكتيكية بثورة البروليتاريا ، فإننا نستطيع أن نجد في جهود نبيل سليمان النقية ما وجدناه لدى وفيق خنسة وفائق المحمد من محاولة جادة ومخلصة في سبيل إيجاد مفهوم ثوري للطليعة العربية ، تستطيع بتمثله وممارسته إدراك علاقات ما خلف السور ، بعكس ذوي النظرات المثقوبة الذين يثيرون سلسلة لا متناهية من الصراخات في الفضاء الخارجي ، لا تتجاوز شفاههم اليابسة والمغلقة بأقفال من الظروف الاقتصادية والسياسية المرهقة .
1977
التعليقات (0)