ظلت مظاهر الثراء مقترنة عموما، بمواقع الجاه والسلطة والنفوذ، غير أن هذه المظاهر اتخذت في المغرب "خصوصية" معينة، تمثلت بالأساس، في تلازم السياسة بالمال، وذلك لطبيعة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي ببلادنا، حيث ظل من قبيل "المسلمات" مثلا أن وجود زيد أو عمْر، في أحد مواقع تدبير الشأن العام، مهما صغر أو كبر، يعني "مُباشرة" أن المعني سينتقل من حال الفقر، إذا كان من أصول اجتماعية متواضعة، إلى الغنى، أما إذا كان سليل أهل ثراء وحسب ونسب، فسوف يزداد "الخير عَلْ الخمير" كما نقول. لذا كان من "الطبيعي" أن تتخذ مظاهر السلطة، في أعلى مستويات التدبير السياسية والاقتصادية، كل تلك الفخفخة و "الأبهة" التي نعرف. وذلك باعتبار أن "دار المخزن" ورجالاتها، هم أصحاب الحل والعقد، ولا وجود لفاعلين سياسيين واقتصاديين.. إلخ من خارجها، إلا فيما فَضُلَ عن الدار المذكورة، وبالتالي فإن بيت النفوذ والمال، يظل قابعا فيها "حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا" كما جاء في الآية القرآنية.
لذا لم يكن غريبا، أن بساط السلطة في المغرب، شهد عبور عشرات من رجالات المخزن، من مختلف المواقع، ممن استغلوا قربهم، بهذا القدر أو ذاك من مربع القرار، الذي هو القصر، من الذين راكموا الثروات والإمتيازات، الأمر الذي يجعل مسألة حصرهم، في حاجة إلى التدقيق، في عدد لا يُحصى من "السجلات"، أما إحصاء ثرواتهم، والمنافع "العميمة" التي راكموها، فعملية "تيتانيكية"تتطلب فُرق بحث مُتخصصة، وعشرات المجلدات. وكمثل جزئي، على ذلك، فإن لجنة البحث والتقصي البرلمانية، التي تشكلت من بضع سنوات خلت، للنظر في التجاوزات المالية والتدبيرية، بصندوق القرض العقاري والسياحي، احتاجت إلى نحو سنة، من العمل، ليصدر تقرير في أزيد من أربعامائة صفحة، خُصصت لطرق النهب التي شهدتها المؤسسة البنكية المذكورة. هذا بغض النظر عن وقوف اللجنة البرلمانية، التي ترأسها "رحو الهيلع" عند "ويل للمصلين.." في تحديد المسؤوليات، وذلك باعتبار الحساسية السياسية للموضوع، حيث لم يتم الإستماع، مثلا، إلى الإفادات الخطيرة، التي أدلى بها أكثر من طرف معني، كان من بينهم المدير العام السابق للقرض العقاري والسياحي "زين الدين الزاهيدي" الذي تحدث في الصحافة، عما أسماه بـ "مسؤولية شخصيات نافذة من القصر" في إفلاس البنك المذكور".
إنه غيض من فيض علاقة "الحب" المميتة التي توجد بين السلطة والمال في بلادنا. واليوم فإن ذات سيناريوهات الماضي تتكرر، من خلال مُعطيات "شحيحة" توجد هنا وهناك، عن بعض أوجه استغلال النفوذ في محيط القصر، لمراكمة الثروات والإمتيازات.
في هذا الملف الذي أنجزناه، حول الموضوع إياه، عملية تركيب، لبعض تلك المعطيات، من خلال "سِيَرِ" بعض النافذين في مربع الحكم، حوالي الملك "محمد السادس"، كما ناقشنا الموضوع من بعض جوانبه السياسية والتاريخية، وحاورنا أستاذ الاقتصاد المعروف "إدريس بن علي" فكانت هذه الحصيلة.
قصة زواج "المتعة" بين دار المخزن والمال
تفتقت القريحة السياسية لنظام المخزن، خلال بعض مراحل، ما بعد الاستقلال، عن وصفات عقابية مشهودة، لبعض كبار خدامه، وذلك بتهمة تبديد المال العام تارة، وفساد الذمة التدبيرية تارة أخرى، كما حدث خلال السنوات الأولى من عقد سبعينيات القرن الماضي، وبالتحديد سنة 1973، حيث عمد الحسن الثاني، في محاولة لمنح "مُتنفس" سياسي عقب محاولتين انقلابيتين عسكريتين، إلى تقديم مجموعة من الوزراء، على قارعة طريق وسائل الإعلام، إن صح التعبير، والمتابعة القضائية المشهودة، عبر محكمة "العدل الخاصة " التي أُحدثت خصيصا لهذا الغرض، باعتبار أنهم استغلوا نفوذهم للإثراء غير المشروع. ثم كانت بعدها متابعات لكثير من خُدام المخزن، فرادى أو جماعات، منها مثلا، تلك التي حدثت في أواسط عقد تسعينيات القرن الماضي، وبالتحديد سنة 1996، وكانت عبارة عن "هجمة" مُفارِقة على بعض رجال الأعمال المغاربة، سميت بـ "حملة التطهير" قادها بغير قليل من الجلبة وزير الدولة في الداخلية "إدريس البصري".. كما كانت هناك أخيرا وليس آخرا، تقارير الافتحاص، في ماليات مجموعة من الصناديق المالية العمومية، نظير القرض العقاري والسياحي، والقرض الفلاحي، والبنك الوطني للإنماء الاقتصادي، وفيديرالية أرباب المطاحن.. إلخ في السنوات الأولى من حكم محمد السادس.
والواقع أنه لا أحد من "الفاهمين" كان يجهل أن هذه "الحَرْكَاتْ" المخزنية ليست سوى الشجرة التي تُخفي الغابة، باعتبار أن استغلال النفوذ، في أبعاده الأصلية والكبيرة، يوجد في قلب دار المخزن، أي بالتحديد ضمن "الشلة" المحيطة بالملك. وقد تسنى معرفة بعض تفاصيل هذا الاستغلال، من خلال الكثير من المعطيات "المتسربة"، منها مثلا تلك التي أتت على ألسنة مسؤولين سابقين "غاضبين"، من بينهم الرئيس المدير العام السابق لصندوق القرض العقاري والسياحي "زين الدين الزاهيدي" الذي أتى على ذكر بعض التفاصيل المهمة بهذا الصدد.
هكذا علمنا مثلا، أن العديد من المؤسسات المالية والبنكية "العمومية" هي عبارة عن صناديق سوداء في خدمة كبار رجالات "دار المخزن" وأن إفلاسها الذي كلف المالية العمومية مئات الملايير، يتجاوز بكثير مسؤولية رؤسائها الإداريين، باعتبار أنهم ليسوا سوى مُنفذين، استفادوا من الإطار العام للاختلالات الموجودة، في علاقة الجهاز التنفيذي للدولة بالمال العمومي، وذلك مصداقا، لما قاله أحد هؤلاء المسؤولين الإداريين، عن مؤسسة مالية، لكاتب هذه السطور ذات يوم: "نحن مجرد منفذين إداريين، وجدنا أنفسنا ضيوفا على مأدبة اغترفنا منها حسب المُستطاع، أما أصحابها فنالوا كل شيء، ومنحوا لأنفسهم ترف مُتابعتنا".
ثمة مُعطيات طريفة، بصدد مأساة إفراغ مؤسسات المال العمومي، منها مثلا أن ممثل المغرب السابق في الأمم المتحدة "أحمد السنوسي" ارتمى على قدمي الحسن الثاني باكيا، حينما ضغط عليه مسؤولو القرض العقاري والسياحي، لاستعادة ديون على ذمته، أنفقها في تشييد مركب سياحي شمال البلاد، فكان أن أعفاه الحسن الثاني من الدين الضخم، باعتبار "مخدومية" الرجل للعرش، ناهيك عن دوره كـ "مؤنس" في الجلسات الخاصة للملك.
كما أن الحسن الثاني "اكتشف" متأخرا، الثروة الكبيرة التي راكمها بعض من كبار مُساعديه، منهم مثلا "صديقه" ومستشاره "أحمد رضا اكَديرة" وذلك حينما نشبت خلافات، بين ورثة هذا الأخير وأحد أصدقائه، "مارسيانو" حول التركة المالية والعقارية الكبيرة جدا، التي خلفها "اكَديرة" وهو الخلاف الذي وصل إلى القضاء، وخسره أبناء رضا اكَديرة. كما أن الكاتب الخاص للحسن الثاني، وأمين سره في كل دقائق وتفاصيل ثروته وممتلكاته عبر أنحاء العالم "عبد الفتاح فرج" مات سنة 1995 مخلفا ثروة طائلة، قُدرت بنحو 600 مليار سنتيم، نقلها قبل وفاته حتى آخر سنتيم إلى ألمانيا، موطن زوجته، وبما أن "عبد الفتاح فرج" لم يترك ذرية وراءه، فقد آلت الثروة الهائلة بكاملها، إلى زوجته الألمانية، لقد كانت تلك هي خاتمة مطاف سعي دؤوب من الكاتب الخاص للحسن الثاني، لمُراكمة الثروات، بعدما كان قد حل على الديوان الملكي، منذ عشرات السنين، وهو لا يملك شروي نقير كما يُقال.
غني عن القول، إن هذا ليس سوى غيض من فيض، عبَّر عنه يوما طريد القصر القتيل "هشام منداري" بطريقته، في حوار معنا، حيث قال: "إن أبسط موظف في الديوان الملكي يملك على الأقل، منزلين ويبعث أبناءه للدراسة في الخارج".. إذا كان هذا هو حال "بسطاء" دار المخزن، فما بالك بكبار الحيتان التي "ترتع" في النفوذ والمال بلا حسيب ولا رقيب؟
إنها بعض من تفاصيل الماضي القريب، أما مُعطيات الحاضر القريب، فتُفيد أن "دار لقمان ما زالت على حالها".. إذ يكفي أن نُلقي النظر إلى سِيَرِ بعض المُقربين من البلاط، حوالي الملك محمد السادس، كمنير الماجيدي أو أندري أزولاي، أو فؤاد علي الهمة وآخرين، لنفهم أن نفس عجلة إثراء أصحاب النفوذ ما زالت تدور، بنفس القوة إن لم يكن أكثر، وإلا فما معنى أن يتحول رجل مثل "الماجيدي" من قاع المستوى الاجتماعي، إلى واحد من أثرى أثرياء البلاد في "رمشة عين"؟
ثمة العديد من "دعائم" هذا الواقع، السياسية والتاريخية والاجتماعية، منها مثلا ما عبر عنه الأستاذ "إدريس بنعلي" في حوارنا معه، يجده القارئ ضمن هذا الملف، من أن السبب يكمن في عدم وجود ميزان قوى سياسي في البلاد، يطرح مسألة المال العام على بساط التفاوض، أي ما أسماه "ذ. بنعلي" بموت الأحزاب، وعدم مُقاومة المجتمع لما يقع بين ظهرانيه في قلب الشأن العام.
إن من الأسباب السياسية والتاريخية كذلك، أن المغرب اعتُبِر "عرفا" مِلكا للملك، وهو ما تكرس عبر مراحل الصراع التاريخية، بين المخزن والقبائل تارة، وبين الأول وبعض وجوه البرجوازية المغربية، في مرحلة ما بعد الاستعمار، ومن الطريف هنا، أن نذكر واقعة تمثلت في أنه أتى حين من الدهر، على الملك محمد الخامس، قدَّم طلبا لحكومة "عبد الله إبراهيم" في شأن انتقال مِلكية قصر مدينة الدار البيضاء، إليه، كما أنه نادى مرة على وزير الاقتصاد والمالية في نفس الحكومة "عبد الرحيم بوعبيد" وشكا إليه الحالة المزرية، التي كانت عليها زرابي القصر الملكي بالرباط. وما دام الشيء بالشيء يُذكر، فقد جاء في مذكرات أول رئيس وزراء سياسي قوي في تاريخ المغرب الحديث هو "عبد الله إبراهيم" أن الحسن الثاني طلب منه، حينما نجح في عزله وأخذ مكانه سنة 1959، أن يمنحه مفتاح الصندوق الأسود، أي حيث "تربض" الأموال غير المعروفة من مداخيل الدولة، فكان أن أجابه "عبد الله إبراهيم": "الصندوق الأسود ماعندناش فالحكومة راه عندكوم فالقصر".
إنها بعض "إفادات" التاريخ، لكن هذا الأخير يصنعه الأقوياء. لذا فستستمر سلسلة "رواية" زواج "المتعة" بين السياسة والمال، طالما أن هناك حكاما يُمسكون بنواصي الأمور، مُقابل محكومين "في دار غفلون".
فؤاد عالي الهمة: اهتبال الفرص المالية بلا ضجيج
قلما تم تناول الجانب المالي والاقتصادي في "السيرة" التنفيذية السابقة، أو السياسية الحالية، لفؤاد عالي الهمة، المُلقب بـ "صديق الملك".. هل لأن الرجل أقل "اهتماما" بالفرص المالية "السانحة" باعتبار قُربه من "دار المخزن"؟ أم أنه لا يُريد أن يُقرن اسمه بتلاعبات مالية واقتصادية، فيصبح اسمه مادة دسمة لبعض الصحف، كما حدث مع "زميله" وغريمه في البلاط "محمد منير الماجيدي" وغيره؟
يبدو أن "الهمة" فهم "المقلب" الشائك الذي يصنعه التكالب على المنافع والمصالح المادية والاقتصادية، لذا اختار أن يُقدم نفسه سواء حينما كان إطارا تنفيذيا في وزارة الداخلية، أو عندما "اختار" أن يُطوح بنفسه في تجربة سياسية مثيرة، لا تقل عن تأسيس حزب "الأصالة والمعاصرة" ودخول غمار تجربة مُغايرة.. (أن يقدم نفسه) باعتباره مشغولا بقضايا تدبيرية (أمنية) وسياسية حزبية، أكثر من رجل مخزن مُهتبل لفرص الاغتناء. غير أن هذا لا يعني، حسب المعطيات التي توفرنا عليها، من أكثر من مصدر، أن "فؤاد عالي الهمة"، "قد نسي نصيبه من الدنيا" كيف ذلك؟
انتبه "الهمة" إلى مجالات المال والأعمال، غداة حدث تفجيرات 16 ماي 2003 بالبيضاء، حيث تحول إلى مُهندس للترتيبات الأمنية في البلاد، وهو ما منحه سلطة تنفيذية ورمزية، زكاها قُربه من الملك محمد السادس، لذلك وجد الفرصة مواتية، ليقترب من عرين غريمه في دار المخزن "منير الماجدي" حيث عمل على الدفع ببعض المحسوبين على شلة حُلفائه وأصدقائه، في مجال المال والأعمال، ومن بينهم "عزيز أخنوش" - وزير الفلاحة والتنمية القروية والصيد البحري الحالي، وخالد الودغيري الرئيس المدير العام السابق للتجاري وفا بنك، وغيرهما، وذلك تمهيدا لإيجاد موطئ قدم صلب، في تجمع الفيدرالية العامة للمقاولات المغربية، وهو ما تأتى له فعلا، من خلال انتقادات لاذعة ألقاها في بركة رجال المال والأعمال المغاربة، منها نعتهم بعدم المساهمة في الاستثمار بالشكل والقدر المطلوبين، لمساعدة الدولة، في التخفيف من حدة البطالة، مما ينتج تدهورا اجتماعيا وأمنيا بالبلاد. وأفلحت الخطة، حيث أصبح بين رجال الأعمال المغاربة أناس أكثر "انتباها" لثقل الرجل الملقب بـ "صديق الملك".. وثمة ذلك التجمع، الذي عقده هذا الأخير باسم "حركة من أجل كل الديمقراطيين" منذ نحو سنة، في مدينة الدار البيضاء، مع مجموعة من المستثمرين ورجال الأعمال المغاربة، الذين حجوا بكثرة ونوعية ملفتين، يؤكد الدور الذي بات للرجل في حظيرة المال والأعمال بالبلاد، وحسب ذات المعطيات التي بين أيدينا، فإن "الهمة" وجد "الوصفة" المناسبة للاستفادة من "تغلغله" بين صفوف رجال العمال المغاربة، المشغولين بهاجس إرضاء المخزن ورجالاته، حفاظا على مصالحهم، ما يُفيد - أي المعطيات - وجود حسابات بنكية عديدة في أكثر من بنك مغربي، منها "التجاري وفا بنك" و "البنك المغربي للتجارة الخارجية" و "البنك الشعبي".. إلخ، هي بمثابة صناديق سوداء يغترف منها "الهمة" لتمويل مشاريعه السياسية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، المؤتمر التأسيسي المشهود لحزب "الأصالة والمعاصرة" بمدينة "بوزنيقة" ومهرجان "أوتار" الذي نظمه مؤخرا، بمدينة "بنجرير" (وهو مجال دخله حديثا، لمنافسة غريمه "الماجيدي") غير أن ذلك يتم بشكل "عادي" لا يُلفت الانتباه، ولا يُثير "شهية" الصحافيين. وهو ما يتماشى ورغبة الرجل - أي الهمة دائما - في إضفاء طابع السرية على سيرته المالية، سيما أن عدم وجود افتحاصات مالية مُنتظمة ومدققة، لماليات التنظيمات السياسية، ناهيك عن الشخصيات النافذة، في مربع الحكم، يمنح للهمة "ستارا" غامقا يحول دون الكشف عن "البئر" المالية الغائرة، التي "يغترف" منها. وفي هذا الإطار فإن ثمة ضمن ذات المعطيات، ما يُفيد أن الهمة "حلب" صديقه" أخنوش، مما جعل هذا الأخير يُعاني الأمرين من ذلك، ولعل الخلافات الأخيرة بين "الصديقين" تُعزى لهذا الأمر أكثر من أية اعتبارات أخرى.
محمد منير الماجيدي: سيرة مالية مُدوية
استطاع "محمد منير الماجيدي" الملقب بـ "م3" أن يصبح في فترة وجيزة، أحد أكثر رجالات "العهد الجديد" نفوذا، وذلك بمحض صدفة نادرة، فصداقته المبكرة لابن عمة محمد السادس "نوفل عصمان" الذي انتقل إلى دار البقاء، وهو في مرحلة الشباب الأولى، منحت لـ"منير الماجيدي" (المنحدر من أسرة، متوسطة كانت تقطن بحي التقدم الشعبي بالرباط، حيث كان الأب موظفا بسيطا بوزارة العدل) فرصة العمر، من خلال التردد على محيط محمد السادس وشلة أصدقائه، وصادف أن الاثنين (محمد السادس والماجدي) يهويان نفس الرياضة البحرية، أي التزحلق على الأمواج، فانعقدت عرى الصداقة بينهما، منذ سنوات عقد ثمانينيات القرن الماضي، مما جعل "الماجيدي" يحصل على منحة دراسية مجزية، في مدينة "ستراسبورغ" الفرنسية، سنة 1983، ومنها إلى أحد معاهد التدبير المالي والاقتصادي، بالولايات المتحدة الأمريكية، وبذلك فإن "الماجيدي" يعتبر الوحيد الذي اختلط بشلة أصدقاء محمد السادس، دون أن يكون قد مَرَّ عبر "الكوليج رويال".. وعندما تولى محمد السادس الحكم، تسلم مهمة إدارة الكتابة الخاصة للملك، حيث اتسع مجال تدخله ليبلغ الإشراف على تدبير الثروة الملكية، من موقع رئاسة مجموعة "أونا" الضخمة. كشف "الماجيدي" عن "مواهبه" في مُراكمة الثروة، بشكل مبكر، وذلك من خلال عمله على تأسيس شركة "إيف سي كوم" التي أصبحت في وقت وجيز الأكثر تدخلا واستفادة، من قطاع اللوحات الإشهارية، وهو ما جعل مجلة "لوجورنال" تلقبه في بداية سنوات الألفية الميلادية الجديدة بـ "سيد اللوحات الإشهارية" كناية عن فيلم هوليود الشهير "سيد الخواتم".. كانت البداية أواخر سنوات تسعينيات القرن الماضي، حينما كان الحسن الثاني وكبار مُساعديه مُمسكين بزمام الأمور، وبينما دافع الماجيدي عن عملية "ميلاد وازدهار" شركته الإشهارية، بالقول إنه مولها من الأرباح التي حققها من مُعاملاته في بورصة الدار البيضاء، انبرى له وزير الداخلية السابق "إدريس البصري" من منفاه الباريسي، حيث قال لبعض الصحافيين، في بحر سنة 2004، إنه هو الذي دعَّم ملف الماجيدي للحصول على حصة الأسد، ضمن سوق اللوحات الإشهارية بالعاصمة الاقتصادية "لم يكن لدى الماجيدي ضمن ملف ترشيحه للفوز بالصفقة المربحة، سوى اسم سيدي محمد، حينما جاء إلى مكتبي لمناقشة الصفقة". كما قال "البصري" ساخرا.
لم يتوقف "الماجيدي" عند هذا الحد، بل حشر نفسه فترة قصيرة بعد ذلك، في شبكة أجهزة الهاتف النقال، حيث حصل على امتياز تسويق من طرف اتصالات المغرب، التي ساهمت في تمويل حصة "م3" وسرعان ما غدت شركة "الماجيدي" الصغيرة (جي سي إيم المغرب) الموزع الأول للهواتف النقالة بالبلاد، خمس سنوات بعد ذلك، اندلعت فضيحة مالية من العيار الثقيل، وذلك بمناسبة دخول شركة اتصالات المغرب إلى بورصة البيضاء، حيث اقتضى الأمر، الكشف عن حساباتها المالية، ليتبين أن شركة الماجيدي (جي سي إيم المغرب) راكمت ديونا من شركة اتصالات المغرب بلغت 30 مليار سنتيم، لم تتم استعادتها قط، وهو الدَّيْن الذي تم إلقاؤه، على عاتق إدارة الشركة المستدينة، وليس صاحبها أي الماجيدي. والسبب هو أن هذا الأخير كان قد أصبح منذ سنة 2000، يشغل منصب الكاتب الخاص للملك، وبالتالي إشرافه على إدارة الثروة الملكية، سيما تلك المرتبطة بمساهماته المتعددة في مقاولات مجموعة "أونا". ثمة ما يُفيد أيضا (وهي معطيات تحتاج إلى أدلة) أن اسم الماجيدي، يوجد ضمن مشاريع استثمارية ضخمة في الخارج، سيما في "اللوكسمبورغ" جنة المال والأعمال، بالنسبة لسياسيي بلدان العالم الثالث، وهو معطى لم يقل بشأنه "مكتب الصرف المغربي" (الوصي على مراقبة حركة الرساميل المغربية في الخارج) شيئا، باعتبار حساسية الموقع الذي يشغله المعني، أي "الماجيدي".. غير أن هذا لم يمنع من ورود اسم هذا الأخير ضمن سجل شركات كبيرة في "اللوكسمبورغ" سنة 2005 باعتباره مشرفا على شركة "أوريون س.أ".
وتظل واقعتان مشهودتان، عن علاقة "الكاتب الخاص للملك" بمجال صفقات الإثراء، علامة بارزة بهذا الصدد، تتعلق الأولى باستفادته من صفقة عقار تارودانت، التي فوتتها له وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية سنة 2007، بسعر لا يتجاوز 50 درهما للمتر المربع، في حين أن ثمنه في السوق يصل إلى نحو 5000 درهم، واكتشاف استفادته من رخص النقل العمومي بواسطة "الكيران" بين البيضاء وزاكورة. وأخيرا وليس أخيرا، ما يُنشر على أعمدة الصحافة، بخصوص التمويل الضخم لدورات مهرجان "موازين" الذي يشرف عليه "الماجيدي" والذي تصل ميزانيته إلى أزيد من ثلاثة ملايير سنتيم، حسب تقديرات العارفين، وذلك في غياب أدنى معلومة عن مصادر التمويل، وطرق صرفها، ناهيك عن مُضاهاتها بعنصر المردودية، وفي ذلك نموذج صارخ عن "زواج المتعة" بين موقع التأثير في "دار المخزن" ومجالات "المال والأعمال".
عبد السلام جعايدي: هرب بحقيبة من الماس وعاد إلى دار المخزن
اقترن اسم آل جعايدي بدار المخزن من خلال رجل سلطة برتبة "قائد" بسيط، وقد رأى أول أبنائه "عبد السلام" النور في حي "تواركَة".. ليبدأ حياته المهنية كمصور في وزارة الإعلام (الاتصال حاليا) ثم تزوج في بداية عقد سبعينيات القرن الماضي، من امرأة أمريكية، هاجر معها إلى بلاد العم سام، وهناك تمت إحالته على وظيفة إدارية بالقنصلية المغربية بمدينة نيويورك
لـ "يتخصص " في تموين القصر بمستحضرات العطور، والمواد الغذائية، وقطع الأثاث و "قنص" العقارات المُناسبة، لفائدة القصر، كان "عبد السلام جعايدي" يشتري كل شيء كفيل بنيل رضا الحسن الثاني، وأفراد أسرته، ويتصرف في ميزانية تصل إلى 200 مليون دولار سنويا، وعلى سبيل المثال، فإن المصاريف الخاصة بالعطور وحدها، تصل إلى أربعة ملايير درهم، ومثلها لمستحضرات البخور، وذلك لتموين ما يقرب من ثلاثين إقامة ملكية في الداخل والخارج. هذه "الخدمات" جعلت "عبد السلام جعايدي" يحظى بمكانة لدى الحسن الثاني، ليشكل هذا الامتياز الأساس "التجاري" الذي "اشتغل" عليه أبناء "القايد" جعايدي، وكثير من أفراد عائلته، ليكون لهم موطئ قدم، في كثير من المناصب الإدارية للدولة، سيما بوزارة الخارجية، حيث تتداول الألسن مُعطيات مُرتبطة بالنفوذ المتعاظم لـ "آل جعايدي".. وتخص مُراكمتهم لعدد كبير من المناصب السامية كسفراء، وقناصل ورؤساء مصالح.. إلخ. ومن بين أسماء هذه العائلة يبرز اسما عبد السلام وعبد الرزاق جعايدي، فالأول شغل لفترة طويلة مهمة سفير مكلف بالشؤون القنصلية بمدينة "نيوورك" ، غير أنه ظل حسب مُعطيات نشرها عنه الصحافيان الفرنسيان "كاترين غراسييه" و "نيكولا بو" في كتابهما "حينما يصبح المغرب إسلاميا".. (ظل) "مشغولا" أغلب الوقت بتموين حاجيات القصر بأحدث المعدات التكنولوجية والألبسة والعطور.. إلخ.
و"تخصص" في الإشراف على السفريات الخارجية لأعضاء الأسرة الملكية، على مدى أزيد من ثلاثين سنة، كما أنه يُعتبر الوصي على شؤون الإقامات الملكية، بكل من مدن "سومرست" و "ويستشيستر" و "برونكس فيل".. وذلك من موقع شغله لمنصب سفير مكلف بالشؤون القنصلية بمدينة واشنطن، مما جعله يكتسب مكانا "مؤثرا" لدى أفراد الأسرة الملكية. ومن طرائف ما رُوي عن "عبد الرزاق جعايدي" لحظة إبلاغه بخبر وفاة الحسن الثاني يوم 23 يوليوز 1999، أنه استبد به الهلع على مصيره، مُعتقدا أن الملك الجديد "محمد السادس" ليس كوالده في الاهتمام بـ "خدماته" الخارجية "المعقدة" فما كان منه إلا أن جمع ثروة من أحجار الماس الثمينة، في حقيبة يد، وشد الرحال إلى إنجلترا، غير أن الإشعار بهربه سرعان ما تلقفته الأجهزة الأمنية السرية، ليتم إيقافه في مطار "هايتوورت" بلندن، وتتم إعادته إلى "دار المخزن" تحت إِمرة الكاتب الخاص للملك "محمد منير الماجيدي".. وكان أن عاد "عبد السلام جعايدي" إلى مواصلة "خدماته الجليلة" للقصر وأصحابه، وعلى رأسهم الملك محمد السادس.. وثمة واقعة طريفة تُروى عن "سيرة" الرجل "المهنية" الجديدة، حدثت في بحر سنة 2005، وذلك حينما كان القنصل "جعايدي" بصدد اتخاذ إجراءات نقل أداة "جيت سكي" آخر صيحة إلى المغرب عبر مطار مدينة "نيويورك" حيث قام رجال جمارك المطار بمنع عملية النقل لأسباب مُرتبطة بقوانين ومعايير الشحن عبر المطارات الأمريكية، فما كان من القنصل "جعايدي" سوى أن دخل في سورة غضب مشهودة، متوعدا موظفي المطار بالويل والثبور وعظائم الأمور، مما تسبب في تعطيل شحن أداة "الجيت سكي" التي كان ينتظرها الملك، بضعة أيام إضافية إلى حين تسوية مسألة "غضب" القنصل "جعايدي".
عبد الرزاق جعايدي: رجل "الهمة" في خدمة "نزوات" رجال البلاط
ثاني آل "جعايدي" الذي "التصق" بالوظيفة العمومية، وبالتحديد بوزارة الشؤون الخارجية، هو "عبد الرزاق"، إنه رجل محسوب على "شلة" أصدقاء "فؤاد عالي الهمة" وهو ما "أهله" لتسلم منصب سفير مكلف بالشؤون القنصلية بباريس، وجعله "يتفنن" في خدمة ولي نعمته "الهمة" وثمة في هذا الإطار، طرفة حدثت في أحد أيام شهر يوليوز من سنة 2006، حين كانت زوجة الهمة تقوم بزيارة تبضع واستجمام إلى العاصمة الفرنسية، رفقة ابنتها وخادمتها، وحدث أنه خلال رحلة العودة، لم يتوفر مقعد ثان للخادمة، في الدرجة الأولى، رفقة سيدتها، على متن الطائرة التابعة للخطوط الجوية الملكية، فكان أن أقام "عبد الرزاق جعايدي" الدنيا ولم يُقعدها، حيث اتصل بمسؤول فرع المخابرات المغربية (دي. إيس. تي) بباريس، ليقوم هذا الأخير بإجراءات اتصال، بغير كثير من الضغط على مكتب "لارام" دون أن يسفر ذلك عن تلبية رغبة زوجة "الهمة"، فأرغى الرجل - أي ع. جعايدي - وأزبد.. مهددا مسؤول مكتب "لارام" بالويل والثبور. غير أنه توفر موظف متزن وجريء، بمكتب الوكالة الجوية المغربية المذكورة، الذي تشبث بموقف استحالة تلبية رغبة القنصل "جعايدي" وبالتالي تفويت "فرصة" تزلفه لولي نعمته "الهمة". فما كان من "ع. جعايدي" الذي كان حينها موجودا في المغرب، بمناسبة عيد العرش، إلا أن اتصل بالإدارة المركزية لـ "لارام" ونفث هذه العبارة الحاقدة: "إن جلالة الملك لم يفهم ما وقع، وسوف أُريكم ما سأفعله". ولأن الصحافة الفرنسية كانت قد تناولت الواقعة بغير قليل من التهكم، فقد ابتلع "ع. جعايدي" غضبه إلى حين.
استرعى "ع. جعايدي" في الآونة الأخيرة أيضا، انتباه الصحافيين الفرنسيين، من خلال "إرغامه" وزارة الشؤون الخارجية المغربية، على شراء مقر سكناه الوظيفي، وهو عبارة عن شقة باريسية فخمة، على ضفاف نهر "السين" بمبلغ لا يقل عن أزيد من مليونين اثنين ونصف مليون أورو، وهو مبلغ ضخم حسب الصحافة الفرنسية، لا تفسره سوى السرعة القياسية التي تمت بها عملية الشراء، حيث إن قيمة العقار، حسب نفس المصدر، تقل عن ذلك بكثير، سيما في أوقات الأزمة المالية والاقتصادية، التي تُرخي بظلالها القاتمة على صفقات البيع والشراء. ناهيك عن أن مبلغ شراء شقة القنصلية المذكورة، لم يكن أصلا واردا ضمن ميزانية الوزارة الوصية، وهو ما يفسر، حسب العارفين بكواليس إدارة الشؤون الخارجية، أن نفوذ آل "جعايدي" كبير جدا. وضمن إطار هذا النفوذ نفسه، يمكن أن نضع تورط "فتيحة جعايدي" أخت عبد الرزاق وعبد السلام جعايدي، في قضية تدبير مالي منذ بضع سنوات خلت، ليتم إخراجها من السجن وإعفاؤها من المتابعة، بتدخل ملكي.
فاروق بنيس: امنحوا القروض لصديق ولي العهد بلا ضمانات
تعرف قراء الصحف في المغرب على شخص السيد "فاروق بنيس" في شهر أكتوبر من سنة 2002، حين نشرت أسبوعية "لوجورنال"حوارا مُثيرا مع "زين الدين الزاهيدي" الرئيس المدير العام الأسبق، لبنك القرض العقاري والسياحي، الذي كان ولا يزال، هاربا من متابعة قضائية، على أساس اتهام بسوء تدبير مالية البنك المذكور، بناء على نتائج تقرير لجنة تحقيق برلمانية، تشكلت إبان حكومة عبد الرحمان اليوسفي، وحُكم عليه غيابيا بعشر سنوات سجنا نافدا. الزاهيدي رد الصاع الصاعين، للدولة من خلال إشارته بشكل واضح، في حواره مع لوجورنال، إلى أن المتاعب المالية للقرض العقاري والسياحي، تجد أسبابها الأساسية، في نفوذ كبار رجالات الدولة، وفي مقدمتها الحسن الثاني، وبعض أفراد الأسرة الملكية، ومن حيثيات ذلك ذِكره أنه يتوفر على وثائق إثبات، عبارة عن رسائل من شخصيات نافذة، أشارت عليه بمنح قروض بلا ضمانات، إلى أشخاص مُقربين من البلاط، وكان من بين تلك الوثائق، رسالة من محمد السادس، حين كان ما يزال وليا للعهد، أرسلها إليه هذا الأخير، بمضمون طلب تسهيل حصول صديقه "فاروق بنيس" على قرض من بنك القرض العقاري والسياحي، دون الالتفات إلى مسألة توفر ضمانات استردادها. كان الأمر يتعلق حسب إفادات "الزاهيدي" بمبلغ مالي ضخم بملايين الدراهم، مُنح لفاروق بنيس ليشيد مُركبا سياحيا فخما، في منطقة "مارينا سمير" بالقرب من الإقامة الخاصة للملك محمد السادس بالمضيق، شمال غرب البلاد، على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وحسب "الزاهيدي" دائما، فإن رسالة ولي عهد آنذاك (أواسط عقد تسعينيات القرن الماضي) نقلها إليه رشدي الشرايبي المُدير الحالي لديوان محمد السادس. فكيف تسنى لفاروق بنيس الحصول على هذا الامتياز، الذي وصل إلى حد حصوله على وثيقة دعم بخط وريث الحسن الثاني؟ وكيف أصبحت هذه الوثيقة، من بين وثائق أخرى مُماثلة (يتوفر عليها "زين الدين الزاهيدي" ويحتفظ بها في خزانة مُؤمنة بإحدى الدول الأوروبية، يُرجح أن تكون واحدة من هذه البلدان الثلاث: إسبانيا أو البرتغال أو المانيا) شاهدا صارخا على "زواج المتعة" الأبدي بين السلطة والمال في بلاد الأيالة الشريفة؟
حسب معطيات مُتوفرة، فإن "فاروق بنيس" يُعتبر واحدا من شلة "أنس" ولي العهد، "خبير" في تنظيم الحفلات الخاصة لعلية القوم، كما أن أختا له، هي مالكة فندق "الغزالة الذهبية" الواقع في إحدى الضواحي الهادئة لمدينة "تارودانت" حيث ينزل، ولا يزال، الرئيس الفرنسي السابق "جاك شيراك" وزوجته، في إقامة خاصة بهما، لمدى أيام طويلة، وكان الحسن الثاني، لا يدع الزوجين يؤديان سنتيما واحدا، من فاتورة إقامتهما، وهو الوضع الذي ما زال مستمرا لحد الآن، بالرغم من مُغادرة آل "شيراك" لقصر الإيليزيه.
أندري أزولاي: في خدمة العائلة على حساب مصالح المغرب
قُدِّم "أندري أزولاي" في أواخر سني حياة الحسن الثاني، باعتباره واحدا من صناع أجواء الانفتاح الإقتصادي، وبذلك كان هو اليهودي المغربي، المُزداد بمدينة "الصويرة" الوحيد الذي عينه الحسن الثاني مستشارا له، بظهير، كان زاد "ازولاي" المهني، يتمثل في تجربة عمل مع كبريات المؤسسات المالية والاستثمارية الفرنسية، منها "باريباس" كما أنه اشتغل على موضوع "التقارب العربي اليهودي" حين أسس سنة 1973 جمعية "الهوية والحوار" مع أنه كان لا يزال مُقيما في باريس. واستفاد منذئذ من دعم "ألبير ساسون" العميد السابق لجامعة محمد الخامس بالرباط، الذي كان يحظى باحترام كبير ضمن النخبة السياسية والفكرية بالبلاد، وفي مقدمتها القصر، كما أنه نسج علاقات صداقة مع شخصيات فلسطينية محسوبة على اليسار المعتدل، كان من بينها "عصام سرطاوي" المُغتال بباريس سنة 1983، و "إلياس صنبار" مدير "مجلة الدراسات الفلسطينية" ومن تم ولوج "أزولاي" إلى دائرة اهتمام الحسن الثاني، باعتباره وجها "مقبولا" في شبكة علاقات مُعقدة، في الأوساط السياسية والاقتصادية والإعلامية الفرنسية، وشخصية "حوارية" لمد الجسور وسط تعقيدات الشرق الأوسط، سواء لدى الإسرائيليين أو الفلسطينيين "المعتدلين".
خاطبه الحسن الثاني خلال حفل تنصيبه مُستشارا له في أحد أيام سنة 1991: "بالنسبة لنا فأنت تعرف أن كل المغاربة متساوون كأسنان المُشط". كان أزولاي الذي قرر حينها الدخول إلى المغرب، عائدا بتجربة مهنية غنية من فرنسا، يعرف ما ينتظره منه الحسن الثاني المهووس بصورته في الخارج. كما أنه لم ينس المنافع الشخصية "العميمة" التي يُمَكِّنُه منها موقعه الرفيع في بلاط الحسن الثاني. أحاط "أزولاي" نفسه في إطار مهامه الاستشارية في المجال الإقتصادي، ببعض رجالات الدولة من قبيل "مراد الشريف" و "إدريس بنهيمة" و "محمد حصاد" وغيرهم، وجاءت أولى سنوات عقد التسعينيات من القرن الماضي، بـ "رياح" الخوصصة، وبالتحديد منذ سنة 1993، حيث سيجد فيها الرجل - أي أزولاي – فرصته السانحة، مُعتمدا على علاقاته المتشعبة، مع شخصيات اليمين الفرنسي، الذي تسلم الحكم حينها، بوصول "جاك شيراك" إلى سدة الرئاسة، وطُرح أمامه ملف خوصصة العديد من المنشآت السياحية المغربية، مثل سلسلة فنادق "مسافر" وقصر الجامعي بفاس.. إلخ، بما مجموعه 40 فندقا فاخرا، و 70 مقاولة سياحية، وهو ما صنع "سعادة" أكثر من شخصية سياسية، ورجال أعمال فرنسيين، وبطبيعة الحال "أزولاي" أيضا، بما أنه كان حجر الزاوية في "تمرير" الصفقة المربحة بما لا يُقاس.
وصادف ذلك أن المغرب كان يعيش على إيقاع تدهور اقتصادي ومالي، نعته الحسن الثاني بـ "السكتة القلبية".. وبالتالي الحاجة المُلحة لجلب مُستثمرين أجانب مهما كان "الثمن".. في خضم سعي "أزولاي" إلى تسويق البضاعة السياحية المغربية قال مرة أمام لفيف من الشخصيات السياسية الفرنسية ورجال الأعمال في اجتماع عقد بباريس: "إن المغرب مُربح، وهو دائما كذلك، غير أنه اليوم يجب أن نحصل على نتائج واضحة". ما الذي كان يقصده الرجل؟ الواقع أن ثمة تفاصيل غاية في الأهمية، تمنح قسطا غير هين من الجواب.
وبطبيعة الحال لم يكن مُفاجئا، حسب المُراقبين ألا تتسم "مفاوضات" البيع التي تمت مع شركة "فيفاندي" و "أكور" برعاية "أزولاي" بالشفافية والدقة المطلوبين حفاظا على المصلحة المغربية، ويقول الكثير منهم (أي المراقبون) إن المغرب أهدى جواهره السياحية وشركة اتصالات المغرب، على طبق من ذهب للفرنسيين.
وبالفعل لم يتوقف الأمر عند قطاع السياحة، بل طال أيضا مجال الاتصالات، حيث استمرت مُفاوضات "تمرير" شركة اتصالات المغرب إلى شركة "فيفاندي" الفرنسية، بعد رحيل الحسن الثاني شهر يوليوز سنة 1999، ففي وثيقة على شكل بريد إلكتروني مؤرخ بيوم 19 دجنبر 2000، تم إدراجها ضمن التقرير المُنجز في إطار تحقيق فرنسي، حول المُعاملات البورصوية لشركة "فيفاندي".. في البريد المذكور، قال "غيليوم هانزو" المدير المالي السابق لمجموعة "جون ماري ميسيي" الرئيس المدير العام لشركة فيفاندي، ما مضمونه: "إنه من الضروري جدا، بالنسبة لنا، أن يحقق عرض حيازة شركة اتصالات المغرب مبلغا قدره 700 مليون دولار صافية من عائداتها الإجمالية". إن هذا يؤكد الرغبة الملحة لشركة "فيفاندي" في الاستحواذ على حصة الأسد من "اتصالات المغرب"، الأمر الذي تسنى في الأخير من خلال "مساعدة" أندري ازولاي وآخرون، من بينهم وزير المالية والاقتصاد السابق "فتح الله والعلو" و "عبد السلام أحيزون" مدير اتصالات المغرب. وثمة معطيات غزيرة أفادت بذلك، نشرتها الصحافة الفرنسية. من بينها أن "أزولاي" أبدى مُعارضة سطحية للصفقة، قبل أن يدفع في اتجاه ربح "فيفاندي" الفرنسية لـ"حوصلة" النقود الوفيرة التي تمثلها "ماروك تيليكوم". فقد كتب "جيرار ريس" ممثل شركة "فيفاندي" في المفاوضات مع الجانب المغربي، لإدارته: "لقد تناقشنا مع السيد أزولاي ووزير المالية والاقتصاد حول المسألة، وقد أكد أزولاي قبول العرض من طرف المغرب" أي ما معناه حصول "فيفاندي" توا على نسبة 51 من نسبة التصويت في مجلس إدارة اتصالات المغرب، بالرغم من أن نسبة أسهم الشركة الفرنسية، لم تتعد حينها نسبة 35 بالمائة، مع وعد حصول "فيفاندي" فيما بعد على نسبة 16 بالمائة إضافية، من الأسهم (وهو ما حصل بعد ذلك فعلا) وكان من غريب "الصدف" أن يتم الإعلان رسميا عن الصفقة، من طرف الوزير الأول السابق عبد الرحمان اليوسفي، في يوم الإحتفال بمرور تسعة وأربعين عاما، على استقلال المغرب.
هكذا إذن "تحرك" ازولاي كما لم يفعل أبدا، في عقد صفقات البيع، لفائدة الشركات الفرنسية في قطاع السياحة (أكور) ومجال الاتصالات (فيفاندي) وفي كلتا الحالتين، تم تسليم "البضاعة" المغربية الثمينة، بشروط تفضيلية للفرنسيين، أذهلت هؤلاء الأخيرين أنفسهم، والسبب حسبما انكشف فيما بعد أن "أزولاي" نال عن "خدماته الجليلة" تلك عائدات عميمة. منها مثلا، أنه وجد فرصة نادرة وغير محلوم بها في السابق، لإنعاش الأعمال الاستثمارية لأفراد أسرته، سيما تلك التي يخوض فيها أخوه "مارسيل"، حيث تمكن هذا الأخير من الحصول على التمويلات اللازمة، لتشييد فندق فخم في مدينة الصويرة، مهد عائلة "أزولاي". وكما كشف ذلك أحد أطر شركة "أكور" فيما بعد، فقد كانت "سياسة" أزولاي متمثلة في "جعل الملك يعتقد أن الأمور تسير في اتجاه إيجابي" في حين أن الصفقات كانت تُخفي مصالح اقتصادية ومالية شخصية.
عودة قوية لذهنية "التبراع" في بلاط محمد السادس
لاحظ الكثيرون، خلال بداية حكم محمد السادس، أن الأجواء كانت أقل إمعانا في ذهنية التبذير ومظاهره، حيث نقل البعض، عن وجود رغبة لدى الملك الجديد آنذاك، في الانتهاء مع العديد من مظاهر الفخفخة في حياة القصر، ومنها مثلا، وقف عادات إنفاق الكثير من المال في الحفلات الرسمية والخاصة، ومنها مناسبة عيد العرش، وهجر السكنى في القصر، بكل إحالاتها الرمزية والمادية، للإقامة في فيلا أقرب إلى وصف "عادية" بطريق زعير في العاصمة، مما شكل بهذا الصدد، شبه قطيعة، مع سنوات حكم الحسن الثاني، التي ارتبطت في أذهان جيلين من المغاربة، على الأقل، بمظاهر الفخفخة والترف. لا غرابة في ذلك، ما دام أن الآلة الدعائية للقصر، ألصقت بمحمد السادس لقب "ملك الفقراء" وبالتالي كان "ضروريا" أن يبدو الملك في حياته، قريبا إلى حد ما، مهما كان هينا، من نمط حياة أغلب المغاربة، وربما لا يزال الكثيرون يتذكرون، ما صرح به محمد السادس لمجلة "باري ماتش" الفرنسية، من أنه يسكن في مقر إقامة "ضيق" إلى درجة أنه يضطر لتخفيض صوته حينما يتحدث إلى زوجته، حتى لا يوقظ الأبناء. كما أن ذكرى السفريات الباذخة للحسن الثاني، في الداخل والخارج، وجيوش أفراد الحاشية الذين كانوا يُرافقونه، والمشتريات الباذخة التي كانت تتم في أفخم المتاجر بالخارج، سيما في باريس أو نيويورك أو فلوريدا إلخ. كل ذلك وغيره.. "ذكرى" أصبحت بعيدة، بالرغم من أنه لم تكن قد مرت على رحيل الحسن الثاني، سوى بضع سنوات. ففي أول خطاب له يوم 30 يوليوز 1999 أي أسبوعا بعد رحيل والده، بدا محمد السادس، كمن يُريد أن يطبع لمسته الخاصة على شؤون الحكم، حيث تحدث عن "سابغ عطفه اتجاه الطبقات المعوزة، وعن رغبته في إيلاء كامل العناية، لمشاكل الفقر التي يعاني منها جزء من الشعب المغربي". ولم يتورع الوزير الأول السابق الاشتراكي "عبد الرحمان اليوسفي" عن الإشارة، في المجلس الحكومي الأول الذي انعقد يوم 2 غشت من نفس السنة (أي 1999) إلى "الخاصية الاجتماعية، التي يعرفها الجميع في شخصية محمد السادس". وفي يوم 20 غشت الموالي، تحدث "محمد السادس" مرة أخرى في خطاب له، معبرا عما يشبه الاستنكار، قائلا: "كيف يُمكن تحقيق تنمية شاملة، في حين أن العالم القروي يُعاني من مشاكل ترغم ساكنته على هجر أراضيهم، ليأتوا للاستقرار في المدن، وذلك في غياب إستراتيجية تنمية منسجمة؟ (...) كيف يمكن بلوغ تقدم علمي، والتواجد في موقع جيد مع العالم المتقدم، في حين أن العديد من شبابنا المتعلم والمُؤهل، يوجد في حالة بطالة والأبواب مُقفلة في وجوههم"؟
وازدادت هذه الصورة "الإيجابية" اتضاحا حين عمد محمد السادس، عبر قرار مشهود، رحب به الكثيرون، إلى عزل وزير الدولة في الداخلية القوي "إدريس البصري" الذي أُلصقت به فجأة كل الشرور، وتم تحميله كامل المسؤولية فيما حدث زمن حكم الحسن الثاني. لقد كان الأمر يتعلق، كما اتضح فيما بعد، بصورة "ملائكية" لبداية حكم محمد السادس، أبعد ما تكون عن الواقع الذي لا يرتفع. كيف ذلك؟
كان أفراد "شلة" محمد السادس، قد تراجعوا إلى الخلف، وسط تلك الأجواء الحالمة، واتخذوا جوانب الحيطة في عدم إظهار جوانب البذخ و الاستمتاع في حياتهم.. "لقد كانوا ينتظرون أجواء مُناسبة" كما قال أحد الذين تحدثنا إليهم في الموضوع، وهو ما تأتَّى فعلا بعد ذلك، من خلال العديد من المؤشرات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، أن سفرية للملك محمد السادس في غضون سنة 2005، إلى جمهورية "الدومينيكان" بعد "انعطافة" سياحية من زيارة عمل للولايات المتحدة الأمريكية، أثارت شهية الصحافة الأجنبية، من خلال مظاهر البذخ الكبيرة التي تمت فيها، ومنها مثلا أن العطلة السياحية تطلبت تخصيص طائرتين لثلاثمائة من شلة "أنس" الملك، وقوامها بالأساس عشرات الأصدقاء، مع ما تطلبه ذلك من مظاهر بذخ. وهو ما تكرر بعد ذلك، في أكثر من مناسبة للسفريات الملكية الخاصة، مما كان إيذانا بعودة ذهنية "التبراع" إلى المحيط الملكي، بعد فترة توقف - عن إظهارها على الأقل - لغايات دِعائية، وفي ركابها - أي ذهنية التبراع – استغلال المواقع المتقدمة، من طرف الأصدقاء وكبار المُعاونين، في محيط البلاط الملكي، لتحقيق الثروات الشخصية.
وحسب نفس الأستاذ الجامعي الذي أوردنا عبارته قبل قليل، بصدد "عودة ذهنية (التبراع): "يجب ألا نفصل بين مظاهر الحكم، من حيث أشكال التعبير عنها، وقضايا استغلال المواقع المتقدمة في السلطة، للاستفادة من مشاريع وصفقات ريعية"، مُضيفا: "ذلك أن عدم التدقيق في الممتلكات الشخصية لكبار رجال الدولة، وغياب مُراقبة مصادرها، يشجع في نفس الوقت، على التمادي في استغلال النفوذ، والشطط في مظاهر الثراء".
هكذا إذن "غلب الطبع التطبع".. فالعادات القديمة في اكتساب أسباب العيش الباذخة، لم تختف سوى لوهلة، في بداية عهد محمد السادس (ظاهريا على الأقل) غير أنها سرعان ما عادت، مصداقا لما تنبأ له أحد المثقفين المغاربة هو "ع.ش"، حينما قال لكاتب هذه السطور، أياما قليلة بعد وفاة الحسن الثاني: "كل ما في الأمر أن طغاة كبار سيأفلون ليحل مكانهم طغاة صغار".
الدكتور إدريس بنعلي
الفراغ السياسي يسمح لمحيط الملك بالإثراء غير المشروع
يرى أستاذ الإقتصاد المغربي المعروف "إدريس بنعلي" ضمن هذا الحوار الذي أجريناه معه، أن انتفاء المعارضة السياسية، و "موت الأحزاب" جعل موازين القوى السياسية في البلاد تختل لصالح رجالات القصر، حوالي الملك محمد السادس، وبالتالي ظهور نسخة أخرى من الإنتفاعية، والتكالب على فرص الإثراء غير المشروع، غير أنه لاحظ، بالمقابل، أن أفراد جيل أطر التدبير الجديدة، يتوفرون على مستويات تكوين أفضل، بالمقارنة مع أولئك الذين اشتغلوا إلى جانب الحسن الثاني، وأكد أن الوضع سيظل على ما هو عليه، بالنظر إلى جمود المشهد السياسي، واحتلال من أسماهم بـ "براهش" السياسة للمواقع الأمامية، ضمن المشهد المذكور، كنتيجة حتمية لغياب النخب السياسية والفكرية الجادة... إلى جانب أفكار أخرى في الحوار التالي:
- هل يمكن أن نقول إن المجال الاقتصادي في المغرب تابع لما هو سياسي في جانبه التنفيذي؟
+ نعم إن الاقتصاد كان دائما موجودا تحت مظلة ما هو سياسي، وذلك لمجموعة من الاعتبارات، منها ما هو تاريخي، ويجب أن نستحضر عند الحديث عن المجال الاقتصادي، أننا نعني المقاولات الاقتصادية، فقد لعبت الدولة دورا كبيرا في خلق المقاولات، من خلال سياسة المغربة، حيث دفعت ببعض الناس، أو بالأحرى خلقتهم للإشتغال بهذا المجال..
- تقصد أن الدولة خلقت برجوازيتها الخاصة؟
+ نعم، يتعلق الأمر بإستراتيجية تم اعتمادها آنذاك، بُعيد الاستقلال، وتمثلت في صنع نسيج برجوازية خاص بالنظام السياسي المغربي، وهو ما كان شبيها، بما تم القيام به مثلا، في اليابان، إبان نهاية القرن التاسع عشر، والاعتبارات التي اتُّخِذت كذريعة أساسية، تمثلت في أن الاقتصاد الوطني كان ضعيفا، وما إلى ذلك، وهنا يلفت أمران الانتباه، الأول يتمثل في أن المقاولين الذين ظهروا جاؤوا من الإدارة، أي أولئك الذين كان يُطلق عليهم في الأدبيات الشيوعية لقب "البرجوازية البيروقراطية" أو "الطبقة الكمبرادورية" وما إلى ذلك، وهناك مَن وُلدوا عبر سياسة المغربة، حيث تم منح هؤلاء حصص ضمن مقاولات، وتوزيع أراضي عليهم.. إلخ، وهو ما جعل هذه الشريحة الاجتماعية مرتهنة للدولة.
- يُلاحظ في المغرب، أن القرب من نواة الجهاز التنفيذي للدولة، أي الملكية، يظل دائما مُحددا أكثر من أي أمر آخر، في صنع الثروات الشخصية، فقد كان من قبل رجال الحسن الثاني الذين اغتنوا من خلال العمل إلى جانبه، نذكر منهم مثلا: أحمد رضا اكَديرة وعبد الفتاح فرج وإدريس البصري وغيرهم، نفس الأمر يتكرر الآن مع محمد السادس، حيث نجد هناك منير الماجيدي والهمة وآخرين، يشكلون أثرياء النظام الجدد، هل الظاهرة قديمة ومتجذرة أم أنها مُحدثة؟
+ أعتقد أنها ظاهرة قديمة، وأتذكر بهذا الصدد، تقريرا تم إنجازه منذ نحو ثلاث سنوات، في إطار اللجنة الأوروبية، تحدث عن أنه في المغرب، يتم وضع قواعد لعبة اقتصادية، لكن لا يتم احترامها، أو أنها غير واضحة.
- بمعني أن المجال الاقتصادي هو في خدمة السياسي؟
+ نعم، أي أن ما هو سياسي هو الذي يحدد طبيعة المجال الاقتصادي، وهو ما يُسمى حسب المصطلح السوسيولوجي بـ "النظام البطريركي الجديد".. وهو ما معناه أيضا، أنه بقدر اقترابك من النظام بقدر ما تكون استفادتك الاقتصادية كبيرة، إنها الانتفاعية في أجلى صورها، أي أنه يُمكنك الاستفادة ما دُمت قريبا من نواة النظام السياسي، إنه نظام اقتصاد الريع، فالملك في الأنظمة البطريركية الجديدة يُوزع الامتيازات والقيم الريعية، وذلك بناء على درجة خضوع الشخص المعني بها، وقدرته على وضع كفاءته أو سلطته وما إلى ذلك، في خدمة الملك، ولهذا السبب يتم خلق الأحزاب في بلادنا، ذلك أن الغاية هي الحصول على حصة من القيم المادية الريعية، وهذا يدخل ضمن منطق عمل النظام، وإذا ما ألقيتَ نظرة على ما يحدث الآن بهذا الصدد، فسترى ربما، أن هناك ما يُذَكِّر ببداية حكم الحسن الثاني.
- لهذه الدرجة؟
+ اسمع، هناك عديد من المؤشرات على ذلك، لتنظر إلى طبيعة التشكيلة البشرية للحكومة، مثلا، فهي تُفيد بذلك.. الحسن الثاني أراد بعد وقوع الانقلابين العسكريين أوائل عقد سبعينيات القرن الماضي، أن يوسع القاعدة الاجتماعية لنظامه، وهي المهمة التي عهد بها إلى إدريس البصري، واستطاع هذا الأخير بفضل الرشوة ومجموعة من التدابير المُماثلة، أن يُطبق هذا المفهوم. والمُلاحظ اليوم أن تلك القاعدة الاجتماعية تتعرض للتقلص من جديد. لقد ذكرت في سؤالك السابق شخصا (يقصد منير الماجيدي) الذي يجمع "السُّكَّر" يمينا وشمالا، وتم تعيينه مديرا لشركة "أونا" وهو دليل آخر على عودة الانتفاعية الناتجة عن القرب من السلطة.
- ألا يبدو لك هذا مفارقا، في الوقت الذي يتم فيه الحديث بشكل متواتر، عن عقلنة الاقتصاد للحصول على مردودية أفضل، وفي نفس الوقت هناك عودة لنفس أساليب التدبير التي تنتسب إلى بداية حكم الحسن الثاني كما ذكرت من قبل؟
+ الجديد الآن بهذا الصدد، هو كثرة الذين يطمحون إلى تولي مناصب تدبير لدى الدولة، في حين أن رقعة التدبير تضيق، وهو ما يخلق العديد من الخائبين، فمن قبل، حين بداية حكم الحسن الثاني، كانت هناك قاعدة اجتماعية كبيرة أمية، وبالتالي قلة الأطر الحاصلة على التكوين، مما كان يبرر ضيق استفادة الناس من مناصب التدبير في الدولة، أما اليوم فهناك أطر أكثر، حاصلة على التكوين لكنها غير مُشركة في تدبير الشأن العام.
- لماذا في نظرك يتم الاحتفاظ بنفس أساليب التدبير القديمة حاليا؟
+ أعتقد أنه في بداية حكم محمد السادس، كانت لهذا الأخير نوايا طيبة، وبالأخص في المجال الاقتصادي، حيث أراد أن يُرسي دعائم سياسة اقتصادية بالإعتماد على نفس الفاعلين القُدامى، حيث كان مطلوبا العثور على أطر جديدة للعمل على هذه السياسة الجديدة.
- تقصد أن الملك لم يجد الأطر المُناسبة؟
+ لا أعرف ما إذا كان لم يجد أُطرا مُناسبة، لكن الواضح أن عملية الاختيار لم تكن مُوفقة، غير أن هذا لا يمنع من القول، إن ما تم إنجازه في مجال الاقتصاد حاليا، يفوق ما كان عليه الأمر أيام الحسن الثاني، إذ أن هذا الأخير، كان لا يعبأ كثيرا بهذا المجال، وهو ما عبر عنه في كتابه "التحدي" من خلال القول إنه لا يهتم سوى بالعلاقات الخارجية، كما أنه لم يكن يعبأ كثيرا بالمسألة الاقتصادية في خُطبه، أما الآن، فنلاحظ أن ابنه يهتم بالمسألة الاقتصادية أكثر، حيث نلاحظ في محيطه عددا أكبر من الأطر التيقنوقراطيين، وما حدث أنه تم منح هؤلاء سلطات سياسية فتمخزنوا، بل وصل الأمر إلى حد أخذ بعضهم، وإنزالهم بالمظلات إلى بعض الأحزاب، تمهيدا لمنحهم مناصب حكومية، وهو ما يُحيل على الوضعية على المستوى العالمي، حيث يتم النظر بشكل سلبي إلى الأنظمة الشمولية، ومن بينها الملكيات المطلقة، وهو ما حذا بالمسؤولين المغاربة، إلى محاولة منح صورة عن المغرب باعتباره بلدا يتطور، الأمر الذي يحيل على مُفارقة، أشبهها بالرغبة في تجديد الغشاء الخارجي والاحتفاظ بنفس المضمون العتيق.
- هل هذا ممكن؟
+ أنا أقول لك عما يقوم به النظام الآن، والحاصل أن المجتمع لا يُقاوم بهذا الصدد، بمعنى أنه لا وجود لسلطة مُضادة للدفع في اتجاه خيارات أخرى، فالأحزاب ماتت، ولا وجود، لا ليسار ولا أي شيء. الحسن الثاني لم يكن قد وجد مثل هذه الفرصة الحالية، حيث لا وجود لأية معارضة..
- يعني الفراغ الشاسع؟
+ نعم "الدنيا خاوية".
- ألا تُلاحظ أن عملية استفادة، بعض رجالات الحسن الثاني، ماديا، من موقع القرب منه، تتكرر اليوم أيضا بنفس التفاصيل تقريبا مع رجالات محمد السادس؟
+ ولماذا تُريدهم ألا يستفيدوا؟ لا أحد طالب بالتغيير.
- لكن التحديات السياسية والاقتصادية تتعاظم، بالنظر إلى المتغيرات المحلية والعالمية؟
+ إن الرجالات النافذين أنفسهم، يشتغلون على هذه التحديات، فهم مَن يُحدثون المقاولات ويخوضون غمار المُنافسة، بينهم مهندسون ومستشارون.. إلخ. أعتقد أن هناك حقيقة صارخة لا يتم فهمها بالشكل الصحيح في العالم العربي، وهي أنه لا وجود لديمقراطية بدون قوى مُضادة، ونلاحظ على نحو مُفارق، أن المغرب كانت لديه هذه القِوى في عقدي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، مما كان يشكل مُعارضة قوية، قاومها الحسن الثاني، وكان يحتاط منها ويأخذها بعين الاعتبار، حينما يكون بصدد اتخاذ قرارات معينة، أما الآن فلا وجود لأية مُعارضة.
- ألا يلعب الإسلاميون هذا الدور الآن بشكل ما؟
+ ما الذي سيفعله الإسلاميون؟ إذا كنت تقصد حزب العدالة والتنمية، فهذا الحزب محسوب على المشاركة في اللعبة.
- وجماعة العدل والإحسان؟
+ اسمع، إن الإسلاميين المغاربة المشتغلين بالسياسة، هم ديماغجيون جيدون، لكنهم فقراء في الإستراتيجية، فمثلا خلال انتخابات 2007، عبر إسلاميو العدالة والتنمية عن استعدادهم للعمل من موقع التدبير الحكومي، وما إلى ذلك، غير أن ما حصل هو أن قواعدهم الانتخابية ترعرعت في خطاب متطرف، مما نتج عنه انفضاض هذه الأخيرة، لأنها اعتبرت ذلك تراجعا من طرف القيادة الحزبية، التي أرادت لعب اللعبة المخزنية، ففقد الحزب جزءا مهما من ناخبيه، أما جماعة العدل والإحسان، فليست لديها أية إستراتيجية، فالشيخ ياسين ليس سوى أُعجوبة أريكوليجية، أما ابنته فهي امرأة تواصل ممتازة، لكن بلا حس استراتيجي، وأعتقد إجمالا أن المغاربة متخلفون كثيرا في هذا المجال، حيث يعتقدون أن السياسة تقوم على الديماغوجية والتواصل فحسب، أما الإستراتيجية "الله يجيب".. وهذا هو ما أهلك الاتحاديين، حيث ظلوا مُعارضين ما يقرب من نصف قرن، وحينما مُنحوا موقع التدبير لم يعرفوا ما يفعلونه.
- لنعد لو سمحت لموضوع هذا الحوار، هل تعتقد أن تدخل ما هو سياسي، فيما هو اقتصادي، بالشكل الذي يتم في المغرب ما زال صالحا في عالم اليوم؟
+ يجب ألا نُغفل خاصية مُعينة في هذا الإطار، وتتمثل في أن منطق السياسة يهيمن على ما هو اقتصادي، غير أن هناك اختلافا الآن عما كان يتم العمل به أيام الحسن الثاني، ويتمثل في أن الأطر الذين يحصلون على مناصب التدبير الاقتصادية، لديهم تكوين جيد، فهم مُهندسون ولديهم كفاءات مهمة، حيث لا يمكن أن ننعتهم بأنهم جهلة، في المجال الذي يعملون فيه. وهنا يجب أن نفرق بين مستويين من رجالات الدولة، حيث هناك هذه الفئة المُقربة من النظام، التي تعمل على الاستفادة من اقتصاد الريع، والفئة الأخرى، التي تظهر حاليا وهي أخطر، أُسميها بـ "براهش" السياسة، الذين يتوفرون على منافع ريعية، ليقوموا بالمهام القذرة، مثل السب والشتم وما إلى ذلك، وهؤلاء يتخذون الآن أماكن في المقدمة، بسبب الفراغ، حيث لا وجود لطبقة سياسية جادة، في ظل استقالة غير معلنة للأحزاب، وانعدام وجود القوى المُضادة، فما الذي تنتظر أن يطلع إلى السطح؟ "الخز".. وهو ما عبر عنه عبد الرحمان المجذوب يوما بالقول: "الخيل مربوطة والحمير كتبورد".
عن أسبوعية المشعل
التعليقات (0)