الحياة الحب ... والحب الحياة
بقلم : حسن توفيق
3 - نزار قباني يكتب رسالة اعتذار
بـعــد افـتـضــاح الأســرار
في قلب حديقة أنيقة، تتعانق فيها الأغصان أحياناً، أو تتمايل وتتثنى على إيقاع النسمات المنعشة، جلس رجل وسيم بكل خيلاء علي كرسي عجيب مصنوع بالكامل من العشب الأخضر، وبدا هذا الرجل الجالس وحده مزهواً بنفسه، كأنه إمبراطور روماني عظيم، يطل على رعاياه وهو جالس على عرش روما
استبد بالرجل إحساس عميق بالنشوة، حين التفت حوله، وتجول بعينيه يميناً ويساراً فلم يجد رجلاً سواه، وكما يتفقد الإمبراطور رعاياه، أخذ هذا الرجل المزهو بنفسه يتأمل النساء الجميلات اللواتي يعرفهن واحدة واحدة، بحكم ما كان بينه وبينهن من علاقات حميمة، وبالقرب من إحدى أشجار السنديان، وقفت امرأتان ساحرتان وهما تتهامسان أحياناً أو يرتفع صوت إحداهما فجأة، وتجلت ملامح المرأة الأولى راضية ومستبشرة، أما المرأة الثانية، فإن ملامحها لم تكن كذلك، لأنها كانت تحكي لصديقتها حكاية خيانة حبيبها لها، وكيف أنها قد أرسلت إليه رسالة عنيفة بعد أن عرفتْ أنه قد خانها أكثر من مرة مع أكثر من امرأة، رغم أنها لا تقل جمالاً ولا سحراً عنهن، وحين استفسرت الصديقة الراضية المستبشرة عن تفاصيل الرسالة، قالت لها وقد ارتفع صوتها إني كتبت له عما ارتكبه تجاهي حين ذهبت ذات مرة للقائه في بيته، فإذا به يمنعني من الدخول
لا تدخلي
وسددتَ في وجهي الطريق بمرفقيك
وزعمت لي أن الرفاق أتوا إليك
أهم الرفاق أتوا إليك؟
أم أن سيدةً لديك
تحتل بعدي ساعديك؟
وصرختَ محتدماً : قفي
والريح تمضغ معطفي
والذل يكسو موقفي
لا تعتذر يا نذل لا تتأسفِ
أنا لست آسفة عليك
لكن على قلبي الوفي
قلبي الذي لم تعرفِ
وهنا حاولت المرأة الراضية المستبشرة أن تخفف من غضب صديقتها، فروت لها حكايتها مع حبيبها الذي كادت أن تقطع علاقتها معه، لأنه ظن أنها يمكن أن تتحول إلى لعبة بيديه، لكنه عاد من جديد، ومع عودته عاد الحب
أيظن أني لعبة بيديه
أنا لا أفكر في الرجوع إليه
اليوم عاد كأن شيئاً لم يكن
وبراءة الأطفال في عينيه
ليقول لي إني رفيقةُ دربه
وبأنني الحب الوحيد لديه
حمل الزهور إليَّ كيف أرده
وصباي مرسوم على شفتيه
ما عدت أذكر والحرائق في دمي
كيف التجأت أنا إلى زنديه
خبأت رأسي عنده وكأنني
طفل أعادوه إلى أبويه
وبدون أن أدري تركتُ له يدي
لتنام كالعصفور بين يديه
ونسيتُ حقدي كله في لحظةٍ
من قال إني قد حقدتُ عليه
كم قلتُ إني غير عائدةٍ له
ورجعتُ ما أحلى الرجوع إليه
فجأة دخل الحديقة رجل أكثر وسامة من الرجل المزهو بنفسه، وكأنه إمبراطور روماني عظيم، ودون أن يلقي السلام قال وهو يجلس أمامه بمنتهى الثقة
يا أخ اعتدلْ لو سمحت في جلستك فأنا قد عرفت مكانك وجئت لأراك ولأقول لك إن غرورك قد جاوز الحد
أسكت أو على الأقل عليك أن تعتذر لي عما قلت ألا تعرف من أنا؟
أنا أعرفك تماماً ولكن إذا أردت أن تزيدني معرفة، فإني مستعد لأن استمع إليك
وهنا تمايل الرجل المزهو بنفسه والجالس على الكرسي العجيب، وقال مزهواً إلى أقصى حد
أحاول منذ الطفولة فتح فضاء من الياسمين
وأسستُ أول فندق حب بتاريخ كل العرب
ليستقبل العاشقين
والغيتُ كل الحروب القديمة
بين الرجال وبين النساء
ولكنهم أغلقوا فندقي
وقالوا بأن الهوى لا يليق بماضي العرب
وطهر العرب
وإرث العرب
فيا للعجب
والآن ألم تعرفني بعد؟
تنحنح الرجل، ثم أخرج سيفاً كان يحمله من الغمد، وأخذ يلوح به، وهو يقول
أعرف أنك نزار قباني ولكن عليك أن تعرف كذلك أني عمر بن أبي ربيعة، وها أنذا أجلس أمامك لأطالبك بأن تكتب رسالة اعتذار بعد افتضاح ما كنت تخفيه من أسرار
يا سيدي أبعد هذا السيف أولاً وأنا مستعد للاعتذار إذا كنت قد أخطأت في حقك
أنت بالفعل أخطأت وسأشرح لك خطأك ولكن ليس الآن بل فيما بعد
4 - ولادة بنت المستكفي
تتقدم مظاهرة نسائية ضد الحرب
هدأت أعصاب نزار قباني إلى أقصى حد عندما وضع عمر بن أبي ربيعة سيفه الذي كان يلوِّح به في الغمد، وبلهجة الدبلوماسي البارع قال وهو يتظاهر بأن براءة الأطفال في عينيه
- يا صديقي عمر ليس فيما سأقوله لك سر كل النساء اللواتي حولنا في هذه الحديقة يعرفن أني أعشق الشعر أما اللواتي قرأن بعض دواوين الشعر القديم فإنهن يعرفن مدى حبي لك ولهذا فإني أدعوك أولا للعشاء في مطعم أو للشرب في أي بار وبعدها سأكتب لك رسالة اعتذار إذا أقنعتني فعلا أني أسأت إليك
= لا بأس فلننطلق إذن إلى مطعم «الأغاني» لصاحبه أبي الفرج الأصفهاني وهو مطعم جميل في شارع أبي نواس على ضفاف دجلة
- ما هذا الذي تقول؟ يبدو أنك لم تسمع بما جرى لدجلة والفرات ولشارع أبي نواس في بغداد هل تريد أن تنتحر يا رجل؟
= إذن ماذا تقترح أنت؟
- فلنذهب إلي كازينو «الأخطل الصغير» وهو مكان لطيف، في جبل لبنان، ولا تطاله قذائف الميليشيات المتصارعة
= لابأس إذا كانت فيه نساء جميلات مثل هند ونعم وليلى
قبل أن ينهض الشاعران من مقعديهما، شاهدا رجلا أعرابيا، يبدو وكأنه يحمل سلة من الهموم فوق رأسه، وقد ارتفع صوته المشبع برمل الصحراء
يقولون جاهدْ يا جميلُ بغزوةٍ
وأيَّ جهاد، غيرهن، أريدُ
لكل حديثٍ بينهن بشاشةٌ
وكل قتيل عندهن شهيدُ
ضحك عمر بن أبي ربيعة ضحكة ساخرة، وهو يقول لنزار هذا الرجل هو جميل بثينة وهو شاعر رقيق، لكنه في نفس الوقت عاشق خائب، فهو لم يعرف من النساء غير صاحبته بثينة التي تركته يئن ويتوجع دون أن يظفر منها ولو بقبلة واحدة
هل ندعوه ليشرب ويطرب معنا؟
إنه سينكد علينا، ولن يتحدث إلا عن السيدة بثينة أتركه وشأنه خيبه الله
وصل الشاعران إلى كازينو الأخطل الصغير حيث استقبلتهما بنتان حسناوان، ترتديان ملابس قصيرة شفافة، وبدت كل منهما كأنها فراشة في حجم غزالة، وهمست الأولى وهي تنظر لنزار قباني «جفنه علمَّ الغزل ومن العلم ما قتل» أما الثانية فتنهدت وهي تومىء برأسها لعمر بن أبي ربيعة «أسقنيها لا لتجلو الهم عني - أنت همي - إملأ الكأس ابتساما - وغراما »
قضى الشاعران وقتاً ممتعاً أكلا ما لذ وطاب وشربا أفخر أنواع الشراب وبعد أن تعبت عيونهما من متابعة النساء الجميلات، وتذكرا ما قاله جميل «لكل حديث بينهن بشاشة» قررا أن يعودا معا إلى الحديقة الأنيقة التي تتعانق فيها الأغصان، أو تتمايل وتتثنى على إيقاع النسمات المنعشة، لكنهما لاحظا وهما يقتربان من أحد أبواب الحديقة أن شيئا غير عادي يجري داخلها، فدفعهما حب الاستطلاع لأن يستعجلا في خطواتهما، وبالفعل دخل الاثنان بكل هدوء، فلم تلاحظ دخولهما أية امرأة ممن يتحلقن حول الأشجار، وقد بدا عليهن أنهن في حالة استنفار
ماذا جرى؟
همسات النساء تحولت إلى أشواك حادة، ووجوههن مكسوة بالغضب الذي أفسد مكياج بعضهن، أما أزياؤهن فإنها تؤكد اختلاف الأزمنة وتنافر الأذواق، فمنهن من يرتدين فساتين واسعة وطويلة من طراز العصر الأموي، ومنهن من يلبسن تنانير قصيرة تصل إلى ما فوق الركبة، أو بنطلونات جينز ضيقة وممزقة الأطراف، لكن امرأة واحدة ساحرة الجمال بدت وكأنها أميرة من أميرات الأندلس، وعلى الفور تنبه كل من عمر ونزار إلى ما هو منقوش باللغة العربية على أطراف عباءة تلك المرأة المتباهية بجمالها
أنا والله أصلُح للمعالي
وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وأمْكِنُ عاشقي مِن صحن خدي
وأعطي قبلتي مَنْ يشتهيها
تجمعت النساء على اختلاف ألوانهن وأزيائهن حول المرأة المتباهية، وقالت إحداهن لها لقد اتفقنا كلنا أن تتقدمي أنتِ المظاهرة النسائية التي سنشارك نحن جميعا فيها ستكون المظاهرة سلمية، وسنطلق صرخة واحدة محددة لا للحرب نعم للحب لابد أن نفعل شيئا لإيقاف المجازر التي تجري إن بيوت بغداد تبدو الآن كأنها أطلال تنتمي للعصر الجاهلي الدم في كل مكان أشلاء الشبان في كل شارع «أي زمن هذا؟ الحديث عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة لأنه يعني الصمت على جرائم أشد هولاً»
فجأة قامت عدة حسناوات، لهن عضلات، بحمل واحدة منهن على الأكتاف، وبدأت الحسناء المحمولة في الصراخ الهائج
أسائلُ دائما نفسي
لماذا لا يكون الحب في الدنيا لكل الناسِ
مثل أشعة الفجرِ؟
لماذا لا يكون الحب مثل الخبز والخمرِ؟
ومثل الماء في النهرِ؟
أليس الحب للإنسان عمراً داخل العمرِ؟
لماذا لا يكون الحب في بلدي
طبيعيا كأية زهرة بيضاء طالعة من الصخرِ
طبيعيا كلقيا الثغر بالثغرِ
ومنساباً كما شَعري على ظهري ؟
صفق نزار قباني بحماسة للمرأة الببغاء التي رددت ما كان قد قاله وتبعه عمر بن أبي ربيعة، فتنبهت النساء إلى وجودهما، وقالت إحداهن لهما لي رجاء عندكما أن تشاركا معنا في مظاهرتنا النسائية، وفي هذه الحالة ستكونان الرجلين الوحيدين معنا فلتهتفا معنا بأعلى الصوت : لا للحرب... نعم للحب
التعليقات (0)