مثل هذه المواضيع في الوطن العربي حساسة جدا. خطوط حمراء, وحتى شديدة الاحمرار لاختلاط ما هو سياسي فيها بما هوديني وعرفي, (ولا نقول قانوني فهذه كلمة كبيرة في وطن لا يحترم فيه قانون) واختلاط حسن النوايا بسوئها, والانتهازية بالجهود الحقيقية , والديماغوجية بالمنطق, والغاية بالوسيلة, والجعجعة حول تلك الحقوق بالانتهاكات الصارخة واليومية لها.
ومع ذلك يمكن استنتاج طبيعة الحقوق المطلوبة والمستدعاة للإنسان العربي من الإشارة إلى مواقف بعض الأنظمة العربية أولا, ثم التطرف الديني والعادات والتقاليد ثانيا, فهناك:
ـ أنظمة ترفض أساسا طرح مثل هذه المواضيع وتُجرّمها. وتُعاقب عليها بعقوبات تتراوح بين السجن مدى الحياة والسجن المؤقت, والتعذيب الوحشي, أو الإخفاء ألقسري, أو التشريد. معتبرة إياها مساس بأمن الدولة وسيادتها, وثوابتها, وقيمها !!.
ـ أنظمة تحارب مفاهيم حقوق الإنسان علنا ودون التواء أو مواربة. ومع ذلك لا تكلف نفسها, صلفا, عناء البحث عن مبررات لحربها هذه, كي لا تثير ما يجب أن لا يثار, ولا تضيع وقتها الثمين في مسائل دخيلة وجانبية, ضد الحس والذوق السليم,(وعلى من لا يرضيه الأمر"شرب ماء البحر").
ـ أنظمة تنكر أساسا إن الإنسان فيها مضطهد, أو أنه بحاجة للبحث عن حقوق فهذه موجودة ومزدهرة, ـ سويسرا بأرقي كانتوناتها ـ وللعدالة فيها كلمتها الأخيرة!!!, فلا ضرورة أصلا لطرح مثل هذه المواضيع التي تفتت الوحدة الوطنية, وتُفسد القيم الاجتماعية. وفيما يتعلق بسجناء الرأي تنكر أن في سجونها سجينا واحد بهذه الصفة.!!!.. هناك فقط مساجين الحق العام من مجرمين عاديين, وخونة ومتآمرون على البلد, ومن مرتبطين بالاستعمار والصهيونية. هناك موهنو روح الأمة (وعلى من لا يفهم معنى ومقاصد هذه الجريمة عليه العودة إلى أحكام المحاكم السورية ), وهناك مطالبون بالديمقراطية غير الملائمة لشعوبنا ولقيمنا. هناك المتحدثون ببدع حقوق الإنسان وما يسمى بالحريات الأساسية .. هناك وهناك ... ولكن ليس هناك معتقلو رأي, فهذه الكلمة كبيرة ترقى صراحة إلى درجة اتهام النظام. فالرأي رأي الزعيم وكل ما يخالفه هو جريمة بحق الأمة والوطن, ويلتقي مع آراء الآخرين المتربصين بنا جميعا خارج الحدود ويتقاطع معها...
ـ أنظمة تدعي بأنها مع حقوق الإنسان وغيورة عليها. ولكن ليس على الطريقة الغربية, فللإنسان العربي خصائصه وصفاته مختلفة عن الإنسان هناك. وعليه, وتماشيا مع هذا المنطق السليم, وتطبيقا للعدالة , على تلك الحقوق أن تتلاءم وتتناسب مع التمايز والتكوين الخاص للإنسان العربي, وغير العربي الذي يعيش حضارة العربي, فهؤلاء وان كانوا من طبيعة بشرية فليس كل ما يلاءم البشر يتلاءم مع خصائصهم .
ـ أنظمة "مزايدة" حتى على الغرب في هذه المسألة, تحيل الباحث, دون رفه جفن أو احمرار وجه, إلى دساتيرها التي يحتل فيها الإنسان مكانة سامية, حقوقه مصانة صيانة لا غبار عليها. وعليه استحدثت وزارات لحقوق إنسانها المقيم والمغترب. وتتفانى لإيصال ممثلين لها للمنظمات الدولية المعنية, وكل المنظمات غير الحكومية المهتمة بحقوق الإنسان. فهي لا تعمل جاهدة فقط على حماية هذه الحقوق في إقليمها, وإنما يؤرقها أن تجد تلك الحقوق منتهكة في أية قارة من القارات الخمس. ومن أجل ذلك تدفع الرشاوى السخية للمشاركة والمساهمة في الفعاليات الإنسانية في هذا المجال. كما ترسل طلابا لتحضير رسائل ماجستير ودكتوراه في مفاهيمها لتلك الحقوق( تحت عناوين مثل: حقوق وحرية الإنسان في فكر الزعيم فلان. العلمانية في الفكر السياسي للحزب الفلاني. دراسات في النصوص الدستورية المكرسة للحريات الأساسية وحقوق الإنسان وتفسيراتها في البلد الفلاني. الأبعاد الإنسانية في فكر القائد الفلاني. اتخاذ القرارات الرشيدة وأصولها في النظام السياسي الجماهيري وفي الكتاب الأخضر, أيام عز الكتاب الأخضر. المنطلقات النظرية لحزب البعث. في النقد والنقد الذاتي في ديمقراطية حزب البعث. وفي وفي وفي .. أربعون عاما من الكذب عليك وباسمك يا وطن ). يعود هؤلاء الطلاب بشهادات عليا مباركة ومعتمدة من انتهازيي الغرب ولا مباليها ــ فالشهادات مصدرة للخارج ــ لينافحوا عن الإنسان الذي ينتظر بفارغ الصبر عودتهم, ويضعوا علومهم و ثقافتهم بين يديه خدمة له وللوطن. (ما على القارئ إلا أن يستعين بالله ويتحلى بالصبر ويصمد ولو للحظات أمام الفضائيات السورية ليرى مثل هؤلاء الخرجين من الغرب والشرق, المختصين بمثل هذه المواضيع بدرجات دكتور أو باحث أو بروفسور أو مفكر ومحلل استراتيجي, وهم يخلطون بين النظام السياسي والدولة, ويُجيّرون الوطن لصالح الزعيم, ينافحون عن هذا الزعيم , ويبررون القتل والسجن والتشريد بعبارات لا تجري على لسان, إلا إذا كان صاحبه شبيحا موهوبا في فنون التشبيح ومصطلحاته, وبمبررات يخجل من اللجوء إليها حتى الإمبراطور بوكاسا آكل لحوم البشر).
ومع ذلك كان الطغاة العرب على اختلاف أنواعهم يحسون بان زيادة التركيز على خصوصية مواطنيهم قد لا تجر عليهم دائما خيرا, فأراد بعضهم الانفتاح على الإنسانية, وكان هذا الانفتاح منطلقا من مفهوم الغزو الجنسي للإنسانية, فقد جادت عبقرية المقبور القذافي ــ كان الطاغية عميد الزعماء العرب عمادة لم تكن فقط عمادة أقدمية وإنما كذلك فكرية ــ وهو في أوج عظمته, بأن ينفتح على الإنسانية, بعد جريمة لوكربي ــ وان كان لكل طاغية عربي فتحته ففتحة القذافي كانت أغربها ــ فقد دعا, في إحدى تجلياته الفكرية, إلى وحدة الشعوب في "الفضاءات" العالمية, مرخصا, من أجل هذا الهدف النبيل, للإنسان الذكر في دولته الحق في مصاهرة الدول الغربية, والزواج من فتياتها ليمتزج النسل, ويتفتح الإنسان على الإنسان, وتترسخ حقوقه, ملقحة, وتنتهي إلى الأبد العنصرية, في القارات و"الفضاءات" عن طريق اختلاط الدماء بالحلال, واضعا بذلك حدا لاختلاطها مسفوحة في التفجيرات الارهابية.
ليست مفاهيم الأنظمة السياسية العربية للإنسان وحقوقه وحدها المستهجنة, ولكن هناك ما يشابهها أو يفوقها سوءا وتخلفا كسياسات وطروحات ومواقف, تجود بها عقائد وعبقريات وثقافات وممارسات بعض التنظيمات, أو المنظمات, أو الهيئات, أو المراكز, التي تتخذ في مجموعها من التطرف الديني مدخلا لفهم الإنسان وحقوقه في ظل الإنكار المطلق لحرياته.
فالإنسان, بحسبها, ليس إلا مجرد إنسان "مشروط", مجرد شيء لا أكثر, مجرد عبد, عبد الله, مُسيّر بإرادة الله التي تصله خالصة عن طريق المتطرفين المعتمدين حصريا بوكالات إلاهية, لا يدرك مضامينها وأبعادها وألغازها غيرهم. أمروا بموجب هذه الوكالة العامة أن يحلوا حلولا كاملا محل الموكل, الذي هو الله, في مهمة إرشاد الإنسان واقتياده وإملاء عليه طريقة تفكيره. وشرح له ماهيته وأبعاد حقوقه, والشروط والقيود التي تقع على تلك الحقوق. وطرق خلاصه من عالم الرذيلة وإدخاله عالم الفضيلة, وعليه أن يتعلم طرق مأكله ومشربه ولباسه, وعلاقاته الخاصة جدا في غرف نومه, و "ببيت الأدب". والإيمان بان حقه في الحياة ليس حقا مطلقا غير مشروط وليس ملكا له وحده, عليه التخلي عنه نزولا على نداء الأمة, وهو نداء لا يُقبل ولا تجب الاستجابة له إن لم يكن بصوت المشايخ والأئمة, وحجج الله وآياته أصحاب الوكالة, لدحر الكفر والكفرة ليوم الدين.
قتل الإنسان الآخر, غير المؤمن بنصوص الوكالة, لإعلاء كلمة الله, لا يعتبر جريمة. قتل وإزهاق روح حرم الله, الوكيل, إزهاقها, وتحميها الشرائع السماوية والأعراف والقوانين الوضعية يدخل عند هؤلاء المتطرفين في أبواب الجهاد. فحق الإنسان في الحياة وهو أول وأساس حقوقه, ليس مقدسا, ولا مصانا إن خالف المعتقد الديني لهؤلاء المتطرفين. و لا يبرر له إن الله, موكلهم, لم يخلق كل مخلوقاته من البشر على نفس صورتهم ودينهم هم, وبالتالي لا ذنب لهؤلاء, وهم الغالبية من مكونات الإنسانية, في كونهم لم يُخلقوا على دين أصحاب الوكالة المطلوب تنفيذ كامل بنودها. ولا ذنب لهذه الأغلبية البشرية بان الله منحهم قدرات عقلية تفكر في كل شيء, وترى بفضلها في الكون وفي الإنسان غير ما يرون هم, وان كانت هذه القدرات العقلية قد قادتهم, في مجال التنظيم الإنساني عبر القرون, إلى واجب حماية الإنسان في الحياة الدنيا, والاعتراف له قبل كل شيء بإنسانيته وبالمساواة مع غيره, مهما كانت معتقداته وجنسه وأصله ولونه ومكان إقامته, وصاغت القوانين لصيانة كرامته وحقوقه وأوجبت نفاذ هذه القوانين, وعاقبت مخالفتها. فالأمر متعلق بالكائن البشري, الإنسان. وبالتالي ترى القتل قتلا وجريمة لا تغتفر. فهل وهذا هو الحال من مبررات لما يسمى القتل الحلال.
تتضافر مع ما سبق ذكره, للبحث عن حقوق مميزة لإنسان عربي مميز, العادات والتقاليد التي أصبح العديد منها فوق القوانين الوضعية, وأكثر قدسية من الدساتير, عادات وتقاليد يختلط فيها الديني بالسياسي بالموروث الاجتماعي و "الثقافي", تطلب من الفرد أن يتخلى عن فرديته وعن حقوقه الشخصية, لمصلحة الطائفة وشيخها, أو القبيلة وزعيمها. وزيادة عليه, يُطلب من المرأة/لإنسان التخلي عن حقوقها في الميراث. وحرية التعبير. واللباس. واختيار الزوج والمصير. و إلا أصبحت فاجرة, أو ناشز, تجلب العار لذويها, وخارجة كليا عن الأديان وعن الأعراف والتقاليد. أعراف وتقاليد ترفد المفاهيم الدينية, وكثيرا ما تدخل في بنيتها وتوجه سيرها وأحكامها. وعليه يصبح الإنسان بجنسيه, الذكر والأنثى, موضوع تحت وصاية كاملة ودائمة.
وصاية تعمقها التربية الأسرية بنزع فردية الفرد من كيانه, فهو خاضع وتابع لوالده. يقبل يده, طفلا وبالغا, صباحا ومساء, لا يرفع عينيه في وجهه, لا يجادله أو يناقشه, أو يتحدث بالمساواة معه. لا يخرج عن رأيه حتى ولو تعلق الأمر بمستقبله. وتزداد الطاعة حدّة واتساعا في حالة الأنثى التي لا تزيد عن كونها مجرد شيء قابل للتصرف فيه. لا تُسأل عن رأيها في مستقبلها ومصيرها, في زواجها وطلاقها, في سفرها وإقامتها. إنها حقوق الملكية على عناصر بشرية.
وصاية تثبتها وتعمقها المدرسة التي ما زال يُضرب التلميذ فيها صفعا وبالعصي (وبالفلق), فيكبر على الخوف من معلمه ومديره والمراقب والآذن. يتفتق ذهنه على أساليب الكذب والاحتيال والمراوغة للإفلات من العقوبة غير المبررة. يكبر على انه كفرد لا قيمة له. وانه إن لم يكن خلال مسيرته الحياتية ضاربا فسيكون مضروبا. وان لم يكن ذئبا تأكله الذئاب... يقف في الصباح قبل دخول صفه ليردد قسم الولاء لزعيم بلده, وليس لبلده, ولاء بالروح والدم. يلقن في منهاجها أصول الطاعة والخنوع, وعدم المناقشة والمنافسة, ويُأمر بترك الأمور لأولياء الأمور, لأن هناك من يفكر عنه وله. يتبعه كل هذا إلى الثانوية والجامعة, باستثناء الصفع والفلق, حيث ينتقل هذا التكنيك مطورا ومشددا إلى أقبية المخابرات غير البعيدة عن المدرسة, والجامعة, والوظيفة , والمزروعة في كل مكان. لمثل هذا الإنسان يجري البحث عن حقوق إنسان تناسبه.
ـ من واقع السلطة الشمولية بوسائلها القمعية.
ـ من واقع الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي وانهيار العديد من القيم.
ـ من واقع الأمية والجهل والفقر والمرض.
ـ من واقع موجات التطرف الديني والطائفي ورفض الآخر.
ـ من واقع عادات وتقاليد بالية لم تعد من عصرنا ولعصرنا.
ـ من واقع الأسر, التي لا تستطيع في تربيتها لأبنائها الإفلات من ضغط السياسة والاقتصاد والعادات والتقاليد, وكل ما يؤثر في وحدتها وقيمها.
ـ من واقع مدرسة ليست للتعليم وكسب المعارف والمهارات بقدر ما هي للترويض على الطاعة وثقافة التعايش السلمي مع الاستبداد, وتمجيد المستبدين, على اعتبارهم قدر هذه الأمة وآباؤها, وليسوا مجرد ساسة ورؤساء (وكما لا يمكن تغيير الأب وعزله, لم يعد ممكنا تغير الزعيم الأب وعزله, إلا حين يأخذ الله أمانته, بابن وريث, مشروع أب شرعي جديد, ولي عهد).
من وحي هذا الواقع وعلى هديه تبحث الأنظمة الاستبدادية والفكر الديني المتطرف عن حقوق إنسان ملائمة للإنسان في المنطقة العربية.
ولكن ونحن اليوم في مرحلة ثورات وتغييرات يبقى الأمل, لتغيير تخلف عمره عقود, ( حتى لا نقول قرون و يقودنا البحث للدخول في أعماق التاريخ) في بناء كل الأسس للدولة الديمقراطية, دولة القانون والمؤسسات, وفصل السلطات, دولة حقوق الإنسان والحريات الأساسية, والتعدد الحزبي والفكري, والمجتمع المدني. عندها وعندها فقط تتوفر الشروط للعمل على إعادة للإنسان ما للإنسان.
د. هايل نصر
التعليقات (0)