التاريخ يؤكد دائما على أن الأنظمة العسكرية الدكتاتورية التي أطاح مواطنيها بها كانت أخر قرارتها الإجرامية هي إطلاق الرصاص على المتظاهرين، فالتاريخ يؤكد على أن خلع الطغاة مقترن بإجرامهم في حق المواطنين وإبادهم بالرصاص لإعتراضهم على ممارساتهم وسياساتهم الخاطئة.
في كوت ديفوار اعتقد الجنرال جيي منذ نجاحه في الإطاحة بحكومة هنري كونان بيديه أن بمقدوره الاستمرار في قيادة البلاد في زي مدني، وبمساعدة عدد من السياسيين البارزين. وربما يكون الزعيم الاشتراكي لوران جباجبو وجبهته الشعبية- من خلال مشاركتهم في الحكومات التي شكلها الانقلابيون- قد أعطوا العسكر الفرصة للتمادي في أحلامهم من أجل الاستمرار أطول فترة ممكنة.
ويبدو أن السيناريو الذي خطط له هؤلاء العسكر هو أن تسعي البلاد نحو اقتفاء أثر جارتهم غانا وتكرير نمط زعامة جيري رولينجز الذي غير زيه العسكري وحكم بلباس مدني. غير أن "الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن"؛ إذ يبدو أن المعارضة المدنية لحكم العسكر قد فاقت وتجاوزت الانقسامات والاختلافات الداخلية بينها، الأمر الذي وقف حائلا أمام إمكانية تزوير الانتخابات. وعندما أعلن الجنرال روبير جيي نفسه فائزًا لم يعتد بنتائج اللجنة الانتخابية الوطنية. بيد أن زعيم المعارضة لوران جباجبو أعلن نفسه هو الآخر فائزًا بالانتخابات، ودعا أنصاره ومواطنيه للخروج في مظاهرات عارمة لمنع الحاكم العسكري من القيام بعمل انقلابي آخر من خلال سرقته لنتائج الانتخابات مما دفع الحكومة المسيطرة على البلاد إلى إصدار اوامرها للعسكر بفتح الرصاص على المتظاهرين ليسقط مئات القتلى والجرحى وليلتهب الموقف أكثر وأكثر فيعجل بخلع الحكومة التي لقبها المواطنون "بالمجرمة" وإلقاؤها إلى مزبلة التاريخ.
لقد أعلن الشعب الإيفوري كلمته الحاسمة عندما خرج في مظاهرات تندد بالحكم العسكري، وتطالب بتنصيب لوران جباجبو، ويبدو أن اتصالات الزعيم الاشتراكي المعارض بالجيش، ولا سيما ببعض القادة المؤثرين، هي التي أدت في النهاية إلى وقوف العسكر مع الشعب. وبالفعل أدت هذه الهبات الشعبية التي أريقت فيها الدماء إلى تنصيب لوران جباجبو كأول رئيس للجمهورية الثانية في كوت ديفوار.
ويرجع تاريخ الرئيس الجديد- وهو أستاذ في التاريخ- إلى العقد الأخير من حياة نظام حكم الزعيم المؤسس فيلكس هوفي بوانيه، حينما أسس جباجبو "الجبهة الشعبية الإيفورية" التي طالبت بالتعددية الحزبية وإدخال إصلاحات سياسية واسعة. وحينما أجريت انتخابات تعددية لأول مرة في كوت ديفوار نافس فيها جباجبو الرئيس الراحل بوانيه، وذلك عام 1990 إلا أن الأخير فاز فيها بدورة سابعة. وعندما توفي بوانيه عام 1993 خلفه رئيس البرلمان، وهو ينتمي إلى نفس قبيلة الرئيس بوانيه (قبيلة البول). وقد واصل جباجبو معارضته للرئيس المعين هنري كونان بيديه، وحينما أجريت الانتخابات الرئاسية عام 1995 تم استبعاد كل من الحسن وطارا ولوران جباجبو، وهو الأمر الذي أدى إلى فوز بيديه الذي لم يأبه بالمظاهرات الشعبية العارمة التي خرجت إلى الشوارع ليستشهد منهم المئات برصاص الطغاة.
وفي بانكوك العاصمة التايلندية، نظم عشرات الآلاف من التايلنديين مظاهرة "حاسمة" منتصف مارس الماضي، وسط إجراءات أمنية في مسعى لإجبار رئيس الوزراء أبهيسيت فيجاجيفا على حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة.
وتدفق المتظاهرون المنتمون إلى الجبهة المتحدة للديمقراطية ضد الدكتاتورية والمعروفون بأصحاب القمصان الحمر إلى الحي التجاري الثري ببانكوك، وأغلقوا شارع راتشبراسونغ موئل الفنادق الفخمة والمحلات الراقية، مما دفع التجار إلى إغلاق محالهم ومن بينها سنترال وورلد ثاني المجمعات التجارية الكبرى في جنوب شرق آسيا.
وانطلقت "قافلة حمراء" تضم آلاف السيارات في شوارع العاصمة متجهة إلى طريق فيبهافادي السريع، بيد أن قادة الجبهة أعربوا عن عدم نيتهم حصار مطار دون مواينغ.
وفي كلمة أمام المتظاهرين قال وينغ توجراكارن أحد قادة الجبهة المتحدة "نجتمع هنا لنتيح لأهل بانكوك الانضمام لنا... إن هذه المسيرة تبرهن للحكومة أن الحضريين في بانكوك يؤيدوننا وليس سكان الأرياف فقط"، بينما قال قيادي آخر إن "غدا سيكون النصر الحاسم".
أما حكومة فيجاجيفا فقد نشرت خمسين ألفا من قوات الجيش والشرطة والأمن بعدما نقلت شاحنات متظاهرين من المناطق الريفية إلى العاصمة بانكوك وآشتبكت قوات الأمن مع المتظاهرين مما أدى إلى وقوع العشرات من القتلي والمتظاهرين برصاص قوات الأمن بعد أن صدرت أوامر حاسمة بالتعامل بالرصاص الحي مع المتظاهرين.
وكان رئيس الوزراء -المدعوم من الجيش التايلندي- قد ذكر أن إجراء انتخابات سلسة أمر صعب الآن نظرا للتوتر الذي تشهده البلاد، وعرض حل البرلمان في ديسمبر/كانون الأول قبل عام من موعد انتهاء فترة ولايته، الأمر الذي رفضته المعارضة.
وفشلت الجهود الرامية إلى إنهاء الصراع عبر المفاوضات بين فيجاجيفا وقادة المعارضة الذين هددوا بمزيد من الاحتجاجات في الأيام المقبلة، ويري المحللون السياسيون أن ما يحدث في بانكوك هو بداية لنهاية عهد ما أطلق عليها المتظاهرين "الحكومة الفاسدة".
وفي قزغيزستان اندلعت المظاهرات العنيفة في مارس الماضي مما أدى إلى أسقاط الحكومة في قرغيزستان الأسبوع الماضي، أذاعت محطات التلفزيون الروسي تقارير تصف الرئيس كورمانبك باكاييف بالديكتاتور المستبد الذي سطت عائلته على مليارات الدولارات من مقدرات دولته التي يطحنها الفقر.
لعبت هذه الحملة الإعلامية، التي صاحبتها عقوبات اقتصادية عقابية أقرها الكرملين، دورا حاسما في إثارة الغضب الشعبي العام ضد باكاييف، ودفع الأفراد إلى النزول إلى الشوارع في مظاهرات أطلق خلالها العسكر الرصاص الحي على المتظاهرين فأطاحوا العشرات من القتلى ومئات الجرحى، لكن المتظاهرين إستمروا في الزيادة والهتاف بقوة ضد الحكومة فأجبرته على الفرار من العاصمة يوم الأربعاء قبل الماضي، بحسب قادة المعارضة والصحافيين والمحللين.
الأحداث في الدول المستبدة متشابهة، سواء في العهد البعيد أو القريب، والطغاة وإن إختلفت جنسيتهم أو دياناتهم إلا أن آفة الدكتاتورية تجعل شخصيتهم واحدة، وسلوكهم الإجرامي واحد خاصة إذا هبت عليهم أعاصير غضب الفقراء الجياع، فلا يجدوا في تلك الأثناء إلا الأمر الأخير ليصدروه إلى عسكرهم بإطلاق الرصاص على مواطنيهم الجياع، ليصبح هذا القرار النابع من رعب دفين زرع داخلهم على مر سنوات الطغيان إلى سبباً أساسيا في خلعهم من على عروشهم ليوضعوا في مزبلة التاريخ.
التعليقات (0)