مطالبات بحل جهاز الأمن الكيزاني
مصعب المشرّف
2 يناير 2020م
شيئا فشيئا وبمرور الأيام ؛ بدأت الأحداث التخريبية المتعمدة تفرض نفسها على الساحة .. ومنها على سبيل المثال أحداث بورتسودان والجنينة والنيقرز في أمدرمان . وضغوط نفسية وإرهابية على أسر وعائلات الشهداء .... ومطاردات شوارع وإقتحام مساكن ... وإعتداءات بالضرب والتعذيب وإفقاد الذاكرة للعديد من الناشطين السياسيين . والشهود على جرائم النظام البائد ، ومن يمتلكون بأيديهم مستندات ووثائق تدين أشخاص ورموز سياسية وإقتصادية من مؤدلجي النظام السابق أو مفتيه ومرتزقته....... وجميع ذلك لا يخفى على أحد أنه إنما صدر ويصدر من جهات منظمة غير عشوائية.
ثم جاءت الطامة الكبرى حين رمق الشعب أجمع والعالم من حولنا ؛ ذلك الإستهتار المبالغ به والإستفزاز الممنهج الذي أظهره المحكوم عليهم بالإعدام في مقتل الشهيد الأستاذ التربوي أحمد الخير .....
وليت الأمر قد توقف عند ذلك الحد . حيث كان بالإمكان تفسير إستهزاء المحكوم عليهم بالحكم ورفعهم علامات النصر في مواجه الحضور عامة وأهل الشهيد خاصة . وهتاف بعضهم "نحن للدين حماة وفداء" ......... كان بالإمكان تفسير ردود الأفعال المستكبرة هذه على أنها لحظات مكابرة ونفاق إنفعالي ؛ يدعي ممارسوه أمام الكامبرات أنهم كانوا على حق .. وأنهم أشجع من مهابة الموت ...
وأما وقد أخذتهم العزّة بالإثم على هذا النحو الفريد . فقد دلّ دلالة واضحة أن هؤلاء موعودون خيراً من جهة ما (غالباً جهاز الأمن) بأن هذه الأحكام التي ستصدر في حقهم (وكانت متوقعة) لن تكون سوى بغرض إمتصاص غضب الشعب وذر الرماد في العيون ..... وأنها سيكون لها ما بعدها من إستئناف وتمييز .. وفي أسوأ الأحوال رضا أولياء دم "القتيل" بالدية المُغرية السخيَّة ؛ التي سمعنا أنها ستصل إلى رقم فلكي ، بعد أن تعهدت دولة غاز عربية ثرية موالية لتنظيم الأصولية الإسلامية العالمية بتحملها من ميزانيتها المترعة بالأموال .. وأغلب الإحتمالات أن المبلغ سيصل مقداره إلى 3 ملايين ونصف المليون دولار على أقل تقدير (ديــّـة وفوقها بوسة) بواقع مائة ألف دولار عن كل محكوم عليه.
والذي رجح كفّة هذا التفسير أن جهاز الأمن والمخابرات الوطني لم ينتظر حتى تجف دموع أهل الشهيد وتلامذته والثوار وعامة الشعب . ولم ينتظر فراغ الشعب من الإحتفال بأعياد سنوية ثورة 19 ديسمبر الظافرة وفعاليات إجياء الشهداء ؛ وذكرى 64 الإستقلال المجيد .. .. ولكنه قفز فوق كل ذلك ، وأصدر بيان يعد فيه (كمؤسسة) منسوبيه المحكوم عليهم بأنه سيجلب لهم " العفو " ... عفو أولياء دم الشهيد على طبق من ذهب .
كذلك شهدت وسائط المعلوماتية الحرّة نشاطاً ثعلبياً مخادعاً وأفعوياً ساماً ؛ مارسه جداد الإنترنت ؛ يندد بتوجهات الرأي العام المطالبة بتنفيذ الأحكام وعدم القبول بالدية في ثنايا جلباب العفو . وقول بعض هؤلاء الجداد أن العفو من شيم الأكرمين ( الأكرمين؟.. آ الآن فقط عرفتم؟) ... وأن قرار العفو خاص بأولياء الدم وحدهم ..... ونسي هؤلاء الجداد أن الآية رقم (179) من سورة البقرة المتعلقة بالقصاص من "القاتل العمد" قد أخرجت هذه الخصوصية إلى العمومية . فجعلت القتل العمد شأن عام ...وألزمت المجتمع كافة بالقصاص الذي هو حياة له ...... وتركت الباب مفتوحا لممارسة الخصوصية في قرار العفو وقبول الديّة فيما يتعلق فقط بجريمة "القتل الخطأ" . وفق ما نصت عبه الآية رقم (92) من سورة النساء...... في حين أن الآية رقم (93) من سورة النساء حددت جزاء القاتل العمد في الآخرة . وهو الخلود في النار وعقوبات أخرى ... وإن الحكم يومئذِ إلاً لله الواحد القهار.
من كل ما تقدم فإن الذي بات واضحاً وجلياً أن جهاز الأمن (كمؤسسة) لم يتمكن .. ولن يستطبع التخلص من أثقال ومعاناة عقدة التفوق على المجتمع ومؤسساته .... ولن يكون بقادر (وإن حرصت قيادته) على تغيير عقيدته التي أنشأها وأسسها عليه نظام الكيزان البائد ...... وهنا تكمن خطورة إستمرار تواجد هذا الجهاز بتركيبته ومفاهيمه وعقيدته هذه وتلك..... المسألة إذن ليست قوانين ولوائح جامدة وقصص كتاب مطالعة يكفي تغييرها أو تعديل بعضها والسلام ؛ بكل هذه البساطة والتلقائية والسذاجة... وبميكانيكية كُـن فيكون.
في مثل هذه الأحوال فإن على البعض الذي كان قد سبق ونادى بإعادة "تشكيل" جهاز الأمن .. على هؤلاء البعض الإقتناع من حصاد التجربة والمحاولة ؛ أن "إعادة التشكيل" هذا قد إصطدم بجدار مانع لا يمكن التوقف عنده بعلاج إصلاحي .. كما أنه ليس من الحكمة القفز فوقه ..... فالواقع أننا الآن بمواجهة ورم لا تصلح معه سوى الإزالة وذلك بما إحتوى عليه هذا الجهاز من تراكمات فعلت فيه فعلها طوال 30 عام متتالية . لم يتلقى خلالها منسوبية من غسيل الأدمغة والتدريبات سوى العنف والبطش والإستهتار بكل الخطوط الحمراء وغير الحمراء في التعامل مع خصوم ومعارضي نظام المؤتمر الوطني البائد أو حتى أصحاب الأقلام والرأي العام من غير المنتمين لأحزاب أو تنظيمات سياسية... بل وأصبح يتدخل حتى في العلاقات الشخصية بين المواطنين والزيجات والطلاقات .. إلخ.
ولعلي كنت على حق حين كتبت مقالاً كاملاً قبل سنوات (على عهد الفريق محمد عطا المولى) . شجبت فيه لجوء وزير المالية الأسبق "علي محمود عبد الرسول" إلى جهاز الأمن للتدخل بشأن رفض هذا الوزير سداد عمولة سمسار توسط له في عملية شراء فيلا الداعية (الإسلامي) الزاهد الفقير إلى الله "عصام أحمد البشير" .. بمبلغ 2,5 مليون دولار.
على أية حــال ..... كان الناس يتوقعون أن ينصت جهاز الأمن إلى قوله عز وجل في محكم آياته إلى هذه الآيات :
[ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (179)] البقرة
[وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) ] النساء.
والثابت من الفعل أن قتل الشهيد أحمد الخير كان عمداً . لأنه تم إستخدام أداة صلبة في الجريمة . وهي التي أفضت مباشرة إلى موته . وكانت هذه الأداة هي القضيب الحديدي (سيخة) التي أدخلها عناصر من جهاز الأمن في شرج القتيل كخازوق مزق أحشائه.
واقعة القتل العمد مع سبق الإصرار في حالة الشهيد أحمد الخير لايمكن التلاعب واللف والدوران عليها من قبل مفتي سلطان أو جملة سلاطين وشياطين .. فهو لم تصبه رصاصة طائشة في موكب جماهيري حاشد . أو ضربة في الرأس أثناء مشاجرة متعددة الأطراف والمشاركات.....
لقد تواطأ المتهمون المحكوم عليهم بالإعدام والسجن على قتله وهو تحت أيديهم وبأوامر من بعضهم.
وكنا نتوقع كذلك .. وقبل أن يصدر جهاز الأمن بيانه المعيب ذاك ؛ أن يعيد تلاوة الآية التي "تبيح" دفع الدية أو العفو . وهي التي يقول فيها المولى عز وجل :
[وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(92) ] النساء.
وهذه الآية الكريمة تلزم القاتل الخطأ بالدية المسلمة إلى أهل القتيل ... وتلزمه أيضاً بالكفارة عن ذنبه ؛ سواء بتحرير رقبة مؤمنة أو صيام شهرين متتابعين توبة من الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور جل جلاله .
ويبدو أن البعض من النابتة أو من مفتي السلاطين بالقطعة أو بأجر شهري .. يبدو إما تلغفوا على عجل أو على الأرجح إستغلوا جانب من فتوى الإمام الشافعي رحمه الله ؛ الذي لم يتساهل في قصاص القتل العمد كما قد يتبادر من الوهلة الأولى . ولكنه تشدد فيه أكثر من الإمام أبي حنيفة النعمان لجهة الكفّارة ؛ حيث ألزم القاتل العمد بالكفارة عن ذنبه سواء بتحرير رقبة مؤمنة أو صيام شهرين متتابعين . وقال الإمام الشافعي في ذلك (أنه إذا كان القتل الخطأ موجب للكفارة . فإن القتل العمد أوجب لها).
ومن ثم فإن فتوى الإمام الشافعي لم تقبل بالعفو أو الكفارة أو الدية عوضا عن القتل العمد ... وإنما أضافت "الكفارة" إلى "القصاص" . فجعل على القاتل العمد قصاص + كفارة ...... وقد ذهب بعض القضاة سابقا إلى الأخذ بهذه الفتوى فحكموا بالقصاص (القتل) ، ومصادرة أموال وممتلكات القاتل العمد في آن واحد على إعتبار أنها كفارة. حيث توسع هؤلاء في تفسير وتقدير فترة "الخلود" وهل هي ذات أجل محدد أم غير محدد ..... ومنهم من إعتبر أن الكفارة التي أشار إليها الشافعي لاتغني عن القاتل شيئا حيث أن المراد من الكفارات أن تذهب غضب الرب ..... ولكن الله عز وجل قال : [وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) ] النساء.
وبالطبع فإن المُحكَم من الآية الكريمة هو وجوب "القصاص" في حالة القتل العمد. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة . فلم يرد أنه عليه الصلاة والسلام قد أمر أو آتانا بقبول الدية أو العفو في القتل العمد.
........
من كل ما تقدم فإن الذي ينبغي طرحه يتلخص في الآتي:
التعليقات (0)