انتفض المهرج الفرنسي كوليش Coluche ذات يوم من عام 1985 ضد كل من كان يضحك على عروضه الهزلية. انتفض على خشبة المسرح بطريقته الخاصة متوجها لكل الفرنسيين برسالة صامتة يقول لهم: لا تقضوا حياتكم في تتبع كوليش من أجل أن تضحكوا، تعالوا واتبعوني إلى عالم المعوزين حيث الطفل يذهب إلى المدرسة وهو محروم من فطور الصباح، وحيث العجائز والشيوخ يحلمون برائحة الخبز.. تعالوا لتروا الذين أصبحوا هياكل عظمية نخرها الجوع... تعالوا أيها الفرنسيون لا تقضوا حياتكم في تتبع كوليش من أجل القهقهة والضحك كما المعتوهين، فهنالك في الضفة الأخرى ما يدعو للتأمل والتألم معا.
هذه هي الرسالة الصامتة التي وجهها كوليش من على خشبة المسرح، إنه المهرج الذي استطاع أن ينتقل من عالم الضحك إلى عالم الدموع، استطاع أن يحرر نفسه من ضحكات المتفرجين السعداء وينصت لأنين البؤساء.
رسخ كوليش في فرنسا تقليدا إنسانيا وهو توزيع الوجبات الغذائية على المحتاجين الذين ينزلون ضيوفا على مطاعمه التي أسماها مطاعم القلب Les Restos du Cدur، وحافظ الفرنسيون على هذا التقليد رغم مرور ربع قرن على تأسيس هذه المطاعم.
أراد كوليش أن ينتفض ضد أولئك الذين لا يتحدثون عن الرحمة إلا في المناسبات الدينية فقط. وللأسف الشديد، إننا نجد بأن ما انتفض ضده كوليش في فرنسا قد تجذّر عندنا نحن في الجزائر في أشكال عدة: في مطاعم الرحمة... في قفة رمضان وهذه القفة التي نجد أن أمرها عجيب حقا، لأنه لو تأملنا فيها قليلا سنجد بأنها تقدم الجياع بأنهم يصومون طوال 11 شهرا ويحصلون على الأكل في شهر الصيام؛ وهذا يعني أنهم على مدى العام وهم صيام. وهنا نسأل الذين يظهرون لتوزيع قفة رمضان أين أنتم يا سادة طوال 11 شهرا؟.
أكيد أن الكثير منهم سيجيبوننا: كنّا في جولات بين سويسرا وشواطئ هاواي وفنادق مالطا...الخ.
أما إذا سألنا أولئك الجياع أين أنتم طوال 11 شهرا سيجيبوننا: كنا نأكل من المزابل، كنا نبيت جياعا، كنا نسرق لنشتري الخبز،...الخ.
فالذي يأكل من المزابل طوال عام وهو لا يشعر بالإهانة فمن الطبيعي ألا يشعر بالإهانة وهو يعطى الخبز في شهر واحد كل عام؛ ويأكل من لحمه طوال 11 شهرا؟!
من الطبيعي ألا يشعر بالإهانة لأن قفة رمضان أيضا أصبحت بالنسبة إليه قمامة تحتوي على فضلات البترول وقشور السهول الفسيحة وزوائد تستغني عنها القصابات!.
أما الذي يسرق كي يشتري خبزا فلماذا لا يواصل السرقة حتى في شهر رمضان عوض أن يصطف في طابور طويل من أجل قفة رمضان، فلو توجه لمواصلة السرقة فهو معذور ينطبق عليه قول ماكسيم غوركي، الذي قال لأحد الأطفال لما استاء من مشاهدته جائعا يسرق: »أنت أيضا لو جعت يوما لسرقت«. فسارق الخبز ينطبق عليه أيضا ما حدث في سنوات القحط، حيث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفع حكم السارق في وقت الجفاف والقحط، لأنه بفطنته علم بأن البطن الجائع لن يقتنع لا بالمواعظ ولا بالخطابات.
قفة رمضان إذن التي تمنح لمن يسرق طوال العام من أجل الحصول على الخبز ليست سوى إجازة قصيرة للتوقف عن السرقة، أفلا نستطيع أن نقدم لهم إجازة على مدى الحياة؟ أفلا نمتلك من الإمكانات ما يجعلنا نتذمر عندما نجد إنسانا يسرق من أجل شراء الخبز في بلد لازالت باخرة قمحه دينا على فرنسا؟
لم نتمكن من أن نقدم مساعدات للفقراء المعدمين بالطريقة التي قدمها بها كوليش. لم نستطع أن نفعل ذلك من دون إثارة الضجة واللجوء إلى الطبل والمزمار: والحاضر منكم يعلم الغائب، أننا سنوزع كذا وكذا من قفة رمضان، ونفتح كذا وكذا من مطاعم الرحمة!. لم نستطع أن نحافظ ونرسخ هذا العمل الواجب كما يليق بالجزائري، لأن من يدخلون مطاعم الرحمة ويحتاجون إلى قفة رمضان هم أحفاد أو أبناء الجيل الذي جابه يوما فرنسا لتعيش الأجيال بعدها بكرامة.
لم نستطع أن نحفظ كرامة الجائع مثلما فعل كوليش؛ ببساطة لأن كوليش كان قد ذاق مرارة إهانة الجائع وابتزازه حتى في خبزه، ففكر في أن ينشئ مطاعم الرحمة. فعل ذلك لرد الاعتبار لجياع فرنسا وبذلك كان يشعر برد الاعتبار لطفولته التي أذلت خاصة بعد وفاة والده، حيث رأى الامتهان الذي كانت تتعرّض له والدته التي اشتغلت خادمة عند بائع الأزهار. أما الذين يوزعون قفة رمضان ويفتحون مطاعم الرحمة في هذا الوطن يخيل إلينا...!؟
شتان بين الأعمال الإنسانية التي قام بها كوليش وبين الأعمال الإنسانية المناسباتية والمهينة للمواطن التي تقام في بلدنا. لقد نجح كوليش في جعل عمله إنسانيا محضا، بينما نحن طغت السياسة على الأعمال الإنسانية؛ فأصبح المواطن وسيلة لا غاية. حدث كل هذا لأن كوليش استطاع أن يحفظ ماء وجه جياع فرنسا ولأنه عرف معنى الجوع الذي اضطره للعمل كحمّال للسلع ثم كنادل في مقاهي الأحياء الحقيرة... وهذا عكس ما يحدث عندنا تماما، فالذين يجرحون كرامة المواطن بقفة رمضان وبمطاعم الرحمة لم يشتغلوا يوما في حمل السلع على ظهورهم؛ بل إن معظمهم هم أصحاب حمل السلع في الحاويات الكبيرة عبر البحار. ولم يشتغلوا في المقاهي بل بعضهم أرباب المنتجعات والفنادق الضخمة... وربما الفرق يكمن بين كوليش الفرنسي وكوليشات الجزائر، أن كوليش الفرنسي هو مهرج لكنه استطاع أن يفعل في فرنسا ما لم يفعله كل ساستها فكان أن تحول من مهرج إلى سياسي حكيم. ولكن كوليشات الجزائر منهم سياسيون محنكون لكنهم يتحولون في شهر رمضان إلى مهرجين بسبب مطاعم الرحمة المناسباتية والقفة الرمضانية المهينة لكرامة المواطن ولكرامة بلد الملايين من الشهداء.
قفة رمضان ومطاعم الرحمة كلها تدل على أن الجياع لا يذكرون إلا في شهر الصيام عندما يجوع السادة الكرام. ورغم هذا لا يمكننا أن نسقط عليهم حادثة يوسف عليه السلام الذي كان يصوم يوما ويفطر يوما ولما سئل عن السبب أجاب بأنه يفعل ذلك كي لا ينسى اليتامى والأرامل والبطون الجائعة.
وفي الخاتمة نقول لكل من جاع في هذا الوطن، ألا يطمعون في أن يلتفت إليهم صنّاع القرار. لابد ألا ينتظر الجائع في هذا الوطن أن يجد من يصاب بتشويش في ذهنه لما يسمع نداءه. لابد ألا ينتظر أن يجد أمثال الشيخ محمد الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة الذي كان في مجلس علم ودخلت عليه خادمة تخبره بنفاد الدقيق. فقال: »لها ويلك لقد أذهبت عني أربعين مسألة في الفقه«. على ما يبدو أن الكثير من أصحاب القرار يصفو ذهنهم أكثر خاصة في رمضان لما يرون الجزائر في أغلبها تكشف عن بؤساء أسوأ حالا من بؤساء فكتور هوغو. هكذا إذن يعم صفاء الذهن على بعض المسؤولين عكس ما حدث مع الحسن الشيباني ولهذا كثر الفقهاء في هذا الوطن!!!.
جيجيكة ابراهيمي - جامعة بوزريعة
التعليقات (0)