العلماء هم ورثة الأنبياء، بهم تتضح معالم الدين، وتتميز السنة، وتموت البدعة، ويظهر الحق، ويزهق الباطل، ولا تزال الأمة بخير ما دام فيها علماء مخلصون وفقهاء ورعون، يزودون عن حياض الدين، ويدفعون عنه كيد الأعداء، ومكر المبطلين.
وإذا مات العلماء حلت المصيبة، وأي مصيبة أعظم من موت العالم.. إنها أشد من الكوارث والزلازل؛ لأن الكوارث والزلازل تزلزل حياة الناس المادية، وأما موت العلماء فيزلزل حياة الناس الروحية والمعنوية.
إذا مات العلماء انتشر الجهل والجهالة، وعاش الناس بين الأباطيل يرددونها، والضلالات يعملون بها، فتراهم يهيمون على وجوههم بلا رائد يصدقهم، أو هاد يهديهم سواء السبيل، وهذا لعمري هو الموت المحقق، والدليل على قرب النهاية.. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبقَ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهّالاً يستفتون فيفتونهم برأيهم فيضلون ويضلون" (متفق عليه).
بل دليل على النقصان؛ كما فسر ابن عباس قوله تعالى "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) [الرعد: 41] بقوله : خرابها بموت علمائها وفقهائها و أهل الخير منها.
وفى هذا المعنى يقول الشاعر
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها متى يمت علم فيها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلف
فحياة الناس في الهداية لا في الجراية؛ لأن الهداية هي حياة الآخرة، والجراية حياة الدنيا، وأين حياة الدنيا من الآخرة؟!
يقول ابن القيم – رحمه الله – في كتاب مفتاح دار السعادة ومنشور أهل العلم والإرادة :"والحاجة إلى الشريعة أشد من الحاجة إلى التنفس فضلا عن الطعام والشراب؛ لأن غاية ما يقدر في عدم التنفس والطعام والشراب موت البدن وتعطل الروح عنه، وأما ما يقدر عند عدم الشريعة ففساد الروح والقلب جملة، وهلاك البدن الأبد .
وشتان بين هذا وهلاك البدن بالموت، فليس الناس قط إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم - والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد من خرج عنه؛ حتى يرجع إليه، وليس للعالم صلاح بدون ذلك البتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلا بالعبور على هذا الجسر".
عن سفيان بنِ عيينة عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لا يأتي عليكم عام إلا والذي بعده شر منه، ولا أعنى عاما أخصب من عام، ولا أمطر من عام، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم؛ فيهدم الإسلام ويثلم.
وقال الحسن البصري: "موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار".
لكننا لا نملك عند المصيبة إلا الصبر والاحتساب، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، هذا إذا كان موت العالم موتا حقيقيا، أي خرج من الدنيا بانقضاء الأجل المحتوم، وانتهاء العمر المعلوم، فهذا قضاء الله ولا راد لقضائه.
لكن ماذا إذا كان موت العلماء موتا معنويا؟، هل نملك إزاءه الصبر والتسليم، أم أنا مطالبون بشحذ الهمم، ومواصلة العمل؛ لنرد إليهم الحياة، وإلا فباطن الأرض خير لنا ولهم من ظاهرها.
لكن كيف يموت العلماء موتا معنويا؟
يموت العلماء موتا معنويا؛ عندما يؤثرون السلامة، ويطلبون الراحة والعافية في ركاب الظالمين، فلا يأمرونهم بمعروف أو ينهونهم عن منكر، ولا يأخذون على أيديهم؛ فيمنعونهم من تعطيل الشريعة وظلم العباد، ويأمرونهم بإعطاء الحقوق وإقرار العدل بين العباد.
يموت العلماء موتا معنويا؛ عندما يفقدون بوصلة الأولويات؛ فيأمرون بكل معروف إلا المعروف الأكبر، وهو تحكيم شريعة الله، وينهون عن كل منكر إلا المنكر الأكبر، وهو تعطيل حكم القرآن أو بعضا منه.
يموت العلماء موتا معنويا؛ عندما يسمحون لقوى الشر من أنظمة فاسدة، ومدعين ثقافة فسقة، ومتعالمين جهال، أن يأخذوا بناصية الأمر، ويملكوا - دونهم- أدوات التوجيه؛ ليشكلوا ثقافة الشباب، ويوجهوا عاطفتهم نحو الشهوات المحرمة، والملذات المنكورة.
يموت العلماء موتا معنويا؛ عندما يتركون وسائل الإعلام الفاسدة تشوه سيرتهم، وتلوث سمعتهم، وتجتث مكانتهم من نفوس الناس، ثم يجلسون يتراشقون بالألفاظ فيما بينهم، يبدع بعضهم بعضا، ويفسق بعضهم بعضا، ويضرب بعضهم رقاب بعض..
قل لي بالله عليك أيهما أشد مصيبة، وأنكأ جرحا: موت العلماء الحقيقي، أم موتهم المعنوي؟!
التعليقات (0)