مصطفى السباعي العالم المجاهد الداعية (1333 ـ 1384هـ = 1915 ـ 1964م)
بقلم
المستشار عبد الله العقيل :
مولده ونشأته:
هو مصطفى بن حسني السباعي من مواليد مدينة حمص في سورية عام 1915م، نشأ في أُسرة علمية عريقة معروفة بالعلم والعلماء منذ مئات السنين، وكان والده وأجداده يتولون الخطابة في الجامع الكبير بحمص جيلاً بعد جيل، وقد تأثر بأبيه العالم المجاهد والخطيب البليغ الشيخ حسني السباعي الذي كان له مواقف مشرّفة ضد الأعداء المستعمرين، الذين قاومهم بشخصه وجهده وماله.
كما كان أحد محبي الخير ومؤسسي الجمعيات الخيرية الإسلامية والمشاريع الاجتماعية، مما كان له الأثر الكبير في نشأة ابنه مصطفى السباعي.
كان مصطفى يصحب أباه إلى مجالس العلم، التي يحضرها علماء حمص، أمثال طاهر الريس وسعيد الملوحي وفائق الأتاسي وراغب الوفائي، وحين خطب للزواج أخبر الخاطبون أهل الفتاة أن السباعي مشغول في معظم أوقاته بأعباء الدعوة الإسلامية، ليكونوا على علم بذلك فوافقوا وتمت الخطبة.
شارك السباعي في مقاومة الاحتلال الفرنسي لسورية، وكان يوزع المنشورات ويلقي الخطب ويقود المظاهرات في حمص وهو في السادسة عشرة من عمره، وقد قبض عليه الفرنسيون واعتقلوه أول مرة عام 1931م بتهمة توزيع منشورات في حمص ضد السياسة الفرنسية، كما اعتقل مرة ثانية من قبل الفرنسيين أيضاً، بسبب الخطب الحماسية التي كان يلقيها ضد السياسة الفرنسية والاحتلال الفرنسي، وآخرها خطبة الجمعة في الجامع الكبير بحمص حيث ألهب حماس الجماهير، وهيّج مشاعرهم ضد الفرنسيين، بل قاوم الفرنسيين بالسلاح، عندما قاد مجموعة من إخوانه في حمص وأطلقوا الرصاص على الفرنسيين رداً على اعتداءاتهم.
وفي عام 1933م ذهب إلى مصر للدراسة الجامعية بالأزهر، وهناك شارك إخوانه المصريين عام 1941م في المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني كما أيَّد ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق ضد الإنجليز، فاعتقلته السلطات المصرية بأمر من الإنجليز مع مجموعة من زملائه الطلبة وهم: مشهور الضامن وإبراهيم القطان وهاشم الخازندار وفارس حمداني وعلي الدويك ويوسف المشاري، وبقوا في المعتقل قرابة ثلاثة أشهر، ثم نُقلوا إلى معتقل (صرفند) بفلسطين حيث بقوا أربعة أشهر، ثم أطلق سراحهم بكفالة.
وكان الشيخ السباعي في فترة الدراسة تلك قد تعرَّف إلى الإمام الشهيد حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين بمصر، وظلت الصلة قائمة بينهما بعد عودته إلى سورية، حيث اجتمع العلماء والدعاة ورجال الجمعيات الإسلامية في المحافظات السورية وقرروا توحيد صفوفهم، والعمل جماعة واحدة وبهذا أسست منهم (جماعة الإخوان المسلمين) لعموم القطر السوري، في عام 1945م، واختار الجميع الأستاذ مصطفى السباعي ليكون أول مراقب عام للإخوان المسلمين في سورية.
ومن الجدير بالذكر أن جريدة (الإخوان المسلمون) بمصر نشرت صورة البنا والسباعي وكُتب تحتها: (قائد وجندي)، فكتب الأستاذ البنا إلى رئيس التحرير يقول:
«... كما قرأت كذلك تحت الصورة التي نشرتموها بالأمس أيضاً تقديماً لي ولفضيلة الأخ الأستاذ مصطفى السباعي، وفي نهايتها هاتان الكلمتان (قائد وجندي)، فإن أردتم بالقائد فضيلة الأستاذ مصطفى السباعي وبالجندي هذا الضعيف الذي ما اعتبر نفسه يوماً من الأيام إلاّ أصغر جنود دعوة الحق، فقد أحسنتم وصفاً وشكراً لكم.. وإن كنتم تقصدون ما تبادر إلى الأذهان من أول وهلة وحين يرون مرشداً ومراقباً فإلى الله أبرأ مما صنعتم وإلى الإخوان أعتذر عمّا وضعتم، وأرجو ألا تحملنكم المداعبات الصحفية على مثل هذه المتعبات النفسية، والله أسأل أن يوفقنا جميعاً للخير، وأن يسدد خطانا لما يحب ويرضى، وأن يجمع القلوب على ما فيه خير الوطن العزيز» انتهى.
وقد حدّد الأستاذ السباعي في كتابه (دروس في دعوة الإخوان المسلمين) الأهداف والمهمات وميادين الإصلاح، حيث نادت جماعة الإخوان المسلمين في سورية بالإصلاح السياسي، والكفاح الوطني، وإزالة آثار الاستعمار، ورفع المظالم عن العمال والفلاحين، وإنشاء المدارس والمعاهد والأندية الرياضية، والمخيمات الكشفية، ومراكز الفتوَّة في مختلف المحافظات، وكان الأستاذ السباعي هو القائد العام للفتوَّة، كما قام الإخوان المسلمون بتشكيل لجان الإصلاح بين الناس وتقديم الخدمات الصحية والاجتماعية والخيرية، وزيارة القرى والأرياف.
وفي عام 1944م ذهب السباعي إلى الحج لأول مرة وفي عام 1945م
أنشأ جريدة (المنار) حتى عطلها حسني الزعيم بعد الانقلاب العسكري الذي قاده بتدبير ودعم من الأمريكان عام 1949م، وفي نفس العام حصل على الدكتوراه في التشريع الإسلامي وتاريخه، وقدّم أطروحته العلمية (السُّنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي).
وقد شارك الإخوان المسلمون السوريون في حرب فلسطين عام 1948م مع إخوانهم المصريين والأردنيين والفلسطينيين، حيث قاد الأستاذ السباعي الكتيبة السورية، وشاركوا في معركة القدس بخاصة ومعارك فلسطين بعامة، وأبلوا البلاء الحسن في الوقوف مع إخوانهم المجاهدين الفلسطينيين الذين تكالبت على حربهم دول الكفر مجتمعة لتشريدهم وإخراجهم من ديارهم ومصادرة أموالهم وهدم بيوتهم.
وبعد أن تمت المؤامرة وتمثيلية الحرب المصطنعة بين الدول العربية وإسرائيل، جُرِّد المجاهدون الفلسطينيون من أسلحتهم وسُلِّمت البلاد لليهود لقمة سائغة، واعتقل مجاهدو الإخوان المسلمين المصريين، وزج بهم في معسكرات الاعتقال، ثم نقلوا إلى سجون مصر، حيث قامت حكومة النقراشي العميلة بحل جماعة الإخوان المسلمين في 8/12/1948م، وعاد السباعي إلى سورية غاضباً يصب جام غضبه على المأجورين والعملاء، ويفضح خطط المتآمرين، ويكشف عمالة الأنظمة، ويشرح ما جرى من مهازل القادة العسكريين الذين كانوا تحت إمرة الجنرال (كلوب) الإنجليزي، ويكشف قضية الأسلحة الفاسدة التي زود بها الجيش المصري، ويفضح تصريحات القادة العراقيين عن عدم وجود أوامر لضرب اليهود (ماكو أوامر) وأنه لولا جهاد المتطوعين من الفلسطينيين والمصريين والسوريين والأردنيين والعراقيين من الإخوان المسلمين، لما وجد ثمة قتال حقيقي ضد اليهود، بل هدنة ثم هدنة لتمكين اليهود من العرب، وإمدادهم بالأسلحة الأوروبية والأمريكية والمقاتلين الأجانب لترجيح كفة اليهود على الفلسطينيين، ثم تسليم البلاد وتهجير أهلها واعتقال المجاهدين المتطوعين في سبيل الله للذود عن ديار المسلمين المقدسة.
يقول الأستاذ مصطفى السباعي في كتاب (الإخوان في حرب فلسطين): «كنا نشعر ونحن في قلب معارك القدس، أن هناك مناورات تجري في الصعيد الدولي، وفي أوساط السياسات العربية الرسمية، فتشاورنا في كتيبة الإخوان المسلمين فيما يجب علينا فعله، بعد صدور الأوامر إلينا بالانسحاب من القدس، فقرَّ رأينا على أننا لا نستطيع مخالفة الأوامر الصادرة إلينا بمغادرة القدس لاعتبارات متعددة، وأننا بعد وصولنا إلى دمشق سنرسل بعض الإخوان المسلمين خفية إلى القدس مرة ثانية، لدراسة ما إذا كان بالإمكان عودتنا بصورة إفرادية، لنتابع نضالنا في الدفاع عن فلسطين، وعدنا إلى دمشق مع سائر أفراد الحامية وقيادتها، التابعة لجيش الإنقاذ حيث تسلمت قيادة جيش الإنقاذ أسلحتنا ووعدت باستدعائنا مرة ثانية عند الحاجة.
وقمتُ بجولة في سورية تحدثتُ فيها عن معارك فلسطين وألقيتُ في ذلك محاضرات في كل مكان من دمشق وحمص وحماه وحلب واللاذقية ودير الزور وغيرها من المدن السورية، وذهل الجمهور لما أبديته من حقائق لم تكن معروفة لديهم تماماً، حتى شك بعضهم فيها، ثم انكشف الأمر وتبيّن صدق ما أدعي من العوامل الخفية والظاهرة التي كانت تُسيِّر معركة فلسطين، هذا بينما كان فريق من إخواننا المجاهدين قد عادوا إلى فلسطين خفية، لتنفيذ ما اتفقنا عليه» انتهى.
عاد السباعي إلى سورية ليخوض الحرب لإصلاح الفساد في الداخل، وتربية الأمة من جديد على منهج الإسلام الصحيح، منهج الإخوان المسلمين الذي يعنى بتربية الفرد المسلم، ثم الأُسرة المسلمة، ثم المجتمع المسلم، لتكون الثمرة قيام الحكومة المسلمة التي تحكم بشرع الله وتنفذ أحكامه وترعى مصالح البلاد والعباد، وتقضي على الشر والفساد، وتحارب الزيغ والإلحاد.
ولقد عمل السباعي وإخوانه على إدخال مواد التربية الإسلامية إلى المناهج التعليمية، كما سعى لإنشاء كلية الشريعة في الجامعة السورية عام 1955م وكان أول عميد لها، ثم شرع في إنشاء موسوعة الفقه الإسلامي التي أسهم فيها العلماء من جميع أنحاء العالم الإسلامي لتقديم الفقه الإسلامي في ثوب جديد، يعالج قضايا العصر ويحل مشكلاته على ضوء الكتاب والسُّنَّة وفقه السلف الصالح، واجتهاد العلماء الذين يملكون وسائل الاجتهاد وأدواته، وكان أول رئيس لهذه الموسوعة.
واختارت دمشق الدكتور مصطفى السباعي نائباً في الجمعية التأسيسية عام 1949م وهو ابن حمص ولم يمض على إقامته في دمشـق سوى بضع سنين، وسـرعان ما لمع نجمـه كـبرلماني شعبـي متفـوق، إذ كـان الصـدى الحقيقي المعبر لأماني الشعب وآلامه، والصوت المدوي الذي يصـدع بالحق ولا يداري، ويقارع الباطل ولا يهادن، ويترفع عن المكاسب والمغانم ولا يساوم، فاتجهت إليه الأنظار والتفَّت حوله القلـوب، وانتخب نائباً لرئيس المجلس، وقد بذلت له العروض بإلحاح وإغـراء للـدخول في الـوزارات المتعاقبة فرفضها، مؤثراً العمل الشعبي والعيش مع مشكـلات الجماهير وقضاياها، وكـان عضواً بارزاً في لجنة الدستور وأحد الأعضاء التسعة الذين وضعوا مسودة الدستور، ولقد قاد معركة القرآن تحت قبة البرلمان، كما قاد المظاهرات في دمشق من أجل الدستور، وتمكّن السباعي وإخوانه من استبعاد الطابع العلماني عن الدستور، وفرض الطابع الإسلامي على معظم أحكامه الأساسية سنة 1950م.
قال الأستاذ السباعي في كتابه القيم (دروس في دعوة الإخوان المسلمين): «نحن نعتقد أن كل نظام صالح في العالم، لا يمكن أن ينتفع به ما لم تؤيده حكومة حرة قوية صالحة، ومن أجل ذلك آمن الإخوان المسلمون بوجوب تحرير العالم العربي والعالم الإسلامي من الاستعمار مهما كان شكله أو لونه، كما آمنوا بتوحيد البلاد العربية في الوطن العربي الكبير والتعاون مع البلاد الإسلامية والصديقة بأي شكل من أشكال التعاون الذي يحقق قوة العالم الإسلامي ونجاته من الاستعمار ونهوض شعوبه من الفقر والجهل والتأخر، وفي سبيل هذه الغاية عمل الإخوان المسلمون في حقل القضايا العربية والإسلامية بنشاط لم يعهد في غيرهم من الهيئات والجماعات» انتهى.
وفي هذا العام 1950م عُيِّن السباعي أستاذاً في كلية الحقوق بالجامعة السورية، وفي عام 1951م حضر الدكتور السباعي المؤتمر الإسلامي العام، الذي انعقد في باكستان وحضرته وفود من جميع أنحاء العالم الإسلامي، كما ذهب السباعي في العام نفسه إلى الحج للمرة الثانية، وفي عام 1952م تقدّم السباعي وإخوانه بطلب إلى الحكومة السورية للسماح لهم بمشاركة إخوانهم المصريين لمحاربة الإنجليز في قناة السويس، فما كان من رئيس الحكومة أديب الشيشكلي إلا أن أمر بحل جماعة الإخوان المسلمين واعتقال السباعي وإخوانه وإلقائهم بالسجن.
ثم أصدر أمره بفصل السباعي من الجامعة السورية وأبعده خارج سورية إلى لبنان.
وفي عام 1953م عقد المؤتمر الإسلامي العام في القدس وحضره ممثلو الإخوان المسلمين من جميع الأقطار، وكذا الجمعيات وممثلو الشعوب الإسلامية، وفي السنة نفسها سعدنا بزيارته لمصر، حيث التقيته لأول مرة مع إخواني الزملاء يوسف القرضاوي وأحمد العسّال ومحمد الدمرداش.
وفي عام 1954م عقد المؤتمر الإسلامي المسيحي في بحمدون بلبنان، وشارك فيه السباعي للرد على أعداء الإسلام من المستشرقين والصليبيين، كما حضر الاجتماع الذي دعا إليه الأستاذ حسن الهضيبي ـ المرشد الثاني للإخوان المسلمين ـ في لبنان، وضم قادة الإخوان المسلمين في البلاد العربية، وحضره من مصر مع الأستاذ الهضيبي كل من: عبد الحكيم عابدين وسعيد رمضان وصالح أبو رقيق ومنير دلة، ومن سورية مصطفى السباعي، ومن الأردن محمد عبد الرحمن خليفة، ومن السودان علي طالب الله، ومن العراق محمد محمود الصواف، ومن الكويت عبد العزيز المطوع.
وبعد عودة الهضيبي إلى مصر واعتقاله
من الطغمة العسكرية الحاكمة فيها مع جميع قادة الإخوان المسلمين، شكَّل الإخوان المسلمون في البلاد العربية مكتباً تنفيذياً تولى الدكتور مصطفى السباعي رئاسته، وفي عام 1955م ذهب الدكتور السباعي مع أساتذة وطلاب الجامعة السوريـة إلى الحج وهـي المرة الثالثة بالنسبة له. وهي السَّنة التي ذهبت فيها مع مدوسي مدرسة النجاة بالزبير إلى الحج.
وفي السَّنة نفسها أسس مع إخوانه مجلة (الشهاب) الأسبوعية، التي استمرت في الصدور إلى قيام الوحدة مع مصر عام 1958م، وفي العام نفسه 1955م حصل على ترخيص إصدار مجلة (المسلمون) الشهرية بعد توقفها في مصر، وظلت تصدر في دمشق إلى عام 1958م ثم انتقلت إلى صاحبها د. سعيد رمضان في جنيف بسويسرا، فأصدر السباعي بدلها مجلة (حضارة الإسلام) الشهرية سنة 1960 وظل السباعي قائماً على هذه المجلة حتى توفاه الله، وتولى إصدارها د. محمد أديب الصالح بدمشق، ثم توقفّت فيما بعد.
وفي عام 1956م عقد المؤتمر الإسلامي بدمشق وفي السنة نفسها أوفدته الجامعة السورية إلى ديار الغرب لزيارة الجامعات الغربية والاطلاع على مناهج الدراسات الإسلامية فيها، فزار إيطاليا، وبريطانيا، وإيرلندا، وبلجيكا، وهولندا، والدنمارك، والنرويج، والسويد، وفلندا، وألمانيا، والنمسا، وسويسرا، وفرنسا، واجتمع فيها بالمستشرقين وناقشهم في مؤلفاتهم عن الإسلام وكشف لهم أخطاءهم العلمية والتاريخية.
وفي عام 1957م ذهب السباعي مع عمداء الكليات في الجامعة السورية إلى روسيا بدعوة من جامعة موسكو زار خلالها معظم الجامعات الروسية في مختلف الأقاليم، والتقى أساتذة الدراسات الشرقية والتاريخية والاجتماعية، وناقشهم وفنَّد مقولاتهم وأبطل مزاعمهم الخاطئة عن الإسلام والمسلمين.
مؤلفاته:
والدكتور السباعي له باع طويل في التأليف، فهو من العلماء المحققين، والفقهاء المجتهدين، الذين استوعبوا الفقه الإسلامي من أصوله المعتمدة ودرسوا قضايا العصر المستجدة وقاسوها على ما سبق من أحكام مستمدة من الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة، ومن أهم مؤلفاته:
ـ شرح قانون الأحوال الشخصية (جزءان) ـ من روائع حضارتنا ـ المرأة بين الفقه والقانون ـ عظماؤنا في التاريخ ـ القلائد من فرائد الفوائد ـ دروس في دعوة الإخوان المسلمين ـ السُّنَّة ومكانتها في التشريع ـ هكذا علمتني الحياة (جزءان كتبهما في فترة المرض) ـ اشتراكية الإسلام ـ أخلاقنا الاجتماعية ـ أحكام الصيام وفلسفته ـ الدين والدولة في الإسلام ـ نظام السلم والحرب في الإسلام ـ هذا هو الإسلام (جزءان) ـ السيرة النبوية دورس وعبر ـ الاستشراق والمستشرقون ـ المرونة والتطور في التشريع الإسلامي ـ منهجنا في الإصلاح ـ العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في التاريخ ـ التكافل الاجتماعي في الإسلام ـ جهادنا في فلسطين ـ مشروعية الإرث وأحكامه ـ آلام وآمال ـ الصراع بين القلب والعقل ـ أصدق الاتجاهات الفكرية في الشرق العربي ـ مقدمات حضارة الإسلام.
ومن الغريب أن فترة مرضه على قساوتها وشدتها، كانت من أخصب أيام حياته، وأكثرها إنتاجاً من الناحية العلمية، يقول د. محمد أديب الصالح: «كان السباعي ـ رحمه الله ـ حريصاً كما علمت منه قبل وفاته بيوم واحد على كتابة مؤلفات ثلاثة هي: العلماء الأولياء، والعلماء المجاهدون، والعلماء الشهداء».
وقد ذهب السباعي إلى الحج للمرة الرابعة وهي الأخيرة عام 1384هـ 1964م حيث كان يعاني من المرض العضال والآلام المبرحة، التي لم تكن تبارحه، ولكن فضل الله عليه في هذه الرحلة المباركة كان عظيماً، حيث يقول بنفسه: «لأول مرة منذ سبع سنوات يهدأ الألم في دماغي وأقوى على الصلاة واقفاً على قدمين، وأجلس للتشهد فيها، ولقد قدمت مكة المكرمة، فطفت طواف العمرة محمولاً على المحفة، ثم غادرتها وطفت طواف الوداع على قدميّ، وأكرمني الله بزوال آثار مرض السكر منذ وصلت المدينة المنورة، فكنت أتصبّح بسبع تمرات من تمرها، إيماناً مني بالحديث الصحيح الوارد في التمر وهو من الطب النبوي.
زاره أحد أصدقائه مواسياً فكان جواب السباعي: «إني مريض أتألم ليس في ذلك ريب، وإنك لتشاهد الألم على وجهي وعلى يديَّ وفي حركتي، ولكن انظر إلى حكمة الله فيَّ، إن الله قدير على أن يشل حركتي وقد شل بعض حركتي ولكن انظر ماذا شل، لقد شل طرفي الأيسر وأبقى لي الطرف الأيمن فما أعظم النعمة التي أبقى لي: أكنت أستطيع أن أخط بالقلم لو شل اليمنى مني؟».
واستمر المرض ثماني سنوات ضرب السبـاعي فيها أروع آيـات الصبر على الـبلاء، والتسلـيم لقضاء الله، والرضـا بحكم الله عـز وجل، وكـان كثير الحمد لله والـتسبيح له والاستغفار، آنـاء الليل وأطراف النهار، ولم يمنعـه هذا الـمرض العضال، من الـنهوض بواجبـاته كصـاحب دعـوة حق، وداعيـة مسلم.
يروي الأخ عبد العزيز الحاج مصطفى عن الدكتور حسن هويدي في وصف حال السباعي في مرضه حيث يقول:
«ولقد رأيته في مرضه، يتكئ على العصا، غادياً إلى الجامعة ورائحاً، في الوقت الذي قعد فيه الأقوياء، وخمل فيه الأصحاء، ويا رُب مريض مشلول أشد من سيف مسلول، وما كان استمراره في الجهاد (رحمه الله) على الرغم من شلله وإصابة قلبه وضغط دمه، إلا دلالة صادقة وحجة ساطعة، على أن الرجل سجيته الجهاد، وطبيعته الكفاح، وغريزته التضحية، وفطرته الشجاعة والفداء، فأنى يجد الرياء إلى نفسه سبيلاً، أو الفتور إلى نفسه مسلكاً أو التردد إلى عزيمته منفذاً فسبحان من منحه وأعطاه وتفضل عليه وأرضاه» انتهى.
ويقول عنه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في مجلة (حضارة الإسلام):
«كان، طيب الله ثراه، عـذب النفس، رقيق الحاشية، مرهف الذوق، والشعور، يستجيب للدعابة، ويجيدها ولا يبذلها إلا في مواطنهـا، وكان صـافي النفس وفياً، محبب العشرة، شهم الإخاء، سريع النجدة كريمها، وكـانت له مسامرات ومحاورات تفيض ذوقاً وعذوبة نفس مع صديقه الصفي وأخيـه الكريم الشيخ محمد الحامد، وإن الإنسان قد يعجب ـ ولا عجب ـ حين يقرن بين وقار النابغة السباعي في مواطن الجد ومخاشنته لأعداء الله والأمة وانقباض نفسه عن المنافقين والنفعيين، وبين شفافية روحه وانطلاق جنانه وتلطف لسانه في معاشرة أحبائه وإخوانه ولكن لا عجب فهو للإسلام والعمل به على بصيرة». انتهى.
وفاته:
وفي يوم السبت 27/5/1384هـ 3/10/1964م انتقل المجاهد العامل والداعية الصابر، الأستاذ الدكتور مصطفى حسني السباعي إلى جوار ربه بمدينة دمشق، بعد حياة حافلة بالجهاد المتواصل، وقد شيعت جنازته في احتفال مهيب وصلي عليه في الجامع الأموي بدمشق، وتوالى الخطباء يؤبنون الفقيد بكلمات مؤثرة وهم: الدكتور حسن هويدي، والأستاذ محمد المبارك، والأستاذ محمد المجذوب، والأستاذ مشهور حسن، والشيخ عبد الرؤوف أبو طوق، والدكتور محمد أديب الصالح، والشاعر محمد الحسناوي وغيرهم.
ولقد كتب سماحة مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني كلمة في رثاء السباعي، نقتطف منها: «فقدت سورية علماً من أعلامها، ومجاهداً من كبار مجاهديها، وفقد العالم الإسلامي عالماً من علمائه الأجلاء، وأستاذاً من أساتذته الفضلاء، وداعية من دعاته البلغاء، ولقد عرفته، فعرفت فيه الصدق والإخلاص، والصراحة ومضاء العزيمة والاندفاع في سبيل العقيدة والمبدأ، وكانت له قدم صدق، ويد بيضاء، في خدمة القضايا الإسلامية والعربية، وفي طليعتها قضيتا سورية وفلسطين، وكان على رأس كتيبة مجاهدي الإخوان المسلمين دفاعاً عن بيت المقدس عام 1948م» انتهى.
ويذكر أبو الحسن الندوي عن لقاءاته مع السباعي حين زار سورية عام 1951م فيقول: «لقد أعطاني الحاج محمد أمين الحسيني كتاب تعريف للشيخ السباعي وأثنى عليه ثناءً عاطراً، فلما زرت مركز الإخوان المسلمين في السنجقدار بدمشق، كان لقائي الحار بالأستاذ السباعي.
وقد حضرتُ مع السباعي جلسات البرلمان السوري كما زرتُ معه الجمعية الغراء والتقينا معظم علماء سورية كالأستاذ عمر بهاء الأميري والأستاذ محمد المبارك، والشيخ محمد نمر الخطيب، والشيخ أحمد الدقر، والشيخ عبد الرؤوف أبو طوق، والشيخ محمد بهجت البيطار، والدكتور أمجد الطرابلسي، والأستاذ سعيد الأفغاني، والأستاذ أحمد مظهر العظمة وغيرهم، وقد استضافني أكثر من مرة في بيته، كما ذهبنا معه إلى مصيف الأشرفية وزرتُ معه حمص حيث ألقيتُ محاضرة بمركز الإخوان المسلمين، وزرنا مسجد خالد بن الوليد، والشيخ عبد العزيز عيون السود، والشيخ محمد توفيق الأتاسي، حتى غادرت سورية حيث كان في وداعي بالمطار» انتهى.
أما الأستاذ حسني أدهم جرار فيقول في كتابه القيّم: (مصطفى السباعي قائد جيل ورائد أمة) الذي استفدت منه كثيراً:
«كان السباعي علماً بارزاً من أعلام الفكر والدعوة والجهاد في زماننا المعاصر، وكان منارة من منارات الإسلام الشامخة، ونموذجاً مشرقاً على امتداد تاريخنا الطويل، وكان عالماً متفتح الذهن، آتاه الله علماً واسعاً، وذكاءً حاداً، وبديهة حاضرة، وأسلوباً في الحوار نادراً، وجرأة في الحق، وقدرة على التصدي للباطل، وقوة في الإيمان، ويقظة في الضمير».
ويقول العلاّمة الكبير محمد أبو زهرة: «إنني لم أر في بلاد الشام، أعلى من السباعي همة، وأعظم منه نفساً، وأشد منه على الإسلام والمسلمين حرقةً وألماً».. انتهى.
أما العلاّمة د. يوسف القرضاوي فيقول عن السباعي: «الداعية الفقيه، الصابر المجاهد، صاحب الروح المشرقة، والبيان المغدق، والعقل المتفتح، الذي قاوم أعداء السُّنَّة فأسكتهم، ودعاة العلمانية فأفحمهم، مؤسس الحركة الإسلامية في سورية، ومنشئ مجلة (حضارة الإسلام) وصاحب الكتب القيمة والرسائل النافعة الشيخ الدكتور مصطفى السباعي».
ومن قصيدة للشاعر محمد الحسناوي يرثي فيها السباعي قال:
كم جاء يخطب كلُّ عملاق ودا
دَكَ بالمنى والأصفر الرنانِ
كم دولة كبرى دعتك فما استجبت
لغير صوت الحق والإيمانِ
وسَخِرْتَ بالإغراء والتهديد لا
قرّتْ بفقدك مقلة الخُوّانِ
ومشيت إذ قعد الورى لتغيث أر
ضَ الأنبياء بغيثك الرباني
بكتائب الرحمن تجتاح اليهو
د تذود عن دين وعن أوطانِ
ورجعت صلب العود عالي النفس تُر
سي الأُسَّ فيما انهار من بنيانِ
ورجمت أصنام الخيانة والهوى
ودمغتَ كل مداور وجبانِ
فيك الأبوة والقيادة والتقى
والعلم والإخلاص للرحمنِ
فيكَ الجهادُ شجاعة وريادة
لله كم أصفاك من إحسانِ
أولست من هزّ المنابرَ والعرو
شَ وزلزلَ الطاغوت بالإيمانِ؟
خصائص حضارتنا:
قال السباعي في كتابه الرائع: (من روائع حضارتنا):
«لقد تميزت حضارتنا بالخصائص التالية:
1 ـ قامت على أساس الوحدانية المطلقة في العقيدة، فهي أول حضارة تنادي بالإله الواحد الذي لا شريك له في حكمه وملكه. هو وحده الذي يُعبد، وهو وحده الذي يُقصد {إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين} [الفاتحة: 5] وهو الذي يعز ويذل ويعطي ويمنع، وما من شيء في السماوات والأرض إلاّ وهو تحت قدرته وفي متناول قبضته.
هذا السمو في فهـم الوحدانيـة كان له أثرٌ كبير في رفع مستـوى الإنسـان وتحرير الجماهير من طغيان الملوك والأشراف والأقوياء ورجال الدين.
2 ـ وثاني خصائص حضارتنا أنها إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأُفق والرسالة، فالقرآن أعلن وحدة النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه في قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.
3 ـ وثالث خصائص حضارتنا أنها جعلت للمبادئ الأخلاقية المحل الأول في كل نظمها ومختلف ميادين نشاطها في الحكم وفي العلم وفي التشريع وفي الحرب وفي السلم وفي الاقتصاد وفي الأُسرة.
4 ـ ورابع هذه الخصائص أنها تؤمن بالعلم في أصدق أصوله، وترتكز على العقيدة في أصفى مبادئها فهي خاطبت العقل والقلب معاً، وأثارت العاطفة والفكر في وقت واحد.
5 ـ وآخر ما نذكره من خصائص حضارتنا: هذا التسامح الديني العجيب الذي لم تعرفه حضارة مثلها قامت على الدين».
رحم الله أستاذنا الجليل الدكتور مصطفى حسني السباعي، فلقد كان رجلاً في أمة، وكان زينة الدعاة في عصره، وقرّة عين ديار الشام، وابن حمص، الذي تفخر به وتعتز، لقد كان السباعي ملك الإسلام والمسلمين وكانت وفاته خسارة على الإسلام والمسلمين.
التعليقات (0)