في العام 1982 وإثر قيام الأرجنتين بعمل عسكري وضعت به يدها على جزر الفوكلاند في نزاعها عليها مع انجلترا .. فشنت انجلترا حرباً محدودة هزمت فيها الأرجنتين "بسهولة" وبسطت سيطرتها على جزر الفوكلاند ...كانت هزيمة سريعة ومريرة للأرجنتين..
ولم ينقضي عام 1986 حتى ثأر "مارادونا" للأرجنتين حين أذاق الانجليز مرارة الهزيمة في مباراة من أشهر مباريات التاريخ حينما أحرز مارادونا هدفه الأشهر بيده والذي احتسبه الحكم التونسي علي بن ناصر هدفا دون أن يلحظ يد مارادونا الذي عاد وقطع الملعب كله وحده متلاعباً بكامل فريق المنتخب الإنجليزي حتى أودع في مرمى انجلترا هدف تأكيد الفوز الذي كان بمثابة الثأر للأرجنتين لهزيمتها العسكرية أمام انجلترا ...
من هنا صارت لعبة كرة القدم ورقة سياسية هامة و(خطيرة) ضمن أوراق الأنظمة والحكومات بل والشعوب أيضاً ..
وصار الاتحاد الدولى لكرة القدم ( الفيفا) في مستوى "دولة" ذات سيادة وقرار وتأثير دولي وعالمي...
وإذا كان "الثأر والانتقام" هما عنوان المواجهة الكروية بين الأرجنتين وانجلترا نتيجة للخلاف العسكري وسابقة الحرب بينهما...
فإن مصر والجزائر لا تحمل الذاكرة ثمة خلاف بينهما ولو حتى على المستوى الدبلوماسي ..بل بالعكس فإن وشائج التلاحم والتعاون والارتباط التاريخي والنضالي والكفاحي بين الدولتين شعباً وحكومات شيء لا ينكره إلا من بعينه رمد ..
فكيف تصل الأمور بينهما في تنافس بمباراة كرة قدم إلى حد هذه الكراهية المقيتة .. والحرب الإعلامية البغيضة .. والالتحام الجماهير الدامي... والتظاهر المتشنج ... والاعتداءات السافرة .. السافلة .. والأزمة الدبلوماسية الناشبة.. ؟!!
بل ربما تصل الأمور حد القطيعة الكاملة على جميع المستويات ..
لقد بدأت المهزلة بحملات إعلامية عدائية ساخنة ومتبادلة بين البلدين (العربيين) تحولت إلى خصومة "فاجرة "على كافة المستويات الإعلامية والإعلانية فرضت نفسها على أو فرضتها علينا الفضائيات والشبكات العنكبوتية و المنتديات والبرامج على جميع توجهاتها الرياضية والسياسية والاجتماعية والدينية حتى برامج المرأة الخاصة بالمطبخ لا تمر دون أن تدلي بدلوها في أتون الحرب المستعرة التي وقفت وراءها (بقوة) أنظمة الحكم ورجالات الدولة على أعلى مستوى في البلدين ..
الأمر الذي انعكس بقوة على اتجاهات الرأي.. وشحن الشعوب بشحنات وطاقات شديدة التفاعل والانفعال غذتها الأناشيد والأغاني الوطنية "العسكرية" التي تبث الحماس الشعبي العارم نحو عدو متربص!! ..
وهكذا غذت الأنظمة السيادية في كلا الدولتين أو على الأقل أعطت الضوء الأخضر لكافة أجهزتها الرسمية وغير الرسمية لتجنيد كافة طاقات الدولة ومواردها في إذكاء هذه الحرب لتوجيه اهتمام ومشاعر شعبها نحو هدف خارجي وإشغاله عن قضاياه ومشاكله ومصائبه الداخلية ووصولاً في حالة الفوز في مباراة رياضية تكون بمثابة (قبلة الحياة) تستمد من خلالها شرعية اهترأت قماشتها وتهاوت أركانها وتآكلها الفساد والاستبداد !!..
أقول تستمد شرعية تسمح لهذه الأنظمة بتنفيذ خططها في تثبيت دعائمها وتمرير ما تريده على جثة وحساب ومصير جماهير شعبها المخدر بفعل مشاعره المهتاجة والمنفعلة والمنفلتة والموجهه نحو هدف مغلوط .. بل نحو شعب شقيق وبلد شقيق..
وهكذا جندت مصر قياداتها ورجالاتها في اللهث وراء لاعبيها وأعطت لإعلامها الضوء لشن حرب إعلامية "رياضية" ضد الجزائر أثارت وأهاجت شعب الجزائر والذي استغلت قيادته العليا ورجالات دولته الفرصة لإذكاء نار الحرب المضادة بتغذية الجماهير الشعبية بالمشاعر العدائية المضادة ..
حيث يتلمسها الجميع في كافة وسائل الإعلام والمنتديات والمدونات ومدونتي شاهد حي على ذلك ...
كما استغلت ركوب قناة الجزيرة القطرية الموجهة (بتوجيه سياسي) الموجة عن طريق بث أنباء كاذبة أو على الأقل غير محققة أو حتى بها طرف من الصحة " عن اعتداءات تعرض لها لاعبو المنتخب الجزائري وجماهيرهم بالقاهرة" وتضخيمها إلى الدرجة التي أهاجت الرأي العام بالجزائر مع تغاضي (مقصود) وخبيث من الجهات الرسمية الجزائرية لترك الساحة متاحة للانفعال والتعبئة الشعبية للجزائريين بالرغم من أنه يمكن على المستوى الرسمي أن تقوم القيادات الجزائرية بدورها في تقصي الحقائق وبثها فوراً لتوضيح الحقائق أو وضع الأمور في حجمها الحقيقي أمام شعبها لنزع فتيل الاحتقان إلا أنها لم تفعل ..
كما كان من الأوجب على الدولة المصرية في أعلى مستوياتها أن تبث رسائل الطمأنينة علانية للدولة الشقيقة حكومة وشعباً .. وأن تصدر أوامرها الصارمة لجهازها الإعلامي الرسمي وغير الرسمي بعد الإثارة أو الشحن أو الاستعداء ..
لكنها لم تفعل أو كان فعلها ضعيفاً أمام رغبتها في المحافظة على الشحن الجماهيري الشعبي نحو الفوز دون النظر تحت أقدامها ..
وهكذا بمجرد التيقن من اللجوء إلى مباراة فاصلة (بالسودان) حسب القرعة التي انحازت إلى رغبة مصر ..
فإن الذي حدث بالسودان شيء لا يكاد يصدقه عقل .. إنها حرب حقيقية .. بل حرب عسكرية كاملة تمت على أرض السودان ..
حيث خطط ودبر لها بمهارة قيادات عليا تتخذ الصفة العسكرية في الجزائر ويرعاها ويشرف عليها الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة بنفسه .. حيث سبق الجزائريون المصريين إلى التوافد بالآلاف على أرض السودان وحجز غالبية الفنادق وأماكن السكنى .. كما تواترت عشرات الطائرات الحربية العسكرية الجزائرية في جسر جوي مباشر بين الجزائر والسودان حملت الآلاف المؤلفة من (عناصر) جزائرية شبابية اتخذت مواقعها بعناية بعد أن أفرغت السوق السوداني من كافة ما به من أسلحة بيضاء وعصي وسيوف وغيرها .. مع استغلال تأخر الطائرات (المدنية) المصرية عن الوصول في شغل مساحات كبيرة من الأماكن المخصصة للجماهير المصرية .. وسارت المباراة في جو حربي وفي حراسة 15000عنصر من الجيش السوداني إلى أن انتهت بفوز الجزائر ثم اندلاع حرب الشوارع والمطاردة الدامية المخزية التي قامت بها (العناصر) الجزائرية للمصريين الذين اختبأوا في منازل السودانيين بينما هربت القيادات مغادرة السودان تاركة وراءها البسطاء من الجماهير المصرية تلاقي مصيرها على يد العناصر الجزائرية المجهزة.. علاوة على المصريين المقيمين في الجزائر الذين تعرضوا للمطاردات والضرب والبهدلة وإقتحام الجزائريين عليهم بيوتهم والمحال المتواجدين بها وتحطيم الشركات المصرية في هجمات تسودها الكراهية والبغضاء .
وعادت الجماهير المصرية مشحونة بالرعب والفزع لتستقبلها الفضائيات والأجهزة الإعلامية لتعيد شحن الشعب المصر بأكمله بموجة شديدة من العداء لكل ما هو جزائري .. وانقلب السحر على الساحر .. حيث تواجهت القيادة المصرية بضغوط شعبية شديدة تطالبها بالانتقام لكرامة المصريين مما حاق بها من اجتراح على يد الجزائريين بينما تغاضى الجزائريون – في خضم أفراحهم- عن ذلك الشرخ الكبير في جدار الأخوة الرابط بينهم وبين المصريين ...
وحاولت الأجهزة الإعلامية في كلا البلدين أن تتطهر من الإثم وتنفي عن بلادها ثمة خطأ أو جريمة ارتكبتها في حق رعايا البلد الآخر وهم جميعاً في ذلك من الكاذبين .يكفيك أن تعرف أنه قد صدر تقرير الشفافية الذي وضع مصر والجزائر ومعهما جيبوتي في المركز 111 مكرر ضمن 180 دولة ..
بما يعني أن مصر والجزائر ومعهما جيبوتي على قدم المساواة بالملليمتر وبالخطوة في تقرير الشفافية والنزاهة والذي أكد على سيادة الاستبداد والديكتاتورية والفساد والرشوة وغيرها من الانتقادات التي تفسر لماذا جعلت مصر والجزائر من مباراة كرة قدم مصيراً لكل من قياداتهما ورجالات حكوماتهما وإعلامهما وعسكرييهما ..
. حتى السودان ..لم ينج هو الآخر من خسارة مريعة كان الأجدى له عدم الموافقة على تنظيم هذه المباراة التي كشفت عن تصرفات بالغة السوء منه وشعوراشعبياً مصرياً مريراً بالندم العميق على اختياره كامتداد لمصر وصمام أمان لجماهير مصر ..
السودان .. ذلك البلد الذي فرحت مصر كلها باختياره للمباراة الفاصلة كان هو الآخر من الكاذبين .. لو كان تقصيره في حماية جماهير البلدين عن ضعف أو قلة إمكانيات لعذرناه ولحق على المصريين أن يلوموا أنفسهم ..
ولكن أين ذهب الخمسة عشر ألفاً من الجنود الذين تركوا الجزائريين يطاردون المصريين في الحواري والأزقة والبيوت والشوارع ؟ ثم ينبري قادتهم ليعلنوا أن كل شيء تمام وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان وأنه لم تحدث ثمة مشاحنات أو مطاردات وأن الجماهير المصرية تكذب ..
حتى السودان خسر الجولة هو الآخر مثلما خسرتها السفارة المصرية في السودان حينما لم تبلغ بلادها بتحركات الجزائريين أو بالجسر الجوي الحربي العسكري الذي يقل (عناصر) طيرت كثير من الفضائيات أنها عناصر عسكرية ذهبت إلى مهمة خاصة نفذتها بالكامل.. كما خسرتها سلطات وحكومات مصر والجزائر بتفضيل كل منهما إلهاء شعبيهما بمباراة كرة قدم على علاقات البلدين ومصيرهما المشترك ...
كما خسرها الشعبان العربيان الشقيقان !! في مصر والجزائر بالاستجابة الساذجة لإمبراطورية الجهلاء والسفهاء من رجال البيزنس والإعلام الأصفر والمتسلقين ومرضى الشهرة والمال والسلطة في البلدين .. والسير خلفهم دون أدنى مراجعة للرابطة التاريخية والمصيرية بين بلدين عربيين كبيرين..
لم يلتفتوا إلى رسالة وبيان أساتذة الجامعات الجزائرية الذين استشعروا الكارثة التي يدفع قيادات وسلطات البلدين شعبيهما إليها ..
لم يلتفتوا إلى مناشدة عقلاء من العرب للشعوب بالانتباه إلى هذا الشرك القاتل ..
لم يلتفتوا إلى ما يحيق بالأمة من مخاطر وتهديدات وتربصات من أعدائها ..
أعداؤها الذين وقفوا يضربون كفاً على كف سخرية واستهزاء واستهانة بأمة ( كانت) خير أمة أخرجت للناس...
التعليقات (0)