مصطفى عياط
"إذا لم نحكم الدولة.. فلن نجعل هناك دولة من الأساس، أو لتكن "دولة رخوة" على غرار بنجلاديش وباكستان، وإذا كان الجيش هو المؤسسة الباقية في الدولة، فلنسقطها، عبر توريطه في مصادمات نعلم أنه بحكم تركيبته لن يجيد التصرف فيها، وبذلك تسقط هيبته ورمزيته، ويصبح جزءًا من الصراع، وليس خط حماية أخيرًا للدولة".
ربما تكون السطور السابقة هي "ملخص" مخطط داخلي أو خارجي، أو بالأدق مخطط خارجي تنفذه أذرع داخلية، يجري تنفيذه حاليًا في مصر، وأيضًا قد تكون مجرد "هلاوس" يرددها فلول نظام مبارك لتبرير أخطاء المجلس العسكري، وتأليب الشارع على المتظاهرين في التحرير، وصولًا إلى تبرير بقاء العسكر في الحكم بأي صورة تكون، أو قد تكون "أوهامًا" يؤمن بها بعض الإسلاميين الذين أظهرت المرحلتان الأولى والثانية من الانتخابات البرلمانية تقدمهم الكبير، مما يجعلهم يفسرون الاشتعال المفتعل للأحداث الأخيرة بأنه "مؤامرة" من الأطراف الأخرى التي فشلت في الانتخابات، بهدف إيقاف المرحلة الأخيرة، وإدخال البلاد في نفق مظلم، ربما ينتهي بإلغاء نتائج الانتخابات برمتها، وعودة الأمور لنقطة الصفر.
"فشل مهني"
ولا تقف دائرة الاحتمالات عند ذلك، فهناك تفسير يرى أن ما يحدث حاليًا في التحرير، وما سبقه في "البالون" و"ماسبيرو" و"شارع محمد محمود" هو نتيجة طبيعية لما وصلت إليه مؤسسات الدولة بكافة أشكالها، مدنية وأمنية وعسكرية، من تدهور وضعف وافتقاد للكفاءة والمهنية، فلا أجهزة أمن أو قوات الجيش قادرة على فض اعتصام، لمائة أو مائتي متظاهر، بشكل احترافي ومهني، بما يحفظ أروح المتظاهرين وسلامة عناصر الأمن في نفس الوقت.
ولعل ذلك يفسر ذلك الارتباك المحير لعناصر الجيش الموجودة في ميدان التحرير إبّان أحداث موقعة الجمل، حيث فسر المجلس العسكري الأمر -بعد ذلك- بأنه لم يكن قادرًا على التمييز بين البلطجية والثوار، لكن هذا التفسير ربما يكون مقبولًا لو أن الأحداث استمرت لدقائق، لكنها دارت على مدار يوم وليلة كاملين، في حين أنه بمقدور أي ضابط صغير محترف إعداد "تقدير موقف" يحدد كيفية وطريقة التدخل خلال ساعة أو ساعتين على أكثر تقدير، لكن يبدو أن الارتباك جعل "الانتظار" هو الخيار الأسلم، وليس الأفضل.
"سؤال صعب"
وأيًّا ما كان تفسير الأداء المرتبك للمجلس العسكري خلال الأشهر الماضية، فهذا لا يبرر الأخطاء التي وقعت، ولا يعفي المسئولين عن سفك الدماء البريئة من المساءلة، وللعلم فإن قوانين الجيوش أشد بكثير من القوانين العادية في هذه الحالات، لكن التساؤل الملح الذي يحتاج لقدر كبير من الصراحة، والمسئولية في نفس الوقت، هو مدى قدرة الجيش على محاسبة عناصره، بشكل علني وأمام محاكم مدنية أو لجان تحقيق مستقلة كما يطالب البعض، في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد؟ هذا مع الوضع في الاعتبار أن الآلاف من عناصر الجيش تقوم منذ الثورة بأداء مهام ليست من صميم عملها، مثل تأمين الانتخابات وحراسة السفارات ومحاورة الغاضبين لأجل البوتاجاز والخبز، وحتى المطالبين بشقق وفرص عمل.
كذلك فإن هناك تساؤلًا مهمًا يطرحه رجل الشارع العادي، والذي يميل بفطرته نحو حب الجيش واحترام من يرتدي بذلته، وهو: إذا كان الجيش قد أعلن التزامه بتسليم السلطة لرئيس منتخب قبل 30 يونيو المقبل، أي خلال 6 أشهر، وبرهن عمليًّا على ذلك الالتزام من خلال تأمينه الانتخابات بصورة أشاد بها الداخل والخارج، فلماذا الإصرار على استفزازه والاحتكاك بعناصره؟ ولماذا لا يعلن المتظاهرون والساسة عن هدنة خلال تلك الفترة، تتوقف فيها الاحتجاجات والاعتصامات، وعندما يتولى الحكم رئيس وبرلمان منتخب، فليفعل المتظاهرون أو الثوار ما يشاءون؟
"أين الحل؟"
ويلحق بهذا السؤال سؤال آخر: إذا كانت الشرطة قد انهارت، والجيش لم يعد مرحبًّا به من قِبل المتظاهرين، فماذا بعد ذلك؟ هل نطلب "قوات دولية" للفصل بين الجانبين؟ أم أن هناك من يريد إسقاط "هيبة الجيش"، وتحويل مصر إلى "دولة رخوة"، على غرار باكستان، حيث يوجد جيش وحكومة ورئيس منتخبان، بل وحتى "سلاح نووي"، لكن البلاد مستباحة، فالطائرات الأمريكية تدخل وتخرج وتضرب كما تشاء، وبحور الدم لا تتوقف بين السنة والشيعة، والبلاد في المجمل تدار من خلال السفارات الأجنبية، ونفوذ بعضها يتجاوز نفوذ الرئيس أو حتى البرلمان، أما الجيش فأذرعه منتشرة في كل المؤسسات، لكنه يدار لحساب الجنرالات وليس لأجل مصالح البلاد العليا.
وهكذا فإن "الدولة الرخوة" تتيح للبعض تلقي "ملايين الدولارات" من الخارج دون أن تكون هناك مؤسسات فاعلة قادرة على محاسبتهم وردع من يمولونهم، كما أنها تسمح بظهور صحف وفضائيات، يملكها مواطنون، لكنهم مجرد أبواق لأطراف خارجية، وكذلك توجد أحزاب "ممولة" بالكامل من الخارج، كي تدافع عن مصالح من يمولونها، وليس عمن منحوها أصواتهم.. كما أن "الدولة الرخوة" تكون غارقة في الفساد، ويحرك رجال الأعمال النافذون ساستها كما يريدون، وتصدر التشريعات والقوانين وفقًا لمصالحهم ورغباتهم.
"بقرة مقدسة"
وفي مقابل إضعاف الدولة ومؤسساتها، فإن النخب ووسائل الإعلام حولت ميدان التحرير والمتظاهرين فيه إلى "بقرة مقدسة"، كما أن دماء الشهداء وحقوق المصابين باتت "قميص عثمان"، الذي لأجله يصبح كل شيء مباحًا، وعندما يرتكب المتظاهرون أي خطأ أو يقدمون على التدمير وقطع الطرق فإن "شماعة" البلطجية جاهزة لمنح المتظاهرين "صك براءة"، حتى أن الجميع تبرأ من واقعة إغلاق مجمع التحرير الشهيرة، رغم أن الإغلاق استمر لعدة أيام تحت سمع وبصر الجميع، ولم يتدخل أحد لمنعه. كذلك فإن ميدان التحرير بقي مغلقًا لعدة أيام عقب أحداث شارع محمد محمود، والكل يتبرأ من مسئوليته عن ذلك ويتهم البلطجية، مع أنه لو تدخل الأمن أو الجيش لفتح الميدان، لقامت الدنيا ولم تقعد، ولروجت النخب والإعلام لكون الأمن يعتدي على المتظاهرين.
بالطبع فإن هناك شرفاء في التحرير، وأن البعض من أصحاب المظالم الحقيقية، لكن "القداسة" التي يصر البعض على منحها لمن في الميدان، بغض النظر عن عدالة مطالبهم وأسلوبهم في التعبير عنها، سوف يضر بشرعية الميدان، ويفقده تعاطف الشعب، وللأسف فإن كثيرًا من النشطاء والإعلاميين يتجنبون نقد "التحرير وأهله"، سواء بدافع "النفاق" كي لا يفقد حظوته لديهم، أو لأنه مستفيد من استمرار اشتعال الأحداث ليحافظ على حصته من الظهور في الفضائيات باعتباره أحد "قادة الميدان" أو أنه "زعيم للثوار"، حتى لو كان الثمن هو إهدار المزيد من الأرواح الطاهرة دونما هدف أو ثمن يستحق.
التعليقات (0)