مواضيع اليوم

مصر..بين مطرقة "الإخوان الإيرانيين" وسندان الجيش الأميركي

عبدو شامي

2011-06-01 01:34:14

0

الشرق الأوسط الجديد..من الفكرة الى التنفيذ [8/11]
مصر..بين مطرقة "الإخوان الإيرانيين" وسندان الجيش الأميركي

قسّم "برنارد لويس" مصر في مشروعه لـ"الشرق الأوسط الجديد"، الى أربع دويلات، الأولى: "دولة سيناء وشرق الدلتا" الخاضعة للنفوذ اليهودي، والثانية: "الدولة النصرانية" أو "القبطية"، وعاصمتها "الإسكندرية"، وهي ممتدة من من جنوب "بني سويف" حتى جنوب "أسيوط"، واتسعت غربًا لتضم "الفيوم" وتمتد في خط صحراوي عبر "وادي النطرون" ليربط هذه المنطقة بـ"الإسكندرية"، وتضم أيضًا جزءًا من المنطقة الساحلية الممتدة حتى "مرسى مطروح". الدولة الثالثة: "دولة النوبة" المتكاملة مع الأراضي الواقعة في أقصى شمال السودان، عاصمتها "أسوان"، وتربط الجزء الجنوبي الممتد من صعيد مصر حتى شمال السودان باسم "بلاد النوبة" بمنطقة "الصحراء الكبرى" لتلتحم مع "دولة البربر" التي سوف تمتد من جنوب المغرب حتى البحر الأحمر. أما الدولة الرابعة فهي: "دولة مصر الإسلامية"، عاصمتها القاهرة وتضم الجزء المتبقي من مصر، ويراد لها كما لـ"دولة سيناء وشرق الدلتا" أن تكونا خاضعتين للنفوذ اليهودي، حيث إنهما تدخلان في نطاق إسرائيل الكبرى "من النيل الى الفرات".
بيد أنه بالنسبة لشمال شرقي مصر، ثمة أفكار صهيو-أميركية قديمة-جديدة لا تزال تطرح وعمرها حوالي 50 سنة، تتحدّث عن "خيار الدول الثلاث"، الذي يقوم على ضم "قطاع غزة" الى مصر، والجزء المتبقي من "الضفة الغربية" الى الأردن (الخيار الأردني)، فيما تتسيّد إسرائيل بمستوطناتها المجال الكلي في فلسطين.
وفي 4/6/2006، برز مشروع "جيورا آيلاند"، رئيس شعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي سابقًا، والرئيس السابق لمجلس الأمن الوطني المسؤول عن وضع الاستراتيجية الأمنية للدولة الصهيونية، فقد طرح خطته لإعادة تنظيم الشرق الأوسط (في حديث له مع آري شفيط من صحيفة هآرتس)، واقترح "ضم 600 كلم2 من مصر إلى "قطاع غزة" ويوطن فيها مليون نسمة (لإقامة ميناء بحري ومطار دولي)، على أن تعطى مصر 150 كلم2 في النقب تعويضًا لها".
كما قام المستشرق والمؤرخ والكاتب الصهيوني "جاي بخور"، بتقديم خطته لإعادة صياغة "الشرق الأوسط"، في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" بتاريخ 27/7/2006، فتطرق الى الوضعين الفلسطيني والمصري قائلا: "أما مصر فستصبح مسؤولة عن قطاع غزة، وهو شيء أصبح يحدث في الواقع أكثر فأكثر"!
وفي منتصف شهر كانون الثاني 2010، نُشرت دراسة خطيرة أعدها مستشار الأمن القومى الإسرائيلى السابق، اللواء احتياط "جيورا آيلاند" (آنف الذكر)، لصالح "مركز بيجين - السادات للدراسات الاستراتيجية"، بعنوان: "البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين"، عرض فيها المشروع الإسرائيلى المقترح لتسوية الصراع مع الفلسطينيين، وقد نصت على تزويد الدولة الفلسطينية المستقبلية بظهير شاسع من الأراضي المقتطعة من شمال "سيناء" يصل إلى ٧٢٠ كيلومترًا مربعًا، ويبدأ من الحدود المصرية مع "غزة"، وحتى حدود مدينة "العريش"، على أن تحصل مصر على ٧٢٠ كيلومترًا مربعًا أو أقل قليلا داخل "صحراء النقب" الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية.
وقد أنهى "آيلاند" عرض دراسته بالخلاصة الخطيرة التالية: "نجحت إسرائيل بجهود سرية خاصة فى إقناع الولايات المتحدة بالضغط على مصر والأردن للاشتراك فى حل إقليمي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يقوم على استمرار سيطرة إسرائيل على مساحات ضخمة من الضفة الغربية، مقابل تعويض الفلسطينيين بمساحات ضخمة من شبه جزيرة سيناء لإنشاء دولة فلسطينية مستقرة وقادرة على النمو والمنافسة.
وكانت عملية الانسحاب الأحادي من غزة عام 2005(يتابع "جيورا")، هي الخطوة الأولى فى هذا الاتجاه. وبمجيء الرئيس "أوباما" آن الأوان لتنفيذ الخطوة التالية فى المشروع؛ غير أن مسؤولاً رفيعًا ومؤثرًا فى الإدارة الأميركية سبق أن اطلع على مشروع التسوية الإسرائيلي، قال للمسؤولين في تل أبيب: «انتظروا عندما يأتي وريث مبارك»"!
هذه هي الأفكار المطروحة لتقسيم مصر، والتي لا يمكن تهميشها وتنحيتها جانبًا لدى الحديث عن الثورة المصرية الأخيرة (ثورة 25 يناير)، والتي أدت الى الإطاحة بالرئيس المصري "حسني مبارك". كما لا يمكن تجاهل العامل الجيو-سياسي المهم لمصر الذي يجعلها في دائرة الاستهداف من قبل أصحاب الأطماع والمشاريع الخارجية والمشبوهة، فمصر مهيأة بالتراكمات التاريخية لتكون مفتاح المنطقة بما تملكه من خزان بشري وإمساك بالممرات البحرية والنهرية والبرية الأساسية، بالإضافة الى الثقل الحضاري الذي مكنها من لعب دور محوري على مر التاريخ سواء كانت امبراطورية أم كانت مستعمرة.

أولا: "حسني مبارك" من حاجة لا بد منها الى عنصر غير مرغوب فيه
تولى الرئيس المصري المخلوع "حسني مبارك" الحكم في مصر عام 1981، بعد اغتيال الرئيس السابق "أنور السادات"؛ وقد جمعت "مبارك" بأميركا وإسرائيل علاقات مميزة جدًا، فقد كان حليفًا استراتيجيًا لهما -إن لم نقل عميلا- من الطراز الأول.
في تلك الحقبة، كانت السياسة الصهيو-أميركية بحاجة الى "حسني مبارك" للقيام بثلاث مهام رئيسة هي: 1- الحفاظ على معاهدة السلام التي وقعها السادات مع إسرائيل (كامب دايفد) مع ما يترتب عليها من التزامات. 2- قمع وتحجيم "الإخوان المسلمين" اجتماعيًا وسياسيًا وتنظيميًّا. 3- تأهيل وترويض وتدجين الجيش المصري، وربطه بشكل مباشر بأميركا، تمويلا وتدريبًا وتسليحًا، بحيث يصبح خط الدفاع الأول والأخير عن المصالح الصهيو-أميركية في مصر.
عمل "مبارك" على تحقيق هذه الأولويات الأميركية بإخلاص، فكسب ودّ الإدارة الأميركية وحليفتها إسرائيل، وقد استغل منصبه والتفويض المطلق الذي حظي به في اتجاه إقامة نظام استبدادي واستخباراتي وأمني في مصر التي حكمها طوال عهده(30سنة) بنظام الطوارئ، كما عمل على استغلال منصبه وصلاحياته للانتفاع من ثروات بلاده، فنما ماليًا هو وعائلته بشكل سريع، وكوّن علاقات دولية واسعة، حتى ظن نفسه فعلا حاكم مصر الأوحد، في حين لا يعدو كونه حقيقة أكثر من مدير أعمال السياسة الصهيو-أميركية في بلاده.
بعد مرور 22 سنة تقريبًا أو أكثر بقليل على تلزيم مصر بشعبها وثرواتها وسلطاتها أميركيًا لـ"مبارك"، نجح الرئيس المصري في مهمته التي باتت في حكم المنجزة، واستطاع تلبية مطالب السياسة الصهيو-أميركية لتلك المرحلة التي بلغت نهايتها مع تحقق الأهداف الثلاثة المطلوبة، ودخول عوامل جديدة قلبت المعادلة، محوّلة الرئيس المصري من عنصر أساسي لا غنى عنه بالنسبة للسياسة الصهيو-أميركية في مصر، الى عنصر ثانوي يمكن التخلي عنه إذا تمنّع من التجاوب مع متطلبات المرحلة التالية وأهدافها.
ومن أهم العوامل الجديدة التي فرضت عملية الانتقال من مرحلة الى مرحلة، وغيّرت طريقة التعامل الأميركية مع الرئيس المصري: "مباردة الشرق الأوسط الكبير" التي طرحتها إدارة "بوش" الابن عام 2004، وتغيّر سياسة جماعة "الإخوان المسلمين"، وإحكام الولايات المتحدة قبضتها على الجيش المصري.
وهنا نتوقف قليلاً لشرح تلك العوامل وتقييمها:
فمع وصول الرئيس الأميركي السابق "جورج بوش" الابن الى الحكم في الولايات المتحدة، ، كان في مقدمة أولوياته تطبيق "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، وبات مطلوبًا من النظام المصري التجاوب مع مهمات جديدة ذات صلة وثيقة بـذلك المشروع الذي وُضع من قبل السياسة الصهيو-أميركية على نار حامية، وبالتالي أصبح مطلوبًا من "مبارك" جعل حكمه أكثر مرونة، ما يعني إدخال تعديلات تخرجه من الديكتاتورية المطلقة (التي كانت ترعاها أميركا بكافة تجاوزاتها فسادها وسلبياتها في الماضي) الى الديموقراطية وإطلاق الحريات، وذلك من خلال فك الخناق عن "الإخوان المسلمين" والجماعات التي تطالب بالديموقراطية والحرية، وتنظيم انتخابات نزيهة، وإتاحة حرية العمل السياسي أمام الأحزاب المعارضة، وإعطاء حرية التعبير والعمل للجمعيات المستجدة (ذات الدعم الأميركي) على الساحة المصرية، وتلك التي تعنى بتشييع الشعب المصري والمرتبطة بـ"ولاية الفقيه". كما بات مطلوبًا من "مبارك" تأمين المزيد من الحقوق الدينية والسياسية للأقباط الشاعرين بظلم النظام وانتهاكه لحريتهم الدينية، ولا سيما في بناء الكنائس وتوسيعها وترميمها وفتح المغلقة منها (48كنيسة) وهو ما يطالبون به منذ عقود، فضلا عن أمور أخرى متعلقة بتنظيم الدولة والأحوال الشخصية والمساواة بين أبناء الوطن الواحد.
ومن العوامل التي طرأت على المجتمع المصري وساهمت في إنهاء المرحلة الأولى والإيذان بالدخول في الثانية: ما يتعلق بـ"الإخوان المسلمين". فقد بذل "مبارك" قصارى جهده في قمعهم وتحجيمهم وحظر تنظيمهم، وزج بالآلاف منهم في السجون المصرية، كما كان مطلوبًا منه تمامًا؛ غير أن "الإخوان" (الذين تشكل "حماس" إحدى فروعهم) لم يعودوا ذلك التنظيم الذي يقلق السياسة الصهيو-أميركية في مصر، لأنهم تغيّروا عما كانوا عليه في السنوات العشرين الأولى لحكم "مبارك"، حتى أصبحوا أجدر بأن تطلَق عليهم تسمية: "الإخوان الإيرانيين".
لقد وقع تنظيم "الإخوان المسلمين" في فتنة الانبهار بـ"إيران" و"شيعة ولاية الفقيه"، ولا سيّما بعدما عملت السياسة الصهيو-أميركية على رفع أسهمهم في المنطقة، سواء لدى الإنسحاب الإسرائيلي التكتيكي من جنوب لبنان عام 2000، أو من خلال مسرحية "حرب تموز" عام 2006، أو من خلال الخطابات الدعائية والعنجهية المفرّغة من أي مضمون عملي أثناء العدوان الصهيو-إيراني على "غزة" 2008-2009. وحسبنا أن نذكر كلام مرشد الجماعة في ذلك الحين "مهدي عاكف" وهو يدافع بعنفوان وقوّة عن الخط الإيراني المتطرّف والتخريبي في المنطقة، في مقابلة أجرتها معه مجلة "الوطن العربي" ونشرت في آب 2006، حيث قال متحدثًا عن طبيعة التحالف بين "الجماعة" و"حزب ولاية الفقيه": "هو تضامن وتحالف وتأييد، وكل شيء". وحينما سئل عن وجود أجندة إيرانية للسيطرة على المنطقة العربية وإشاعة النفوذ الإيراني، بادر "عاكف" إلى القول: "فلنترك هذا الكلام جانبًا، ما يقال عن أجندة إيرانية يقوله أعداء الأمة(...)، الإيرانيون عندما نتحدث معهم نجد كلامهم موزونًا فيه المنطق والحجة، ولا يتحدثون إطلاقًا عن رغبتهم في السيطرة وإنشاء دولة عالمية"!!
ولم يكن الخلف أفضل حالا من سلفه، فقد حذر المرشد العام الجديد لجماعة الإخوان المسلمين "محمد بديع" في 19/6/2010 من "مغبة توجيه ضربة لإيران"، مشددًا على أن "قبول العالمين العربي والإسلامي بمثل هذا الأمر أمر غير مقبول، ولا ينبغي أن تصمت الجماهير إذا ما رضخت الحكومات لإرادة واشنطن وتل ابيب"، (مع العلم أن الإرادة الصهيو-أميركية عكس ذلك تمامًا، على الأقل في المرحلة الحالية)، وقد أتى ذلك التحذير بعد تردد معلومات حول عبور 12 بارجة حربية أمريكية "قناة السويس" في طريقها للبحر الأحمر.
لا يختلف موقف المرشدَين العامَّين لـ"الجماعة" عن آراء الدكتور "محمد سليم العوّا" المنسق العام لـ"الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" والمحسوب على "الإخوان" في توجهاته الفكرية والسياسية، والمعروف باعتزازه وافتخاره بما يسمى "المقاومة" في لبنان أي بـ"حزب ولاية الفقيه" وبدور ايران الداعم لحركات "الممانعة"، حتى صح فيه أن يوصف بـ"سفير إيران في مصر والعالم الإسلامي".
ومن المفيد التوقف هنا عند تصريح الدكتور "كمال الهلباوي" المتحدث السابق باسم "إخوان أوروبا" والتنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين في الغرب، فقد قال لـصحيفة "الشرق الأوسط" في مقابلة أجرتها معه بتاريخ 19/03/2011 إنه سافر إلى طهران مرتين في فبراير (شباط2011) الماضي، أولاهما للمشاركة في أعمال مؤتمر "الدعوة إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية" (البهتان الإيراني العظيم)، بدعوة خاصة من الشيخ "محمد علي تسخيري"، نائب رئيس "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"، والثانية لإلقاء محاضرة في جامعة طهران حول "مستقبل الإخوان المسلمين"!!
وأضاف "الهلباوي" مؤسس "الرابطة الإسلامية" في بريطانيا، لـ"الشرق الأوسط" ردًا على ظهور أشرطة فيديو له صورت في طهران بحضرة الولي الفقيه "خامنئي" و"أحمدي نجاد" رئيس الجمهورية، إنه "من أشد المعجبين بشخصيتَيهما، لبساطتهما وأمانتهما وشجاعتهما، لأن ما يقولانه في طهران يقولانه أيضًا في نيويورك، أي ما يتحدثان به في الداخل يقولانه أيضًا في الخارج، مع الأعداء والأحباب على حد سواء"! وشدد على أن "الشجاعة التي يتحلى بها قادة إيران خاصة قائد الثورة خامنئي يضرب بها المثل"!! وأشار إلى أن "الإخوان" تربطهم علاقات دائمة وجيدة مع الجمهورية الإسلامية والشعب الإيراني، موضحًا أن "التأثيرات المباركة للثورة الإسلامية (أي الخمينية) كانت واسعة النطاق وقد شملت العالم أجمع".
وقد أحرجت هذه التصريحات جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر ولا سيما أنها أتت في توقيت حساس بالنسبة إليها بعد سقوط "مبارك" وفي خضم استعدادها لخوض الانتخابات، فنفت مسؤوليتها عنها، وعقّب الدكتور "عصام العريان" المتحدث باسم "جماعة الإخوان المسلمين" على هذه التصريحات قائلا لـ"الشرق الأوسط"، إن "الهلباوي مفكر كبير وباحث محترم، لكنه يمثل نفسه فقط"، مشددًا على أن "مواقف الجماعة لا تؤخذ إلا من المرشد العام الدكتور محمد بديع أو من المتحدثين باسمها.
والجدير بالذكر، أن إيران مهتمة منذ زمن بعيد بإسقاط نظام "حسني مبارك"، فقد ظلت تحاربه منذ سقوط الشاه عام 1979، عن طريق فتح علاقات وطيدة مع "الإخوان" والجماعات الإسلامية الأخرى المعارضة للنظام، الذين حرصوا بدورهم شيئًا فشيئًا على تعميق علاقاتهم بالدولة الشيعية-الفارسية، فقاموا يزيارات منتظمة لطهران للقاء الزعماء الإيرانيين.
ومما زاد الارتياح الأميركي لجهة "الإخوان الإيرانيين"، ما نقرأه في الصحف الأميركية عن تقييمها لوضع "الإخوان" الحالي، حيث يعتبر بعض المحللين الأميركيين أن "الاخوان المسلمين المصريين عدا عن تاريخهم الطويل كمكوِّن سياسي أساسي في المجتمع المصري، بدا في السنوات الاخيرة أنهم تطوروا فكريًا وسياسيًا باتجاه قبول الفكرة الديموقراطية الليبرالية". أضف إلى ذلك أن المرحلة القادمة هي مرحلة تفتيت المنطقة الى دويلات طائفية، و"الإخوان" يرفعون شعار "الإسلام هو الحل" الذي يقلق 12مليون قبطي في مصر يمثلون نحو 10% من الشعب الذي تعد "جماعة الإخوان" الحزب الأكثر تنظيمًا على ساحته رغم الحظر الذي تفرضه سلطة "مبارك" عليهم، وقد أثبتوا ذلك بجدارة في انتخابات 2005 فقد حصدوا نحو 20% من مقاعد مجلس الشعب وكادوا يفوزون بأكثر من ثلث مقاعده لولا انتهاكات النظام وتدخلاته القمعية، وقد هزمت "الجماعة" في الدورة الاولى من انتخابات نهاية 2010 التي شابها تزوير وأعمال عنف، وقررت عدم المشاركة في الدورة الثانية، وقد عكست نتائجهم الانتخابية أنهم يعدّون أنفسهم للقفز على السلطة في مصر مستخدمين الضغوط الدولية على الحكومة المصرية في المزيد من الديموقراطية والحرية السياسية.
وفي حال استيلاء "إخوان ولاية الفقيه" على السلطة في مصر، فإننا سوف نجد أنفسنا أمام أحد خيارين: إما أن تبقى مصر موحدة في حال تخلي "الإخوان" عن "الدولة الإسلامية"، وإلا فتقسيم مصر بين المسلمين والأقباط بسبب رفض الطرف الأخير"الدولة الإسلامية" بتحريض من المنظمات الأميركية التي ربما لجأت الى إحداث فتن طائفية من خلال عمليات إرهابية من جماعات إسلامية في العنوان والمظهر، وصهيو-أميركية التمويل والتنظير. وبالتالي سوف تكرس الدولة الدينية مبدأ تقسيم مصر وثرواتها بين المسلمين والأقباط.
هذا فيما يتعلق بـ"الإخوان"، أما بالنسبة للجيش المصري الذي يعد صمام أمان المرحلة الثانية بالنسبة للأهداف الصهيو-أميركية، فقد أحكمت الولايات المتحدة قبضتها عليه، بفضل المساعدات التي خصصتها وتخصصها له، والبالغة مليار وثلاثمائة مليون دولار سنويًا، وتقدر بنحو 40 مليار دولار منذ بدء تطبيق "برنامج التعاون" بعد توقيع معاهدة "كامب دايفيد" عام 1979، هذا فضلا عن توليها تسليحه وتدريبه، وتنظيمها دورات عسكرية لضباطه في أميركا. وقد أوردت صحيفة "النيويورك تايمس" في 6/3/2011، أن "المساعدات العسكرية الأميركية للجيش المصري ساهمت في إيجاد شبكة من الصفقات الداخلية والفساد في الجيش"، وأعطت أمثلة عن "مستشفى عسكري موّلته الولايات المتحدة مطلع التسعينات، وحوّله الجيش مستشفى فخمًا لاستقبال المدنيين والأجانب وكسب المال. كما استخدم سربًا من الطائرات النفاثة التي حصل عليها من أميركا للسفر المترف". وهذا ما يبيّن لنا مدى وقوع الجيش المصري في القبضة الأميركية، لا بل وانتفاعه منها.
وإذا أردنا التوسع بعض الشيء في تفسير التركيبة البنيوية لقادة القوات المصرية، سنلاحظ أنها تنتمي إلى الجيل العسكري الذي خاض معظمه "حرب أكتوبر" (1973) كضباط شباب صغار الرتب. ثم تدرجوا في الارتقاء إلى المناصب العسكرية العليا، مع انتقال الجيش المصري من السلاح الروسي إلى السلاح الأميركي. ولعل خير من يمثّل هذه الانتقالية، الفريق سامي عنان (63 سنة) رئيس أركان الجيش المصري حاليًا؛ إذ تشير بعض التحقيقات المنشورة حديثًا، إلى أن رئيس أركان الجيش المصري "سامي عنان" على علاقة وطيدة مع جهازين كبيرين يناط بهما حفظ الأمن القومي الاميركي وهما الـ"سي آي إي" ووكالة الأمن القومي الاميركي، فعلى مدى خمسة أعوام كان "عنان" يزودهما بتقارير عن تغير الاوضاع الداخلية في مصر وتململ الشعب من زيف ما تروج له أجهزة إعلام النظام وحقيقة الأوضاع الاجتماعية التي تغوص بسرعة كبيرة الى قاع الفقر والحرمان، وتطورت الى البحث عن رغيف الخبز في حاويات القمامة.
وتفيد تلك التحقيقات أن الإدارة الأميركية بدأت مراقبة الأوضاع الداخلية المصرية عن كثب بعد خمس سنوات من ظهور "جمال مبارك" على الساحة السياسية المصرية وتقاعس مبارك عن أداء واجباته الخارجية والداخلية المناط به، وكانت حصيلة تفاهمات اميركية - اسرائيلية - مصرية منذ أن تولى الحكم.
وبصرف النظر عن مدى صحة تلك المعلومات، فمن المؤكد أن تسليح الجيش المصري بأسلحة أميركية متفوقة على السلاح الروسي، قد سمح باحتكاك أكبر بالقادة والضباط العسكريين الأميركيين، بحكم عمليات التدريب والصيانة والمناورات المشتركة والزيارات المتبادلة... وبالتالي تمكّن الأميركيون من نقل التقاليد العسكرية الأميركية إلى القيادات المصرية، وهي تقاليد ممارسة النفوذ لدى الـ"كونغرس" و"البيت الأبيض" والطبقة السياسية، من دون تدخل مباشر وظاهر في السياسية. وبهذا غدا المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية الذي يضم عددًا كبيرًا من قادة أسلحة الجو والبر والبحر، مختلفًا عن قياداته السابقة التي تربت وتدرّبت في روسيا والتي باتت قلة قليلة في تركيبة الجيش المصري الحالية.
هكذا، ومع مرور الأيام، وبفعل المساعدات والعلاقات الأميركية، أصبح الجيش المصري ضابط الإيقاع وحارس النظام والمصالح التي يرعاها، لا الرئيس المصري "حسني مبارك" وإن كان القائد الأعلى للقوات المسلحة، وبالتالي بات الجيش مؤهلاً وموضع ثقة للإشراف على أية عملية انتقال سلمي للسطة في مصر، وإنجاحها بطريقة سلسة ومنظمة وآمنة، في حال اتخذ القرار صهيو-أميركيًا بإزاحة "مبارك" على خلفية تمنّعه عن السير في متطلبات المرحلة الجديدة. وهذا ما ظهر جليًا من خلال انضباط الجنرالات المصريين الجدد الذين تأثروا بالليبرالية الديمقراطية الأميركية، فقد ساعد على حسم الوضع في الثورة المصرية الأخيرة، حين نفذوا التعليمات الأميركية وانحازوا الى مطالب المتظاهرين متخلين عن قائدهم الأعلى "حسني مبارك". وهو ما أشارت إليه وزيرة الخارجية الأميركية "هيلاري كلينتون" في 2/3/2011، عندما صرحت من لبنان "أن العلاقة الأميركية مع الجيش المصري منعته من فتح النار على مواطنيه خلال الثورة المصرية".
ولا تخفى أهمية دور هذا الجيش في الحفاظ على "اتفاقية السلام" مع إسرائيل، والتي عمل "مبارك" على صونها واحترام بنودها، كما زوّد إسرائيل بالغاز المصري بأسعار تلامس سعر الكلفة إن لم يكن أقل، لكنها بالتأكيد أرخص من تلك التي يتكبدها الشعب المصري.
ويبدو أن رئيس أركان الجيش المصري "سامي عنان" الذي اضطلع بالدور الأبرز في المسار الذي اتبعه الجيش المصري إسقاط "مبارك"، مقبل على إعلان عدد من التصريحات التي تشنف آذان المصريين، حيث سيعجب المصريون به أكثر وبدوره الجوهري أثناء ثورتهم، وسيدعونه بالتالي الى الترشح للانتخابات ليفوز بالفعل ويصبح رئيسًا لمصر، معتمدًا مسارًا سياسيًا يتلاءم والتوجهات الأميركية ومن خلفهما الإسرائيلية. وهو سيناريو نرجو أن لا ينطلي على الشعب المصري.
وبالعودة الى صلب موضوعنا، فعلى ضوء العوامل الجديدة الطارئة آنفة الذكر، اصطدمت السياسة الصهيو-أميركية بطريقة تعامل الرئيس المصري مع متطلبات المرحلة الجديدة، فقد لاقت منه إعراضًا واضحًا عن السير في متطلباتها، ولا سيما تلك التي يفرضها المشروع الأميركي الذي أطلقت عليه الإدارة الأميركية تسمية "مبادرة الشرق الأوسط الكبير"، والتي سوقتها عام 2004 على أنها تهدف إلى تشجيع ودعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية، ونشر الديمقراطية في العالم العربي ودول إسلامية أخرى، دون أن تتعرض الى لب المشكلة في المنطقة المتمثل بالصراع العربي-الإسرائيلي؛ فقد رفضت المملكة العربية السعودية ومصر المشروع الأميركي، وأعلنتا في بيان مشترك صدر مساء 24/2/2004 في أعقاب زيارة الرئيس المصري "حسني مبارك" للرياض، أنهما "ترفضان المشاريع المفروضة من الخارج على البلدان العربية والإسلامية". وجاء في البيان: "إن الدول العربية تمضي على طريق التنمية والتحديث والإصلاح بما يتفق مع مصالح شعوبها وقيمها وتلبية لاحتياجاتها وخصوصياتها وهويتها العربية، وعدم قبولها فرض نمط إصلاحي بعينه على الدول العربية والإسلامية من الخارج". وشدّد الجانبان في بيانهما، على أنهما يريدان التوصل الى استقرار الشرق الأوسط، وأن ذلك يستلزم "إيجاد حلول عادلة ومنصفة لقضايا الأمة العربية والإسلامية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية وقضية العراق".
كما اصطدمت أميركا برفض "مبارك" تنظيم انتخابات حرة ونزيهة، ورفع الحظر عن "الإخوان المسلمين" حلفاء الأداة التقسيمية في المنطقة إيران، واستمرار الرئيس المصري في تضييقه على المنظمات الداعية الى الديموقراطية والحكم الرشيد في مصر الممولة مباشرة من الإدارة الأميركية. كما تابع "مبارك" محاربته لحركات التشييع المرتبطة "بولاية الفقيه"، فلم يعطها حرية العمل على الأراضي المصرية، لا بل أعطى الضوء الأخضر لأئمة المساجد والخطباء للتحذير من كيدها ومخططاتها. أما معاملة الأقباط، فلم تتحسن على النحو المطلوب.
وقد اشتد الاستياء الصهيو-أميركي من "مبارك" أثناء العدوان "الصهيو-إيراني" على غزة (2008-2009)، مع رفض الرئيس المصري الانصياع للضغوط الأميركية والدولية لفتح معبر "رفح" الحدودي أمام "الغزاويين"(مع العلم أنه كان مفتوحًا للدواعي الطبية فقط)، ما يعني تفريغ "غزة" من شعبها الذي سيدخل الأراضي المصرية الى أجل غير مسمى ريثما يعاد إعمار القطاع، الأمر الذي سيؤدي بشكل أو بآخر الى تطبيق المشروع الصهيو-أميركي بضم غزة إلى مصر وجعلها مسؤولة عنها. فقد كان الرئيس المصري "حسني مبارك" واعيًا للمؤامرة التي شارك فيها "حسن نصر الله" بدعوته في خضم الحرب الى فتح المعبر، فأكد "مبارك" في 30/12/2008، أن بلاده "ترفض مخطط إسرائيل للفصل بين الضفة والقطاع، والتنصل من مسؤوليتها عن غزة وتحميل مصر بتبعاتها(...). إن هذا المخطط يستدعي إلى الذاكرة الترويج منذ الثمانينات لمقولة "غزة أولاً" بالنسبة للقطاع و"الخيار الأردني" فيما يتصل بالضفة الغربية(...)". وتابع مبارك: "إن مصر لن تقع فى هذا الفخ الإسرائيلي، ولن تشارك في تكريس هذا الفصل (...) بفتح معبر رفح في غياب السلطة ومراقبي الاتحاد الأوروبي".
وفي 7/4/2009، وعلى أثر اكتشاف أجهزة الأمن المصرية في أواخر العام 2008 "خلية سرية إرهابية" (خلية سامي شهاب) جنّدها "حزب ولاية الفقيه" للقيام بعمليات تخريبية عدائية تمس بالأمن القومي المصري، ومن بين عناصرها الموقوفين أعضاء سابقون في "الإخوان المسلمين"، اتهم النائب العام المصري الحزب الإيراني بالتخطيط "للقيام بعمليات عدائية داخل البلاد"، والسعي الى "نشر الفكر الشيعي" في مصر. وقد اعترف "حسن نصر الله" في 10/4/2009 بمسؤولية حزبه عن تلك الخلية الموقوفة، زاعمًا أن مهمتها "تقديم دعم لوجستي للمقاومة في غزة"! وقد صدرت عام 2010 الأحكام في حق "خلية الحزب"، وحكم بالسجن مدة 15 عامًا على قائدها "محمد يوسف منصور" الذي دخل الأراضي المصرية باسم "سامي شهاب" (لإخفاء شهرته الشيعية "منصور" باستعمال شهرة سنية ومسيحية "شهاب")، وذلك من خلال جواز سفر مزور رسميًا، أعطي له من قبل جهاز الأمن العام اللبناني الخاضع لسيطرة الحزب الإيراني!
ومنذ ذلك الحين، تدهورت العلاقات المصرية-الإيرانية شبه المقطوعة أصلا منذ عام 1979، وتضاعفت التصاريح الحادة من قبل الرئيس المصري ووزير خارجيته " أحمد أبو الغيط" ضد النظام الإيراني الصفوي وتدخلاته المسمومة في مصر والمنطقة، وبدا واضحًا أن مصر (رغم ديكتاتورية وفساد نظامها) تقف وحدها حائلاً وسدًّا منيعًا يحول دون تنفيذ إيران مشروعها التقسيمي والتشييعي في المنطقة المدعوم صهيو-أميركيًا، لتصفية حسابات قديمة واستعادة "خلافتها الفاطميّة" في مصر عبر حلفائها "إخوان ولاية الفقيه"، لكن هذه المرة بوشاح إسلامي موقّت وزائف، يتستر بالقضية الفلسطينية لاختراق الشعوب والدول العربية والإسلامية.
وبناء على ما تقدّم، بات الرئيس المصري "حسني مبارك" يشكل عائقًا أمام تنفيذ المشروع الصهيو-أميركي في المنطقة، وتحول من عنصر لا بد منه "أميركيًا" الى عنصر غير مرغوب فيه. وبذلك، بدأت الولايات المتحدة الأميركية تنتهج سياسة دعم منظمات مصرية معارضة للنظام المصري تطالب بالديموقراطية والحكم الرشيد، وتعمل على تجييش الشعب المصري المستاء أصلا من رئيسه؛ وقد لعب "الإخوان الإيرانيون" دورًا فعالا في إثارة هذه النقمة، مدفوعين بحقد ساهمت أميركا في تولده بسبب رعايتها قمع وتسلط نظام "مبارك" الذي طالهم أكثر من سواهم، يوم كان النظام يحظى بالدعم الأميركي الكامل، وقد حان الآن وقت استثماره.
وفي هذا السياق، أظهرت برقيات نشرها موقع "ويكيليكس" في 27/1/2011، أن الولايات المتحدة "دفعت عشرات الملايين من الدولارات الى منظمات تدعو الى الديموقراطية في مصر، مما أثار دهشة الرئيس المصري حسني مبارك الذي بدا ممانعًا للإصلاح، وأبدى مرارًا تخوّفه من النفوذ الإقليمي لإيران"، بحسب وصف البرقية.
وجاء في برقية صادرة عن السفارة الأميركية في القاهرة بتاريخ 6/12/2007، أن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية "يو أس ايد" خصصت مبلغ(66,5) مليون دولار عام 2008 و(75) مليون دولار عام 2009 لبرامج مصرية لنشر الديموقراطية والحكم الرشيد. وورد في برقية أخرى من السفارة في تاريخ 9/10/2007، أن "برامج الحكومة الأميركية تساعد على إنشاء مؤسسات ديموقراطية وتقوية أصوات الأفراد من أجل إحداث التغيير في مصر".
وأبرزت المراسلات أن الديبلوماسيين الأميركيين استخدموا شبكة واسعة لجمع المعلومات عن عنف رجال الشرطة. وقد تابعت السفارة الأميركية، عبر تواصلها مع محامين مدافعين عن حقوق الإنسان، قضايا عدة، بينها التعذيب الذي تعرض له متهمون في قضية خلية "حزب ولاية الفقيه" التي اعتقل أفرادها في نهاية عام 2008!!
وورد في الوثائق أن استعداد مبارك لتحمّل الإصلاحات في البلاد لا يتعلق بمجالات في الأمن العام أو الاستقرار، بل بأمور على صلة بحقوق المرأة وتشغيل الأولاد. ذلك أن الرئيس المصري يرى أن الإصلاحات السياسية تؤدي إلى "التطرف". وجاء في إحدى المراسلات: "سمعناه يأسف لنتائج جهود أميركية سابقة للتشجيع على الإصلاح في العالم الإسلامي"، وهو "غالبًا ما يستشهد بشاه إيران (السابق محمد رضا بهلوي) الذي خضع لضغط من واشنطن، لتحل محله حكومة أكثر قمعًا وعدائية". وتشير الوثائق أيضًا، أن الرئيس المصري تحدث مرارًا عن إيران، إذ حذر ديبلوماسيين أميركيين من أنها "تمد مخالبها من الخليج إلى المغرب" عبر "حماس" و"حزب الله". وهو وصف "حماس" بأنها تهديد مباشر لحكمه. وقال للجنرال الأميركي "ديفيد بيترايوس" في حزيران 2009، إن الحكومة الإيرانية تريد بناء "جيوب" مؤثرة لها داخل مصر.
ويُستشف من أجواء تلك الوثائق، أن "مبارك" كان على دراية بأن من يقف وراء بعض العمليات الإرهابية التي شهدتها بلاده في الآونة الأخيرة هو إيران التي تريد زعزعة استقراره من خلال دعمها لتلك العمليات بشكل مباشر عبر خلاياها أو عبر مصريين تبنتهم ورعتهم. مع العلم أن الدولة الفارسية ركزت في السنوات القليلة الماضية على العمل في "شبه جزيرة سيناء" من خلال تأليب "البدو" على النظام المصري، فضلا عن قيام رجالها بعمليات إرهابية عديدة ضد السياح الأجانب وقوات الأمن في "شرم الشيخ" و"طابا" و"رفح"، إضافة الى عمليات تهريب سلاح ومال لـ"حركة حماس" في غزة.
وبالعودة الى الوثائق السرية، فقد ذكرت صحيفة "الدايلي تليغراف" البريطانية التي نشرت تلك الوثيقة السرية المؤرخة في 6/12/2007، أنها علمت أن الحكومة الأميركية تدعم بصورة سرية شخصيات بارزة وراء الانتفاضة المصرية، وأن هذه الشخصيات كانت تخطط لتغيير النظام منذ ثلاث سنوات. وحسب ذات الصحيفة ووثائقها، فإن السفارة الأمريكية في القاهرة، ساعدت معارضًا شابًا على حضور ندوة برعاية الولايات المتحدة في نيويورك للنشطاء الشباب، وعملت على إخفاء هويته عن أمن الدولة في مصر. وأضافت "الدايلي تليغراف" أن هذا الناشط الشاب لدى عودته إلى مصر عام 2008، أبلغ دبلوماسيين أميركيين أن تحالفًا من الجماعات المعارضة وضع خطة للإطاحة بـ"مبارك" وتنصيب رئيس منتخب ديمقراطيًا عام 2011. وحسب الصحيفة ذاتها، فإن هذا الناشط قد اعتقل من قبل الأمن المصري بسبب مظاهرات. وهذه المعلومات تنطبق على الشاب المصري "وائل غنيم" الذي نشط في الدعوة الى التظاهرات على الـ"فايس بوك"، واعتقل على أثر ذلك ثم خرج محاطًا برعاية إعلامية بارزة أيام الثورة المصرية كما سنبيّن فيما بعد.
هذا، ولا يمكن الحديث عن المشروع الصهيو-أميركي في المنطقة دون ذكر إحدى أهم أدواته المتمثلة بدولة قطر المشبوهة والساعية الى فرض نفسها كدولة محورية ورائدة في العالم العربي، على حساب الدورين البارزين اللذين تضطلع بهما المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية؛ وفي سياق الدور القطري التآمري على دول المنطقة، نشر موقع "ويكيليكس" في 6/12/2010 وثيقة أميركية سرية بعثتها السفارة الأميركية بالدوحة بتاريخ ٢٤/2/٢٠١٠ إلى الخارجية الأميركية، تكشف أن لقاء عقد بين "حمد بن جاسم" رئيس الوزراء القطري والسيناتور "جون كيري"، وقال "بن جاسم" خلال اللقاء، إن "مصر لها مصلحة فى استمرار محادثات المصالحة الفلسطينية بين حماس وفتح لأطول فترة ممكنة"، واعتبر أن "مصر تبدو مثل طبيب لديه مريض واحد، وإذا كان هذا هو العمل الوحيد فسيسعى الطبيب لإبقاء المريض على قيد الحياة ولكن فى المستشفى لأطول فترة ممكنة".
وتشعر قطر -وفقا لـ"بن جاسم"- بالقلق حيال مصر وشعبها، الذى بدأ صبره ينفد، وتابع بن جاسم قائلا إن القاهرة تؤكد أن قناة "الجزيرة" هي مصدر المشاكل فى مصر. وهذا ليس عذرًا، وأضاف أنه عرض على مصر "وقف بث قناة الجزيرة فى مصرة لمدة عام، إذا وافقت على التوصل خلال تلك الفترة إلى تقديم تسوية دائمة للفلسطينيين"، وأنه لم يتلق ردًا مصريًا.
وفي هذا الإطار، كشفت بعض الوثائق الدبلوماسية المسربة من السفارة الأميركية فى الدوحة، التى نشرها موقع "ويكيليكس" الإلكتروني، عن استخدام قطر لقناة "الجزيرة" كـ"ورقة مساومة" لتحسين علاقاتها مع الدول الأخرى، من خلال تعديل السياسة التحريرية والتغطية الإعلامية للقناة بما يتناسب مع خدمة مصالح السياسة الخارجية القطرية!
وأضافت الوثيقة أن "الجزيرة كانت تغير فى تغطيتها الإعلامية للقضايا الإقليمية والدولية، بما يتلاءم مع الدول الأخرى بما فيها الولايات المتحدة، كما أنها عرضت وقف انتقاداتها لهم مقابل الحصول على امتيازات كبيرة".
وقال الدبلوماسيون الأمريكيون فى برقياتهم إلى واشنطن، إن المواد الإعلامية التى تنتجها القناة صارت جزءًا من مناقشتهم الثنائية، خاصة بعد التأثير الإيجابي الذى أحدثته "الجزيرة" على العلاقات بين قطر والسعودية والأردن وسوريا وغيرها من الدول.
وفي 2/2/2011 كشفت وثائق خطيرة سربها موقع "ويكيليكس" أن لقاءً سريًا جمع بين الشيخ "حمد بن جاسم وزير" الخارجية القطرى ومسؤول إسرائيلي نافذ فى السلطة، كشف فيه الشيخ "جاسم" للمسؤول الإسرائيلي أن الدوحة تتبنى خطة لضرب استقرار مصر بعنف، وأن "قناة الجزيرة" ستلعب الدور المحوري لتنفيذ هذه الخطة، عن طريق اللعب بمشاعر المصريين لإحداث هذه الفوضى.
تتحدث الوثيقة التى حملت رقم 432 بتاريخ الأول من يوليو/تموز 2009 عن اللقاء الذى استغرق 50 دقيقة بين الشيخ "حمد بن جاسم" وقناة "الجزيرة" والذى أسهب فيه "بن جاسم" متحدثًا عن السياسة الخارجية القطرية، فى عدد من الموضوعات بما فيها المصالحة الفلسطينية وعملية السلام، ولم يدخر جهدًا في شن هجوم شرس على مصر وسياساتها بشكل مباشر وغير مباشر في لحظات أخرى، وقد قام السفير الأميركي بتحليل اللقاء، وأشار فى مجمل تحليله إلى كون "الجزيرة أداة فى يد القطريين يستخدمونها كيفما يشاءون لخدمة مصالحهم على حساب أطراف أخرى".
أما الوثيقة الثانية وحملت رقم 677 بتاريخ 19 نوفمبر 2009، فقد تعلقت بتقييم شامل تعده الأقسام المختلفة بالسفارة الأميركية كل في اختصاصه حول قطر، وتطرق التقييم إلى دور قناة "الجزيرة" فى منظومة السياسة القطرية وتحليل توجهات الشبكة منذ تولي الرئيس "باراك أوباما" لمقاليد السلطة فى واشنطن.
وأشارت الوثيقة إلى أن "تغطية الجزيرة أصبحت أكثر إيجابية تجاه الولايات المتحدة"، وفي الوقت نفسه يؤكد التقييم "بقاء الجزيرة كأداة للسياسة الخارجية القطرية".
وأكدت الوثيقتين أن وزير الخارجية القطري الشيخ "جاسم" أوضح لعدد من المسئولين الإسرائيليين والأميركيين أنه بمجرد خروج المصريين إلى الشارع فإنه سيكلف قناة الجزيرة ببث كل ما يزكي إشعال الفتنة فى الشارع، ليس فقط بين المصريين والنظام ولكن بين المصريين بعضهم البعض.
وأشارت الوثيقتان إلى أن النظام القطري يستخدم دائماً قناة "الجزيرة" في تصفيه حساباته مع خصومه، وأنه نجح أكثر من مرة في إشعال الفتن في عدد كبير من العواصم العربية عندما توترت العلاقات مع الدوحة، وأن "الجزيرة" هي إحدى أهم القنوات الإخبارية فى المنطقة ونجحت فى جذب المشاهد العربي منذ تأسيسها.
وتجدر الإشارة الى أن موقع "ويكيليكس" كان قد أشار إلى أن لديه 7 وثائق عن قطر، نشر منها 5 وثائق، وحجب وثيقتين بعد تفاوض قطر مع إدارة الموقع الذى طلب مبالغ ضخمة حتى لا يتم النشر لما تحويه من معلومات خطيرة عن لقاءات مع مسئولين إسرائيليين وأميركيين، وأن هذه اللقاءات كلها للتحريض ضد مصر.
وعلى الرغم من أن الموقع التزم بسرية الوثيقتين السابقتين بعد أن حصل على الثمن من القطريين، إلا أنه تم تسريبهما إلى عدد من وسائل الإعلام، أهمها جريدة الـ"جارديان" البريطانية والتي نشرت نصهما على موقعها وشملت ضمن محتواهما تحليل السفارة الأميركية لموقع قناة "الجزيرة" على خريطة التحرك السياسي لقطر، ودورها فى رسم ملامح سياسة قطر الخارجية.

ثانيًا: العدوى التونسية تنتقل الى مصر
دخل قرار إسقاط الرئيس المصري حيّز التنفيذ، فحطت "الفوضى الخلاقة" رحالها في مصر آتية من تونس. فقد كان لنجاح "الثورة التونسية" في إسقاط الطاغية "زين العابدين بن علي" في 14/1/2011، وإرساله فورًا صاغرًا ومذلولاً إلى مزبلة التاريخ، وما رافقها من دعم دولي وإعلامي مؤيد وضاغط، كان لذلك دور أساسي في إلهاب مشاعر وحماسة الشعوب العربية المقهورة من ظلم حكامها، وهو ما شكل لهم بارقة أمل يمشون على خطاها لكسر حاجز الخوف بينهم وبين أنظمتهم القمعية الفاسدة، ما ساعد على إشعال فتيل موجة تظاهرات مماثلة في عدد من الدول العربية لإسقاط انظمتها الحاكمة، وفي مقدمتها مصر التي يترأسها "حسني مبارك" منذ 30 عامًا.
لا شك أن الشارع المصري كان يعيش حالة غليان واحتقان شديدين منذ سنوات عديدة، غير أن وفاة شاب من الاسكندرية يدعى "خالد سعيد"(28عامًا) في 7/6/2010 -بعد تعرضه لاعتداء بالضرب الوحشي على أيدي عنصرين من الشرطة السرية في أحد مقاهي الإنترنت حتى فقد حياته، وذلك عقابًا له على نشر فيديو على شبكة الإنترنت يظهر تورط رجال شرطة في تجارة المخدرات- تلك الوفاة تحولت إلى الحدث الأهم في مصر طوال الأشهر السبعة التي سبقت انطلاقة الثورة المصرية ومهدت لها، حيث نظمت وقفات احتجاجية ارتدى فيها المصريون الملابس السوداء وهم وقوف على كورنيش النيل والاسكندرية، لاقت كالعادة قمعًا وحشيًا من السلطة المتذرعة بـ"قانون الطوارئ". ومع لمعان نجم الثورة التونسية أواخر عام 2010، بدأ المصريون ينظرون الى ضحية التعذيب "خالد سعيد" باعتباره "بوعزيزي" الثورة المصرية.
بدأت التظاهرات الشعبية المصرية على الطريقة التونسية، مع إقدام أحد المواطنين في 17/1/2011 على إحراق نفسه أمام مجلس الشعب احتجاجًا على الفساد السياسي والإداري، محاكيًا طريقة المواطن التونسي "محمد البوعزيزي". ثم تبعه أربعة مواطنين مصريين قاموا بحرق أنفسهم، ولقي أحدهم حتفه متأثرًا بحروقه البليغة.
شهد بداية التحركات الشعبية يوم الثلاثاء 25/1/2011، بعد دعوة أطلقها عدد من الناشطين السياسيين والحقوقيين المصريين إلى تنظيم تظاهرات ووقفات احتجاجية واسعة في مصر في ذلك التاريخ، ضد "التعذيب والفقر والفساد" (دون التعرض الى موضوع إسقاط النظام)، وذلك بالتزامن مع الاحتفال الرسمي الذي تنظمه الدولة بمناسبة عيد الشرطة.
وفي الوقت نفسه، انتشرت دعوات عديدة عبر موقع التواصل الاجتماعي "فايس بوك" (مثل صفحة "كلنا خالد سعيد التي يديرها الشاب "وائل غنيم" والتي جمعت أكثر من مئة ألف مشارك) وموقع "تويتر"، تدعو المصريين إلى النزول الى الشارع للمطالبة بحقوقهم في الحرية والديمقراطية، وتوصيل رسالة إلى العالم بأن الملايين غير راضين عن أوضاع بلادهم. وكذلك وجهت "حركة شباب 6 أبريل"، الدعوة إلى الشباب من مختلف التيارات السياسية وجميع أطياف الشعب المصري للمشاركة في التظاهرات.
وقد تمّ الإعلان عن عدّة مطالب لهذه الاحتجاجات، منها: عدم ترشيح رئيس جمهورية مصر الحالي "حسني مبارك" ونجله "جمال" في الانتخابات المقبلة (المقررة في أيلول2011)، وإقالة الحكومة، وتشكيل حكومة وفاق وطني، وحل مجلسي الشعب والشورى، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، فضلاً عن إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ممن ليس عليهم أحكام جنائية، ومحاكمة كل رموز الفساد والمستفيدين منه، إضافة إلى إلغاء قانون الطوارئ، وإجراء تعديل فوري في المواد المعيبة في الدستور المصري مثل المواد 66 و67 و5 و88 و179 لضمان انتخابات رئاسة حرة، إلى جانب توفير حد أدنى من الأجور (1200 جنيه) لضمان حياة كريمة للمصريين.
نظمت التظاهرة في موعدها المحدد، وشارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين مطالبين بإجراء اصلاحات سياسية وإدارية في البلاد، فيما لفت مطالبة بعض المتظاهرين باسقاط نظام "حسني مبارك". كما استرعى الانتباه منح شبكات التلفزيون الأميركية والأوروبية أفضل الفرص للمتظاهرين كي يعربوا عن سخطهم ضد السلطة المصرية، وذلك توازيًا مع ترويج صحف هذه الدول لاحتمالات سقوط عدة أنظمة عربية زعمت انها مرشحة للانهيار الواحدة بعد الاخرى.
بعد تلك التظاهرة التي لاقت قمعًا همجيًا وعنيفًا من الشرطة المصرية (لا الجيش)، سقط على أثره ثلاثة قتلى ومئات الجرحى والمعتقلين، دعت الحركات المعارضة الى استمرار التظاهرات، كما اتهم الدكتور "محمد بديع" المرشد العام لجماعة "الإخوان المسلمين" النظام الحاكم "بأحداث الفوضي لنهب ثروات الشعب وتزوير إرادته"، وطالبه "باتخاذ العبرة من مصير شاه إيران وتشاوشيسكو وصدام حسين وأخيرا بن علي"، مضيفًا: "ما أغنى عن هؤلاء حين انتفضت شعوبهم ما كانوا يكسبون من جاه وسلطان وقوات أمن وثروات منهوب". وأعلنت قوى المعارضة المصرية، ومنها "جماعة الاخوان المسلمين" اكبر قوّة معارضة البلاد، عن أن يوم الجمعة 28/1/2011 سيكون يوم الغضب، مطلقين عليه اسم (جمعة الغضب).
ما بين التظاهرة الأولى و"جمعة الغضب"، بدأ يتكشّف المستور، مع بروز أربعة تطورات ذات دلالات بالغة الأهمية:
1-أوردت وكالة "فارس" الإيرانية شبه الرسمية في 26/1/2011، أن "متدربين للبحرية على متن سفن حربية إيرانية أُرسِلوا في بعثة تدريبية لمدة سنة عبر خليج عدن الى البحر الأحمر ومنه الى البحر المتوسط عبر قناة السويس". وكان هذا الخبر مثيرًا لدهشة المراقبين، فعلاقة القاهرة بإيران متوترة منذ أكثر من 32 سنة، وبالتالي لا يمكن للنظام المصري الذي لم يهتز بعد ولا يزال ممسكًا بزمام الأمور أن يسمح بذلك العبور، علمًا أنها لم تعبر سفن حربية إيرانية القناة منذ عام 1979، تاريخ قيام "الثورة الخمينية" في إيران وقطع العلاقات مع هذا البلد...الأمر الذي فسره البعض على أن نظام "مبارك" فعلاً يعيش أيامه الأخيرة، وأن إقدام إيران على هذه الخطوة يدل على أنها على دراية بما ينتظر مصر، وينم أيضًا عن تنسيق مع أميركا، التي من خلال تحريضها على خلع حكام وإضعاف آخرين لم يعودوا مرنين مع طلباتها، إنما تعمل على تقوية نفوذ وشوكة إيران ومشروعها التقسيمي والتوسعي في المنطقة.
2- وفي ذلك اليوم أيضًا(26/1/2011)، وصل الى مصر للمشاركة في "جمعة الغضب"-بحسب قوله- آتيا من الإمارات العربية المتحدة مقر عمله، الناشط في مجال المنظمات الداعية الى "الديموقراطية والحكم الرشيد" المدعومة أميركيًا، وصاحب الصفحة التحريضية على التظاهرات في "الفايس بوك" "كلنا خالد سعيد" والتي ساهمت في إشعال "ثورة 25 يناير"، الشاب "وائل غنيم" (33سنة)، خريج الجامعة الأميركية، ومدير تسويق شركة "جوجل" الأميركية في الشرق الأوسط، وهو متزوج من أميركية أيضًا، ويدعم "البرادعي" الذي عمل لمصلحة أميركا في الوكالية الذرية، كما ينسق حملته الإنتخابية غير المعلنة رسميًا، ويمهد له الطريق في الأوساط الشبابية الناخبة للوصول الى الرئاسة المصرية.
وقد ساهم هذا الشاب في إلهاب مشاعر الجماهير الشابة والثائرة على نظام "مبارك"، وذلك على خلفية اعتقاله بُعَيد وصوله الى مصر في 27/1/2011 من قبل أجهزة الأمن المصرية، ثم إخراجه منها بضغوط أميركية بعد 11 يومًا أمضاها في سجون أمن الدولة، ليظهر على وسائل الإعلام في 7/2/2011 راويًا ما حصل معه، فبكى وأبكى معه ملايين المصريين، على نحو ما سنذكره في موضعه. مع التذكير بأن "وائل غنيم" هو الشاب الذي تنطبق عليه الأوصاف والمعلومات المذكورة في وثائق "ويكيليكس" والتي نشرتها الـ"دايلي تيليغراف" كما ذكرنا آنفًا. كما يذكر، أن هذا الشاب كثير الإرتداء لقمصان تحمل شعارات خاصة بالماسونية مثل الأسد الذي ظهر في أعلى قميصه أثناء إلقائه الخطابات في جموع المتظاهرين.
3-التطور الثالث حدث مساء الخميس 27/1/2011، فقد وصل الى القاهرة -ليركب موجة التظاهرات- قادمًا من النمسا رئيس "الجمعية الوطنية للتغيير" في مصر ورئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية السابق "محمد البرادعي" (68 عاما)، الذي يعد من أبرز المرشحين للرئاسة المصرية بفضل الدعم "الإخواني" والأميركي له. وقد قال "البرادعي" إنه سينضم إلى الاحتجاجات المناهضة للحكومة والتي تجري في محافظات عدة في مصر، وذلك بعد أن أكد سابقًا أن الوقت قد حان لتقاعد الرئيس "حسني مبارك". ولدى وصوله الى القاهرة، حيث كانت في استقباله مجموعة صغيرة من مؤيديه، قال "البرادعي": "إن مصر تقف عند مفترق طرق خطير، وقد جئت للمشاركة مع الشعب المصري"؛ وكان قبيل وصوله إلى القاهرة صرّح: "إن حسني مبارك خدم لمدة ثلاثين عامًا وقد حان وقت تخليه عن السلطة".
هذا، ويعد "البرادعي" صديقًا أو رئيسًا مستقبليًا مقبولاً بالنسبة لإيران فضلاً عن أميركا، إذ يعدّ الأداة الأميركية التي استخدمت تمهيدًا للحرب على العراق، واستهلكت فيما بعد في الملف النووي الإيراني، حيث مارس "البرادعي" دورًا أميركيًا مشبوهًا يدخل في اطار "مشروع الشرق الأوسط الجديد" القائم على البعبع الفارسي والفزاعات المتسترة بالإسلام والتي تدار من خلف الستائر بواسطة السياسة الصهيو-أميركية في المنطقة.
فخلال توليه إدارة "الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، كان "البرادعي" يعمل على اعطاء الفرصة لإيران للعمل بهدؤ على مشروعها النووي حتى الرمق الأخير؛ وفي هذا السياق صرّح في تشرين الأول 2007: "إن إيران تحتاج ما بين ثلاث إلى ثماني سنوات لتطوير قنبلة نووية(...)، ويتعيّن عدم استخدام القوة مع إيران إلا حين تُستنفد جميع الوسائل الدبلوماسية الأخرى"، وأضاف: "لا يزال هناك الكثير من الوقت للدبلوماسية والعقوبات والحوار والحوافز لكي تؤتي ثمارها(...)، إنني أريد أن أبعد عن الأذهان فكرة أن إيران سوف تصبح تهديدًا في الغد".
تابع "البرادعي" الذي باتت تصاريحه تشعر بأنه مدير المشروع النووي الإيراني، مواقفه المنسجمة مع السياسة الإيرانية، فهدّد في 20/6/2008 في مقابلة تلفزيونية مع قناة "العربية" بـ"الاستقالة إذا وجهت ضربة عسكرية الى ايران"، وقال: "ما أراه في إيران اليوم هو خطر داهم وحقيقي. إذا وجهت ضربة عسكرية الى إيران الآن، لن اتمكّن من الاستمرار في عملي"، وتابع قائلاً: "إن الحل العسكري في نظري هو أسوأ الخيارات، إذ من شأنه تحويل المنطقة برمتها الى كرة من نار". وذلك قبل أن يناقض نفسه في العام التالي (11/5/2009)عندما قال: "إن برنامج إيران النووي الذي تقول طهران إن الهدف منه هو توليد الكهرباء، هو محاولة لإجبار العالم على الاعتراف بها كقوة اقليمية"، معلنًا أنه "يمكن أن يساعد طهران في إظهار أن خططها النووية سلمية".
4- أما التطور الرابع، والذي أشار بوضوح الى إدارة أميركا مشروعها في مصر بواسطة الجيش المصري، فكان تصريح الجنرال "جيمس كارترايت" نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الاميركي في 27/1/2011، "أن رئيس أركان الجيش المصري الفريق "سامي عنان" الذي يقود وفدًا لمحادثات عسكرية كان من المقرر أن تستمر حتى الأسبوع المقبل، يعتزم العودة الى مصر يوم الجمعة (جمعة الغضب) من الولايات المتحدة قاطعًا زيارته بسبب الاضطرابات التي اجتاحت مناطق مختلفة من مصر". وخلال "الثورة المصرية" وبعدها بقليل، كان لافتًا أن يبقى اسم الفريق "سامي عنان" غائبًا عن الأحداث، باستثناء مرتين ذُكِر فيهما، الأولى: تصريح الجنرال "كارترايت" السابق، والثانية: عندما رجّحت إسرائيل في 24/2/2011 أن يتم ترشيحه لمنصب الرئاسة المصرية!
كما كان متوقعًا، خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين في العاصمة المصرية القاهرة، ومدن أخرى منها الإسكندرية والسويس الى الشارع يوم الجمعة تلبية لدعوة "يوم الغضب" مطالبين هذه المرة بـ"إسقاط نظام الحكم ورحيل مبارك" وهاتفين: "الشعب يريد إسقاط النظام"، ولا سيما منهم أنصار "الإخوان المسلمين". وبذلك أخرجت التظاهرات عن مسارها الذي انطلقت على أساسه عندما كانت تدعو الى إنهاء البطالة ورفع الحد الأدنى للأجور وإصلاح الدستور وتوفير فرص عمل للشباب وإلغاء التزوير الذي حدث في الانتخابات البرلمانية، وهي مطالب شريفة يريدها كل شاب ومواطن، والتي تحوّلت ابتداء من هذه "الجمعة" إلى مطالب تتوافق مع المخطط الأميركي الذي لم يعد يريد للرئيس المصري "رجل المرحلة السابقة" أن يكمل ولايته، حتى ولو وافق على المضي في الإصلاحات المطلوبة منه، نظرًا لوجود خطة أخرى رسمت للشرق الأوسط لتنهي مرحلة سابقة و تشرّع الباب أمام مرحلة جديدة ليس "مبارك" ملائمًا لها، وبالتالي بات يجب رحيله "الآن"، لا لأن أميركا لا تريده، بل لأن شعبه يريد ذلك!
توسّعت التظاهرات بشكل سريع، وقام المتظاهرون بحرق المقر الرئيس لـ"الحزب الوطني الديمقراطي" الحاكم وسط القاهرة، ثم قاموا بحرق مقر الحزب بمدينة الاسكندرية، فضلاً عن حرق عدد من المركبات الحكومية. وأسفرت المواجهات مع الشرطة عن مقتل نحو 20 شخصًا وإصابة أكثر من ألف آخرين. وقرر المتظاهرون الاعتصام والتظاهر اليومي في "ميدان التحرير" وسط القاهرة، كما جرى سحب الشرطة من الشوارع ونزل الجيش ليشرف على سلاسة الانتقال السلمي للسلطة في مصر.
دخل نظام "حسني مبارك" في مأزق كبير، مع تيقنه تخلي حليفه الأول (أميركا) عنه وشعوره أنها غدرت به بعدما كانت تقدم له كل الدعم لتيسير مصالحها في المرحلة المنصرمة، ولمس "مبارك" ذلك في عدم تلقيه الدعم على الصعيد الدولي، بل تعرّض لضغوطات تهدف الى منع استخدام العنف مع المتظاهرين. فعلى أثر إجراءات القمع المصرية، أعرب "البيت الأبيض" الأميركي عن "قلقه العميق" تجاه أحداث مصر، وأعلن الرئيس الأميركي "باراك أوباما" عن أن "الوقت قد حان ليقوم الرئيس المصري حسني مبارك بإجراء إصلاحات سياسية جذرية في بلاده"، داعيًا الى "عدم ممارسة العنف ضد المتظاهرين".
فهم النظام المصري النوايا الأميركية وما تسعى الى تحقيقه في المنطقة، وظهر الرئيس "مبارك" في ساعة متأخرة من ليل "جمعة الغضب" (28/1/2011) كما في 2/2/2011، من على شاشات التلفزيون المصري، معلنًا استجابته لمطالب الشعب، فدعا حكومة بلاده الى تقديم استقالتها، على أن يتم في اليوم التالي تشكيل حكومة جديدة تأخذ على عاتقها مهام إصلاحية عدة. وقام بتعيين نائب له، وذهب إلى أبعد من ذلك ليطالب البرلمان بتنفيذ الأحكام الصادرة بحق الطعون المقدَّمة نتيجة لما حدث من تزوير في الانتخابات البرلمانية، وطالب الحكومة الجديدة (برئاسة "أحمد شفيق") بتحقيق مطالب الشباب والحوار معهم وتعديل مواد الدستور التي أشاروا إليها، معلنًا عدم نيته الترشح مرة أخرى للرئاسة، وتكليف نائبه "عمر سليمان" بالحوار مع القوى السياسية كافة وتعويض المتضررين نتيجة الأحداث التي جرت في مصر والقضاء على الفساد ومحاسبة الفاسدين، مؤكدًا حرصه على انتقال سلمي للسلطة، وأنه سيتيح الفرصة لمن يختاره الشعب لتسلم السلطة في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ما كاد "مبارك" ينهي خطابه الأول، حتى نشرت "الجزيرة" (التي خصصت كامل ساعات بثها لتغطية الثورة المصرية) في أسفل شاشتها خبرًا عاجلاً مفاده: "المتظاهرون يعتبرون كلام مبارك التفافًا على مطالبهم، ويعلنون انهم لن يغادروا الساحات حتى يتنحى". واستمرت التظاهرات المليونية في العديد من المدن المصرية.
أحدث تجاوب "مبارك" مع مطالب المتظاهرين و"عرضه السخي" ذاك انقسامات في صفوف المعارضين، بين من اعتبر أن الحركات الاحتجاجية حققت أغراضها بعدم استمرار نظام "مبارك" في الحكم والتفاوض مع نائب الرئيس "عمر سليمان"، وفريق آخر أصرّ على التظاهر في ميدان التحرير حتى "الرحيل الآن" وفي مقدمته جماعة "الإخوان المسلمين".
دخلت واشنطن على الخط بسرعة مذهلة، فأوفد الرئيس "باراك أوباما" السفير الأميركي السابق في القاهرة "فرانك ويزنر" الذي التقى "مبارك" صباح الثلاثاء 1/2/2011. وبعد نقاش متواصل على مدى ساعتين عرض السفير الأميركي على الرئيس المصري أن يذهب معه على متن طائرة خاصة الى الولايات المتحدة أو بريطانيا بعد أن يفوّض سلطاته الى نائبه "عمر سليمان"، وبهذا الشكل يتم "الرحيل المشرّف" للرئيس المصري، إلا أن "مبارك" رفض العرض الأميركي.
أما بالنسبة للخطاب الثاني للرئيس المصري، فقد أتى في منتصف ليل 2/2/2011، بعدما تحوّل "ميدان التحرير" في قلب القاهرة إلى ساحة معارك حقيقية سبّبها اقتحام الآلاف من "البلطجية" الموالين لـ"مبارك" هذا الميدان الذي يتجمع فيه منذ تسعة أيام آلاف المتظاهرين المطالبين برحيله، والذين قُتل 3 منهم فيما أصيب 640 على الأقل في هذه المواجهات بحسب وزارة الصحة المصرية.
ففي ذلك اليوم (اليوم التاسع من الانتفاضة)، بدأت ما يمكن تسميته بـ"الانتفاضة المضادة"، حيث نـزل أنصار النظام الى الشارع مستخدمين شتّى أنواع الأسلحة، بما فيها الخيول والجمال، وحدثت المواجهات الدامية التي أوقعت العديد من القتلى والجرحى، كان خلالها العالم بأسره يشهد على شاشات الفضائيات الاقتتال بين المصريين من مؤيدين للنظام ومعارضين له. وفي خبر لافت، قال مراسلون لـ "رويترز": "إن الجيش لم يرد على دعوات المحتجين المناهضين لمبارك للتدخل لوقف العنف"!
شنت "الولايات المتحدة" مساء ذلك اليوم الدامي وقبل خطاب"مبارك" هجومًا حادًا على الرئيس المصري، بعد المجزرة التي وقعت في "ميدان التحرير" وراح ضحيتها المئات من المتظاهرين العزل الذين هاجمتهم جيوش من البلطجية، وقال المتحدث باسم "البيت الأبيض" "روبرت غيبس": "إن الرئيس باراك أوباما كان واضحًا أن "انتقال السلطة يجب أن يبدأ الآن" وإن "الآن" هذا يعني "الأمس"، ولا يعني أن يكون بعد أيام أو شهور. ورفض "غيبس" التعليق على حياد الجيش المصري أثناء الصادمات بين البلطجية الداعمين لـ"مبارك" والمتظاهرين الداعين إلى تنحيه عن السلطة، كما رفض الكشف عن تفاصيل المكالمة الهاتفية التي وقعت بين "أوباما" و"مبارك" في 1/2/2011 واستمرت لثلاثين دقيقة، لكنه قال:"لا أعتقد أن الرئيس الأمريكي كان يمكن أن يكون أكثر وضوحًا مما كان بالأمس عندما تحدث هاتفيًا مع الرئيس المصري". كما أكدت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون لنائب الرئيس المصري عمر سليمان "أن العملية الانتقالية يجب أن تبدأ الآن".
أما جماعة "الإخوان المسلمين" فقد تولت مهمة الرد داخليًا على الخطاب الثاني، معلنة "رفضها بقاء مبارك في السلطة". وقالت في بيان: "إن الشعب يرفض كل الإجراءات الجزئية التي طرحها رأس النظام (مبارك)، ولا يقبل لرحيل النظام بديلاً". استكملت التظاهرات، ومع حصول اشتباكات بين مؤيدي "مبارك" وبلطجية النظام وبين المتظاهرين، دخلت مصر في أجواء "الفوضى الخلاقة" المطلوبة أميركيًا، وسقط عشرات القتلى وآلاف الجرحى.
وفي تطور خطير سبق خطاب "مبارك" الثاني، فعلها "الإخوان الإيرانيون"، فقد أفاد مصدر أمني مصري في 30/1/2011، أن آلاف السجناء تمكنوا من الفرار بعد تمرد في سجن "وادي النطرون" على الطريق الصحراوي بين القاهرة والاسكندرية، والذي يضم عددًا كبيرًا من الإسلاميين المحتجزين فيه منذ سنوات إضافة الى بعض السجناء الجنائيين، من أخطرهم على الإطلاق أفراد "خلية حزب ولاية الفقيه" الإرهابية. وأوضح المصدر أن السجناء البالغ عددهم عدة آلاف قاموا بتمرّد وتمكنوا جميعًا من الفرار بعد أن استولوا على أسلحة رجال الأمن. وشهدت سجون أخرى عمليات فرار مماثلة، في عمليات اقتحام وتمرّد داخلية وخارجية قام بها على ما يبدو جماعة "الإخوان" الذين تحتجز السلطات المصرية الآلاف منهم ظلمًا وعدوانًا، ويحتمل أن يكون هؤلاء هم أنفسهم من أمّن الفرار لسجناء "ولاية الفقيه"، ليعلن عضو المجلس السياسي في "الحزب" "محمود قماطي" من بيروت في 3/2/2011، أن "قائد خلية حزب الله في مصر سامي شهاب أصبح خارج السجون المصرية وهو بخير وأمان".
في اليوم الحادي عشر من حركة الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة في مصر، والموافق ليوم الجمعة 4 شباط2011، أطلت الأفعى الإيرانية برأسها لتنفث سمها في الجسد المصري، فبعدما اعتبر وزير الخارجية الإيراني "علي أكبر صالحي" في 2/2/2011 أن الثورة في مصر "ستلعب دورًا في إنشاء شرق أوسط إسلامي لجميع الذين يسعون الى الحرية والعدالة والاستقلال"، برز إعلان السلطات الإيرانية من رأس هرمها "دعمها للمطالب المشروعة للمتظاهرين في مصر الذين يتجمعون بالآلاف في ميدان التحرير في القاهرة للمطالبة بتنحي مبارك"، وذلك في خطبة باللغة العربية لمرشد الجمهورية "علي خامنئي".
ففي تلك الخطبة دعا "خامنئي" الشعب المصري الى مواصلة انتفاضته حتى إقامة نظام شعبي يقوم على الديانة الإسلامية قائلا: "لا تتراجعوا حتى إحلال نظام شعبي على أساس الدين". وأضاف موجهًا تعليماته و"تكليفاته الشرعية" هذه المرة الى علماء "الأزهر الشريف" وآباء "الكنيسة القبطية" على حد سواء: "إن رجال الدين يجب أن يلعبوا دورًا نموذجيًا، فعندما يكون الشعب خارج المساجد ويردّد شعارات عليهم تأييدها. إن شاء الله ينضم جزء من الجيش الى الشعب". وتابع "أمر اليوم" للقوى المسلحة المصرية قائلا: "إن العدو الرئيسي للجيش المصري هو النظام الصهيوني وليس الشعب المصري". وأعلن "خامنئي" أن الثورة في تونس والاحتجاجات الشعبية في مصر هي "بوادر يقظة إسلامية في العالم مستوحاة من الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979"!
ولم يقف "المرشد الأعلى" في تدخله السافر بالشؤون المصرية الداخلية عند هذا الحد من الوقاحة، بل تابع كلامه التحريضي متهمًا الرئيس المصري "حسني مبارك" بأنه "خادم للصهاينة والولايات المتحدة"، معتبرًا أن مصر "كانت لمدة ثلاثين عامًا بين يدي عدو للحرية (...) خادم للصهاينة". وأكد أن مبارك "عليه أن يعرف أن اليوم الذي يهرب فيه وإن شاء الله سيحدث ذلك قريبًا، سيكون الأميركيون أول من يدير ظهره له وأول من يغلق الباب في وجهه كما فعلوا مع الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي وشاه إيران السابق محمد رضا بهلوي".
هذا، وتابع "الولي الفقيه توجيهاته مستخدمًا هذه المرة أسلوب قلب الحقائق، فأشار إلى أن انتفاضة كل من مصر وتونس ستكون إيذانًا بهزيمة منكرة للولايات المتحدة في الشرق الاوسط، قائلا: "إذا تمكن (المحتجون) من المضي قدما في هذا، فإن ما سيحدث في السياسات الأميركية في المنطقة سيكون هزيمة منكرة لأميركا"!
في تلك الخطبة كشف "الولي الفقيه" جزءًا من قناع "التقية" الذي يتستر خلفه لدى إعلانه عن مواقف إيران من مختلف القضايا الحساسة في المنطقة مثل الصراع العربي-الإسرائيلي والقضية الفلسطينية والخلاف العقائدي السني-الشيعي... فمجاهرته الصريحة بضرورة إسقاط "مبارك" ونظامه وتحريضه على ذلك ليسا من قبيل الدعم للحرية والديموقراطية المفقودتان أصلا في نظام "الملالي" الصفوي، ولا في الرغبة بالتخلص من نظام لا يخفي تحالفه مع أميركا وسلامه مع إسرائل -قبل أن تتدهور علاقته بهما في السنوات الأخيرة- على عكس نظام "ولاية الفقيه" الذي يبطن ذلك التحالف والسلام متبعًا سياسة التقية والتضليل مع شعبه وشعوب المنطقة، وإنما غاية إيران الكبرى من دعم الحراك الشعبي المصري هي التخلص من مصر المناوئة لنظام طهران، طامعة في أن يفتح لها سقوط النظام المصري الباب واسعًا أمام تمدد الامبراطورية الفارسية وتوسع نفوذها نظرًا للأهمية الجغرافية والسياسية لمصر.
بيد أن محاولة "المرشد الأعلى للثورة الإيرانية" خطْف الحركة المصرية للديمقراطية والحرية لم تكن ناجحة (الى الآن على الأقل) بالرغم من تعمد الخطيب الإيراني التحول من اللغة الفارسية الى اللغة العربية في خطبة أتت على شكل تعليمات فظة وواضحة بشكل مثير للاستغراب، وجهها الى الجيش المصري وعلماء ورجال الدين ولمتظاهرين ممنيًا نفسه بشرق أوسط إسلامي عاصمته طهران. ذلك أن ما تفوه به ذلك "المرشد" أحرج عمليًا "الإخوان المسلمين" أكبر المعارضين لنظام "مبارك" أكثر مما ساعدهم، كما أثار خطابه موجة اعتراض شديدة على جميع المستويات، وكانت المفاجئة الأولى في الردّ المصري الشعبي للشباب المحتج في "ميدان التحرير" الذي ارتفعت هتافاته ضد إيران في اليومين التاليَين بسبب تدخلها في الشؤون الداخلية المصرية، حيث قال متحدث أمام المتظاهرين: "هناك من يحاول استغلال ما يجرى في مصر لتحقيق مكاسب خاصة به، لكنّ المصريين جميعًا لن يسمحوا بذلك، وعلى هؤلاء أن ينظروا إلى ما يجرى في بلادهم من ظلم وديكتاتورية، ومصر لا يمكن أن تكون إيران أخرى، لن تحكمنا ديكتاتورية دينية كما في إيران". وأضاف هذا المتحدث متهكمًا من تصريحات "مرشد الثورة" في إيران
"على خامنئي" بأن ما يجري في مصر مستلهم من الثورة الإيرانية "المصريين لا يستلهمون ثورتهم من أحد بل هم من يستلهم العالم منهم".
وتحدث عدد من الشباب من قيادات حركة "6 إبريل" المعارضة، قائلين "إنهم يسعون لشرق أوسط ديمقراطي وليس إسلاميًا كما يقول خامنئي، وإنهم سيعملون على ذلك خاصة في إيران".
المفاجئة التالية جاءت من رجال الدين المسلمين تحديداً. فمن جهته طالب شيخ الأزهر "أحمد الطيب"، الشباب المتظاهرين الحفاظ على الدين والسنة النبوية، كما حذر "الطيب" الشباب من إثارة مشاعر واللعب بعواطفهم عبر الفتاوى الدينية التي صدرت بالأمس القريب من مرجعيات فقهية دعت فيها إلى فتنة أجمع المسلمون كافة على تأثيم كل من يدعو لها" غامزًا من قناة "الخامنئي". وأدان "الطيب" صراحة "السياسات الإيرانية التي تستخدم مرجعياتها الدينية العليا التي تتناقض مع مبادئ الإسلام وتخرج خروجًا سافرًا على صريح القرآن والسنة وإجماع الأمة".
أما "جماعة الأخوان المسلمين" نفسها، فرغم تأييدها للسياسة الإيرانية الهدامة في المنطقة، اضطرت محرجة -وربما تقية!- الى استنكار كلام "خامنئي"، فسرعان ما أدلى مرشدها العام "محمد بديع" بتصريح لصحيفة "دير شبيغل" الألمانية قال فيه: "إنّ جماعة الإخوان المسلمين يعتبرون الثورة ثورة جميع أبناء الشعب المصري وليس الثورة الإسلامية، لأن من شاركوا بها هم مسلمون ومسيحيون بكل الاتجاهات والآراء والميول السياسية المختلفة... وليعلم خامنئي أنه ونظرًا لأن جميع فئات الشعب من المسلمين والمسيحيين شاركوا في التظاهرات فإن ثورة مصر ثورة شعبية وليست إسلامية".
أما أكثر الردود القاسية فكان مصدرها من رأس هرم السياسة الخارجية المصرية، وعلى لسان وزير الخارجيَّة المصري "أحمد أبو الغيط" الذي انتَقَد بشدة حديث "مرشد الثورة الإيرانيَّة" واصفًا كلام "خامنئي" بأنه "يكشف عن مكنون ما يعتمل في صدر النظام الإيراني من أحقاد تجاه مصر ومواقفها السياسيَّة، حيث شكلت دعوة الخامنئي تخطياً لكافة الخطوط الحمراء في تناول الشأن المصري". وختم "أبو الغيط" رده على "خامنئي" متوعدًا بأنّ "اللحظة العصيبة لإيران لم تأت بعد، وسوف نشاهد تلك اللحظة بالكثير من الترقب والاهتمام". ولعل ذلك التصريح المشرف والحازم والذي ينم عن فهم دقيق للمشروع الإيراني وأبعاد الغطرسة الإيرانية في المنطقة، لعله التصريح الأخير الصادر عن السياسة الخارجية الصائبة خصوصًا حيال إيران والتابعة لنظام الرئيس المصري "حسني مبارك"، وهو المطلوب تغييره أميركيًا وما سنفتقده بالتأكيد في مرحلة ما بعد ذلك النظام.
هذا ولم يعكر صفو الموقف المصري الموحد (وإن اختلفت اعتبارات توحده) تجاه خطبة "علي خامنئي" الأخيرة، سوى ما نقلته مواقع إخبارية إيرانية من تصريحات صادرة عن المتحدث السابق باسم "إخوان أوروبا" و"التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين في الغرب"، الدكتور "كمال الهلباوي" قال فيها: "إن الشعب المصري رحب بتصريحات قائد الثورة الإسلامية الإيرانية بخصوص الثورة المصرية، وكانت هذه التصريحات جميلة وعظيمة للغاية وكان لها دور مؤثر جدًا في شحذ همم الشباب المصري"! وأضاف: "إن كلمات الإمام خامنئي بخصوص الثورة المصرية أنارت الدرب أمام الثورة"، مؤكدًا أن "جماعة الإخوان" تلقت تصريحات قائد الثورة الإسلامية باهتمام كما كانت تتلقى باهتمام أيضًا تصريحات الإمام الخميني الراحل وتستفيد منها"! وقد دفع ذلك الكلام مجددًا الدكتور "عصام العريان" المتحدث باسم "جماعة الإخوان المسلمين"الى الرد قائلا لـصحيفة "الشرق الأوسط": "إن جماعة الإخوان رفضت قبل ذلك هذه التصريحات الإيرانية، وأكدت أنها "غير مقبولة"، مشددًا على أن "الجماعة لا تقبل أي تدخل خارجي في الشؤون المصرية". وأوضح "العريان" أن "الثورة في مصر كانت وستظل ثورة قومية قامت بها القوى الوطنية".
بعد خطاب "حسني مبارك" الثاني، والذي استجلب تعاطف الكثير من المصريين معه ربما لم لمسوه من صدقية في كلام حاكمهم، دخل زخم التظاهرات المصرية في فترة حساسة جدًا، في ظل مخاوف من تراجع حماسة المحتجين وسط سياسة الخطوات المتجاوبة مع مطالب المتظاهرين التي انتهجها "مبارك" باستثناء طلب "التنحي". حيال ذلك كان لا بد من إعادة تزخيم وتيرة المنتفضين، فظهر على شاشات التلفزة الشاب "وائل غنيم" في 7/2/2011، راويًا ما حصل معه على خلفية اعتقاله بعيد وصوله الى مصر في 27/1/2011 من قبل أجهزة الأمن المصرية، ثم إخراجه منها بضغوط أميركية بعد 11 يومًا أمضاها في سجون أمن الدولة، فبكى وأبكى معه ملايين المصريين. وفي خلال المقابلة، حمل "غنيم" على النظام هاتفًا: "مبارك ارحل ارحل"، وقال بصوت مرتفع بعدما بكى منحنيًا على الطاولة لدقائق: "عايز امشي"، ثم غادر الأستديو باكيًا على الهواء قبل انتهاء المقابلة!!
وفي اليوم التالي على خروجه من المعتقل، انضم "وائل غنيم" للمرة الأولى الى المعتصمين في "ميدان التحرير"، حيث استقبل استقبال الأبطال كزعيم لحركة شعبية داعية لتغيير النظام، وقد أكسبت إطلالته الإعلامية الإحتجاجات زخمًا جديدًا، وضخت فيها الحماسة، فتدافع الآلاف من المتظاهرين لتحيّته وراحوا يصفقون له ويهتفون: "تحيا مصر"، أما هو فخاطبهم قائلاً: "لست بطلاً أنتم الأبطال، أنتم الذين بقيتم هنا في الميدان، لازم تفضلوا مصرِّين على مطالبنا، علشان خاطر شهدائنا"، فرد عليه الشعب باللازمة الشهيرة التي طارأت بعد تظاهرة 25 يناير: "الشعب يريد إسقاط النظام".
توازيًا مع ذلك، وفي سياق تحفيز الجماهير وشحذ هممهم، برز فجأة تسريب في الصحف الأميركية يفيد أن رصيد الرئيس المصري ربما يصل الى 70 مليار دولار، ما أعاد موجة الغضب الشعبي الى وتيرتها التصاعدية، نظرًا لهول حجم الثروة التي جمعها "مبارك" من خلال انتفاعه بمقدرات الشعب وثروات البلاد، فتتابعت التظاهرات المليونية في كبرى المدن المصرية. ( أكد مساعد وزير العدل لجهاز الكسب غير المشروع "عاصم الجوهري" في 18/5/2011، عدم صحة كل الأرقام التي ذكرت في شأن ثروة "مبارك" وأفراد أسرته).
وفي اليوم السابع عشر للتظاهرات المصرية (10/2/2011) صدر البلاغ رقم واحد عن الجيش المصري، والذي أتى بعد الدعوة الشعبية التي حملت شعار "القصر بعد العصر" في إشارة الى توجه المتظاهرين الى القصر الرئاسي بعد صلاة الجمعة. وقد عقد "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" جلسته هذه المرة من دون الرئيس المصري "حسني مبارك"، الأمر الذي فُسّر على أنه إشارة الى استبعاده عن القيادة العليا للقوات المسلحة كخطوة أولى في اتجاه تنحيته. وأعلن "المجلس الأعلى" في بيانه "تأييده لمطالب الشعب المشروعة وأنه "قرر الاستمرار في الانعقاد بشكل متواصل لبحث ما يمكن اتخاذه من اجراءات للحفاظ على الوطن ومكتسباته وطموحات شعب مصر العظيم".
وظهر الرئيس الأميركي "أوباما" مساء الخميس 10/2/2011، فى تمام السابعة مساء بتوقيت القاهرة وسط تهليل الشعب الأميركي ليعلن عن "ميلاد ديمقراطية جديدة فى مصر". ومما قاله: "إن مصر تشهد كتابة تاريخ جديد"، مشيرًا إلى أن "عملية الانتقال تتم لأن الشعب المصري يطالب بالتغيير، وإن الشباب كان في الصدارة وانضمت إليه بقية طوائف الشعب(...). وأضاف: "نريد أن يعرف هؤلاء الشباب وأن يعرف كل المصريين أن اميركا ستفعل كل ما هو ممكن لدعم عملية انتقال منظمة وحقيقية نحو الديموقراطية في مصر، ونحن نتابع الوضع...".
تلقى "مبارك" تلك الصفعات مذهولا من تخلي الأميركيين عنه، ومن توحد الموقفين الصهيو-أميركي والإيراني-الصفوي في سعيهما لإسقاط نظامه، فخرج في 10/2/2011 بخطاب متلفز متحدثًا الى الجماهير المنتفضة للمرة الثالثة منذ بداية التحركات، ومعلنًا استمراره على رأس السلطة حتى نهاية ولايته(7أشهر)، مع تفويض سلطاته لنائبه عمر سليمان في اختصاصات رئيس الجمهورية وفق ما يحدده الدستور، وذلك في أعقاب مظاهرات عارمة تشهدها المدن المصرية منذ 25 كانون الثاني 2011.
وحذر مبارك من خطورة استمرار حالة الاحتقان التي يشهدها الشارع المصري، مؤكدًا أن: "دماء شهداء وجرحى التظاهرات التي تشهدها البلاد منذ 25 يناير لن تضيع هدًرا". وشدد على أنه "سيعاقب المسؤولين عن المصادمات التي حدثت بين المتظاهرين وقوات الأمن".
وعلى الرغم من أن كلمة "مبارك" الثالثة تعني أنه قد تنحى عن كل سلطاته وصلاحياته فى إدارة الدولة، إلا أن وقعها كان سيئًا جدًا بالنسبة للمصرّين على إسقاط النظام، فعدُّوها كلمة مخيّبة لآمال الجماهير التي حُوّل مطلبها بين ليلة وضحاها من معالجة الهموم المعيشية والمطالب الإصلاحية الى إسقاط النظام وتنحي الرئيس، واستتبع ذلك ان أصيب "الإخوان الإيرانيون" بنوبة صرع، كما أنتابت الإدارة الأميركية موجة من الغضب لم يستطع "أوباما" إخفاءها، فقد صرّح عقب استماعه الى كلمة الرئيس المصري وبعدما حث الحكومة المصرية على تجنّب العنف: "خطاب مبارك غير كافٍ وليس له صدقية"!
انتفض قياديو "الإخوان" الذين حرصوا على عدم الظهور في واجهة الحراك الشعبي منذ بدايته بعدما ركبوا موجة التظاهرات الشبابية واستحكموا في توجيه خط سيرها من وراء الستار بفعل تنظيمهم ومخزونهم الشعبي، فخرجوا وسط "ميدان التحرير" وهم ينادون عبر مكبرات الصوت: "على المتواجدين بأن يمكثوا وألا يخرجوا من المظاهرات في الميدان...مازالت المعركة مستمرة"، وقد أتبع ذلك الكلام بخطب نارية تحث على التظاهر والإصرار على إسقاط النظام ألهبت مشاعر المتظاهريين وخصوصًا الإسلاميين منهم.
يوم الجمعة 11/2/2011 الموافق للذكرى 32 لـ"لثورة الخمينية" في إيران بما ترمز وتمثّل، خرجت الجماعات الإسلامية في جميع أنحاء الجمهورية، تساندهما جحافل "الإخوان"، وظلوا يهتفون بسقوط النظام طوال النهار. لم يكن أمام "حسني مبارك" في مواجه "الإخوان الإيرانيين" والهجوم الأميركي الذي اشتد عنفًا في ذلك اليوم الإيراني "المجيد"، إلا اتخاذ قرار التنحي عن الحكم والرحيل ليصير بعد الرئيس التونسي السابق "زين العابدين بن علي"، ثاني زعيم عربي تطيحه ثورة شعبية.
ففي اليوم الثامن عشر للتظاهرات المصرية، أعلن "عمر سليمان" نائب الرئيس المصري إنه: "في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد، قرر الرئيس مبارك تخليه عن السلطة وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد".
وفور إعلان "سليمان" قرار تنحي "مبارك" عن السلطة، اشتعل "ميدان التحرير" وسط القاهرة بهتافات الفرح من قبل المتظاهرين الذي يحتشدون فيه. واحتفلت مصر و"إمارة غزة الإسلامية" وإيران و"حزب ولاية الفقيه" وجميع المنظمات الإسلامية الدائرة في الفلك الإيراني برحيل الرئيس "حسني مبارك"، ذلك الانتصار الساحق الذي حققته انتفاضة "الإخوان الإيرانيين" التي بدأت بانتفاضة شبابية صادقة ثارت على الظلم وقمع الحريات وطالبت بالإصلاحات الدستورية، قبل أن يخطفها البعض داخل معسكر "ميدان التحرير" ويتجه بها الى إسقاط النظام بعد تحركات احتجاجية دامت 18 يومًا، سقط خلالها أكثر من ستة آلاف جريح وقرابة 850 قتيلا قضى بعضهم برصاص بنادق "لايز" لا تملكها الشرطة المصرية ولم تكشف الى اليوم هوية "الطابور الخامس" الذي استخدمها!!

ثالثًا: الجيش يتولى السلطة تمهيدًا لنقلها الى "الإخوان"
انهار حكم الرئيس المصري "حسني مبارك" في ذكرى "الثورة الإيرانية". وبثّ التلفزيون الرسمي الإيراني خبر استقالة "مبارك" تحت عنوان "بين ثورتَين: إيران 1979 ومصر 2011". وعرضت الشاشة المقسومة إلى نصفَين وسط طهران صور الاحتجاجات ضد "مبارك" في القاهرة والاحتجاجات ضد الشاه في طهران قبل ثلاثة عقود، مع تمرير مقاطع من خطب ألقاها كل من الرئيس المصري والشاه الإيراني فيما كانا يحاولان التمسّك بالسلطة في أيامهما الأخيرة! إنها عيون إيران تحدق بمصر، إيران الخمينية الي تريد استرجاع ملكًا تظنّه لها منذ تأسيس القاهرة والجامع الأزهر في عهد العبيديين (الفاطميين)، وذراعها في هذه العمليّة "الإخوان المسلمون" والدعم الأميركي.
صبيحة اليوم التالي على تنحي "مبارك"، حيّا الرئيس الأميركي "باراك أوباما" "شعب مصر الذي أدت انتفاضته الى طرد الرئيس حسني مبارك من السلطة"، وقال "أوباما" في خطاب رسمي من "البيت الابيض" بعد ساعات على استقالة "مبارك" وتسليمه السلطة الى الجيش: "إن شعب مصر قال كلمته وأسمع صوته، ومصر لن تعود أبدًا كما كانت". ودعا الجيش الى ضمان عملية انتقالية "تتصف بالصدقية" الى الديموقراطية.
رد الجيش المصري التحية الأميركية بأحسن منها، فصرّح "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" الذي تولى السلطة في مصر بعد تنحي الرئيس السابق "حسني مبارك" في البلاغ رقم 4، انه "يتطلع الى الانتقال السلمي للسلطة الذي يسمح بتولي سلطة مدنية منتخبة لبناء الدولة الديموقراطية الحديثة"، وأكّد "التزام جمهورية مصر بكافة الالتزامات والمعاهدات الاقليمية والدولية"، في إشارة خصوصًا الى معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية المبرمة في العام 1979، وهي المعاهدة التي لو لم يكن الجيش قادرًا على صيانتها لما قامت الثورة وجرى التخلي عن "مبارك". وأعرب رئيس الوزراء الإسرائيلي "نتنياهو"عن "الترحيب بتأكيد الجيش المصري على احترام مصر اتفاق السلام مع اسرائيل".
وقد كان "المجلس الأعلى" حاذقًا في تقدير ظروف توليه السلطة المدنية، فلم يظهر الفريق "سامي عنان" رجل الجيش القوي كقائد للمرحلة الراهنة، لفهمه المتغيرات العربية والدولية غير المواتية لانقلابات عسكرية واضحة على السلطة المدنية.
في 16/2/2011، وفي احتفال أقامه "حزب ولاية الفقيه" في ذكرى "قادته الشهداء" في الضاحية الجنوبية لبيروت، ظهر "محمد يوسف منصور" المعروف بـ"سامي شهاب"، قائد "خلية الحزب" الإرهابية في مصر، والذي كان فرّ من سجنه خلال الأحداث الأخيرة مع السجناء الذين كانوا معتقلين في سجن "وادي النطرون" بين القاهرة والإسكندرية، وبينهم 22 سجينًا بتهمة الانتماء الى الخلية نفسها. وبعد أن بدأ عريف الاحتفال كلامه بالإشادة بسقوط نظام "حسني مبارك"، قال: "نرحب بالأسير المحرَّر الأخ المناضل سامي شهاب"، الذي اعتلى المنبر وسط تصفيق مئات الحاضرين المحتشدين الذين هتفوا له ولوّحوا بأعلام الحزب الإيراني والأعلام اللبنانية والمصرية والتونسية. وحمل "شهاب" علمًا للحزب على المسرح الذي برزت في خلفيته صورة ضخمة لإحدى التظاهرات المصرية الأخيرة، وحيّا الموجودين. وذلك وسط علامات استفهام وتعجب كبيرة عن كيفية وصوله الى لبنان، هل هرّب عن طريق "غزة" ثم "تل أبيب"؟!
بدأ الجيش المصري تنظيم المرحلة الانتقالية التي ذكرها "أوباما" في توجيهاته الأخيرة، والتي يفترض أن تنقل البلاد الى النظام الديموقراطي. وفي هذا الإطار أعلن "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" برئاسة المشير "محمد حسين طنطاوي" في 1/3/2011 تحديده يوم 19 آذار موعدًا لاستفتاء شعبي يجري فيه التصويت على تعديلات دستورية توطئة لإجراء انتخابات نيابية في غضون أشهر قليلة تعقبها انتخابات رئاسية. وأوضحت مصادر مطلعة أن الجيش تعهد حماية الثورة من "الثورة المضادة" بعد مخاوف من أن يحاول المقربون من "مبارك" إحكام قبضتهم على السلطة، كما أعلنت عن تعديلات وزارية منتظرة. وبالفعل فعلى أثر تظاهرات مطالبة باستقالته، استقال رئيس الوزراء "أحمد شفيق" الذي كان قد عينه "مبارك" في آخر أيام رئاسته، وعيّن "المجلس" مكانه "عصام شرف" المعروف بقربه من الشباب ومشاركته في الثورة.
لكن المنهج السريع الذي وضعه العسكر أثار مخاوف لدى بعض المصريين الذين يقولون إن ثمة حاجة الى مزيد من الوقت كي تنشط الحياة السياسية بعد عقود من القمع. فإجراء الانتخابات بسرعة يناسب جهتين فقط: الأولى هم الساسة المرتبطين بـ"الحزب الوطني الديموقراطي" الذين نجوا من حملة على الفساد استهدفت الشخصيات البارزة في عهد "مبارك". وقد بدأ هؤلاء فعلا في الإعداد للانتخابات النيابية، بينما لا تزال جماعات سياسية تنتظر "المجلس الأعلى" لرفع القيود التي حالت دون إنشاء الأحزاب في عهد "مبارك".
أما الجهة الثانية التي يلائمها هذا التسرّع فهي جماعة "الإخوان المسلمين"، فهي تستطيع أن تكون مستعدة للانتخابات خلال أسابيع لكونها جماعة متمرسة، بالرغم من إعلانها من قبل أنها لا تسعى الى الحصول على غالبية في البرلمان ولا على كرسي الرئاسة.
بدأت الفعاليات السياسية والشبابية القديمة والتي برزت في أيام الثورة تعد قواعدها الشعبية تحضيرًا ليوم الاستفتاء، وكان لافتًا أداء "الإخوان" الذين صبغوا الاستفتاء باللون الطائفي!
فالأجواء البالغة السخونة المصاحبة للاستفتاء المنتظر إجراؤه على تسعة مواد دستورية اقترحها "المجلس الاعلى للقوات المسلحة" الذي يحكم البلاد، وتتمحور حول أزالة "الشروط التعجيزية" التي وضعها "مبارك" لتقييد حق الترشح لمنصب الرئيس، أظهرت أن الصراع على صورة مصر السياسية بعد "مبارك" بدأ فعلا، وتجلى في الاستقطاب والفرز غير المسبوقين اللذين انتهى إليهما الجدل العاصف الذي دار طوال أيام التحضير للاستفتاء حول الاجابة عن سؤال: هل نعدّل ونرقّع دستورًا مهترئًا حكم به "مبارك" البلاد حكمًا عائليًا بسلطات مطلقة وشبه إلهية طوال ثلاثين عامًا وعطله "المجلس الأعلى" نفسه فور توليه السلطة في 11شباط الماضي؟ أم نذهب مباشرة وبعد فترة انتقالية محدودة يحكمها إعلان دستوري مختصر الى دستور جديد ديموقراطي وعصري تضعه جمعية تأسيسية قد تأتي بالانتخاب أو بالحوار والتوافق بين قوى المجتمع وتياراته السياسية والفكرية المختلفة؟
بسرعة بدأ فرز الأفرقاء الذين ظهروا كأنهم حلفاء أيام الثورة على نظام "مبارك"، فتكتلت وأجمعت على قول "لا" لهذه التعديلات الدستورية كل القوى والأحزاب والحركات السياسية المدنية بمختلف تنوعاتها وأطيافها من الليبراليين إلى اليساريين، ومن ناصريين وقوميين وشيوعيين إلى أحزاب تقليدية مثل حزب "الوفد" وحزب "التجمع" إلى حركات احتجاجية وشبابية جديدة مثل "كفاية" و"الجمعية الوطنية للتغيير" ومؤسسها المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية "محمد البرادعي"، وكذلك "حركة 6 أبريل" و"ائتلاف شباب ثورة 25 يناير"، ومع هؤلاء شخصيات بارزة كالأمين العام لجامعة الدول العربية "عمرو موسى" الذي أعلن نيته الترشح للرئاسة منافسا للـ"برادعي". وقد اعتبر هؤلاء أن "الاحتفاظ بدستور مبارك، ولو موقتًا، إهانة للثورة. ذلك أن التصويت بنعم في الاستفتاء يبث الحياة في دستور مبارك مما سيؤدي الى برلمان معيب".
غير أن جماعة "الإخوان المسلمين" وهي القوة السياسية الوحيدة التي تمثلت في لجنة إعداد هذه التعديلات الدستورية التي شكلها "المجلس العسكري" خرجت عن هذا الاجماع السياسي، فسارعت الى إعلان تفردها بتأييد التعديلات قبل أن ينضم إليها ما تبقى من حزب "مبارك" (الحزب الوطني) وباقي الحركات والتجمعات الإسلامية الهامشية الأخرى من جماعة "السلفيين" المرتبطين بالأجهزة الأمنية لنظام "مبارك" وحتى حزب "الوسط" الجديد الذي أسسه منشقون عن الجماعة. وقد بدت "الجماعة" بعد انحيازها العلني لمسار التعديلات الدستورية، وكأنها دخلت في صفقة أو تحالف سافر مع "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" فضلا عن فلول حزب "مبارك"، وباتت بمثابة قاطرة جرت خلفها كل الجماعات والحركات الإسلامية على تنوعها بين معتدلين ومتطرفين، وبالتالي بات الاستفتاء مصبوغًا بصبغة دينية بل طائفية!
في الظاهر لم تكن هناك ذريعة أو مناسبة يمكن استغلالها في إثارة الموضوع الديني والطائفي، إذ تخلو المواد الدستورية المعروضة للاستفتاء من أية إشارة الى المادة الثانية المثيرة للجدل في الدستور المعطل الذي استحدثه الرئيس الأسبق "أنور السادات" وتنص على أن "مبادئ الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع". لكن جماعة "الإخوان المسلمين" قادت مع رفاقها في معسكر المؤيدين للتعديلات حملة دعاية جرى خلالها التركيز على شعارات دينية صرفة تدعو المواطنين البسطاء في الريف والمناطق الشعبية الى التصوت بـ "نعم" باعتباره "واجبًا شرعيًا" لتأمين بقاء هذه المادة الثانية!!
وتكاملت الدعاية الدينية للتعديلات مع الخط الذي اتبعه الإعلام الرسمي في ترويجها باعتبارها أقصر الطرق لاستعادة الاستقرار الاقتصادي في البلاد، والعودة إلى الحياة الطبيعية بسرعة، وإنهاء الأوضاع الاستثنائية التي خلفتها أيام الاحتجاج الثوري الطويلة وأثرت مباشرة على أرزاق شرائح من المواطنين، وخصوصًا في أوساط الطبقات الفقيرة والمهمشة.
ولعل هذه الدعاية التي توسلت معاناة الفقراء وشعارات الدين، ولم تتورع عن إثارة النعرات الطائفية الى درجة بث شائعات وتوزيع مناشير تحض المسلمين على التصويت بـ"نعم"، لأن "النصارى سوف ينفذون أوامر الكنيسة بالذهاب للمشاركة في الاستفتاء والتصويت بـ"لا"، هي التفسير المنطقي لتضخم نسبة الموافقين على التعديلات الدستورية في المناطق الريفية والأحياء الأشد فقرًا في المدن (تجاوزت التسعين في المئة أحيانًا) قياسًا بالمناطق والأحياء التي يقطنها المتعلمون وشرائح الطبقة المتوسطة.
ولم يجد كثيرون تفسيرًا لهذه الدعاية الدينية في موضوع سياسي بامتياز، سوى محاولة تعبئة جمهور الناخبين من أجل تمرير هذه التعديلات التي يعتقد "الإخوان" أنها وسيلتهم لفرض قواعد اللعبة الديموقراطية الجديدة بما يناسب مصالحهم.
وسط هذا المناخ المشحون طائفيًا جرى الاستفتاء في موعده المحدد (19/3/2011)، وكانت النتيجة لصالح "الإخوان" و"المجلس العسكري" فقد تبيّن أن نسبة من قالوا "نعم" لهذه التعديلات بلغت أكثر من 77 في المئة بينما لم تتجاوز نسبة من قالوا "لا" نحو 23 في المئة. وأعلنت اللجنة القضائية العليا للإشراف على الانتخابات نجاح "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" في الحصول على تأييد شعبي لرؤيته في شأن مسار المرحلة الانتقالية.
وقد أزالت المواد الدستورية التسع المعدلة "الشروط التعجيزية" التي وضعها "مبارك" لتقييد حق الترشح لمنصب الرئيس وجعله يكاد يكون حقًا حصريًا له ولنجله "جمال". وعلى رغم أن التعديلات لم تقترب من الاختصاصات والسلطات شبه الإلهية التي يمنحها الدستور الذي حكم به الرئيس السابق 30 عامًا، إلا أنها خفضت مدة الولاية الرئاسية من ست سنوات إلى أربع فقط، ووضعت سقفًا لبقاء أي رئيس في السلطة بما لا يتجاوز ولايتين، كما ألزمت مادة من المواد المعدلة مجلسي الشعب والشورى اللذين سينتخبان على أساس هذه التعديلات الشروع خلال ستة أشهر في اختيار هيئة تأسيسية تضطلع بوضع دستور جديد للبلاد يجري استفتاء عليه قبل نهاية السنة المقبلة.
وبمجرد إعلان النتيجة، سادت حالة احباط لدى النخب المصرية وشباب الثورة، حيث بدت زهور الثورة وكأناها آخذة بالذبول، فالتعديلات لم تُدخل كثيرًا من روح الديموقراطية الى النظام، وبدأت التساؤلات عن مصير أحلام شباب "ميدان التحرير"، وهل باتت مصر عالقة بين مطرقة "الإخوان المسلمين" وسندان الجيش المصري؟! فقد كان الاصطفاف الذي أسفرت عنه دعوة "المجلس العسكري" الى الاستفتاء مفاجئًا بحيث سمح -قبل الأوان- بانتصار فعلي لـ"الاخوان المسلمين" بين قوى الثورة على جميع قواها الأخرى، وهو ما أعطى صورة مسبقة لما يمكن أن تكون عليه نتائج الانتخابات القادمة. لهذا عبرت الصدمة عن نفسها بأشكال مختلفة، إلا أن الشكل الأكثر مدعاة للقلق بينها هو ذاك الإحباط المبكر الذي أصاب العديد من النخب التي خاضت نضالا مشرفًا في "ميدان التحرير"، بينما ما زال العرس الثوري المصري وارتداداته التفاؤلية العربية في الذروة.
في 28/3/2011 في رد جزئي على الاتهامات الموجهة الى "المجلس" بالمراوغة والتباطؤ وغموض موقفه من مطالب الثورة العاجلة وخصوصًا مطلب تطهير الدولة من رموز النظام السابق وأركانه، أعلن الجيش حزمة قرارات ووعود وإجراءات أبرزها تأكيده أن "مبارك" وأسرته "يخضعون للإقامة الجبرية"(وذلك قبل أن يعلَن في 24/5/2011 عن إحالته ونجليه "علاء" و"جمال"، على محكمة الجنايات بتهم قتل متظاهرين والتحريض على قتلهم والفساد المالي). كما تطرق الجيش في بيانه الى موضوع الانتخابات، فقال إن الانتخابات النيابية ستجري في أيلول المقبل، وأن موعد الانتخابات الرئاسية سيعلن بعد الانتهاء من الانتخابات الاشتراعية، مؤكدًا بذلك إصرار "المجلس العسكري" على رفض مطلب غالبية القوى والتيارات الحركات السياسية إجراء الانتخابات الرئاسية أولا.
ونقل عن المشير "طنطاوي" تعهده إلغاء حال الطوارئ المعلنة في البلاد منذ 30 سنة قبل الانتخابات النيابية.
الى ذلك، صدر عن الجيش المصري في 30/3/2011 إعلانًا دستوريًا موقتًا الغى بموجبه "الدستور الدائم" الذي حكم به الرئيس السابق "حسني مبارك" حكمًا مطلقًا مدة 30 سنة، وقد تضمن الإعلان المواد التسع التي أقرت سابقًا في استفتاء 19 آذار. وطبقًا لمواد الإعلان الانتقالي، سيتعين على مجلسي الشعب والشورى اللذين سينتخبان خلال ستة اشهر، اختيار جمعية تأسيسية من مئة عضو يضعون دستورًا جديدًا للبلاد، بحيث يجري الاستفتاء عليه قبل مرور ستة أشهر اخرى، أي قبل نهاية 2012.

رابعًا: النتائج الأولية لإسقاط نظام "مبارك"
بقيت العلاقات المصرية مع أميركا على حالها، لا بل تحسنت في المرحلة الانتقالية التي يمسك بزمامها "المجلس العسكري" وذلك مقارنة مع ما كانت عليه في عهد الرئيس المخلوع الذي لم يكن مطواعًا "أميركيًا" بما فيه الكفاية في آخر سني ولايته. وكذلك يقال بالنسبة لإسرائيل، فقد تعهد الجيش المصري المحافظة على اتفاقية "كامب دايفد"، كما لم تنقطع الزيارات الرسمية لمسؤولين صهاينة الى مصر، وسيستأنف خلال أيام تصدير الغاز المصري لـ"تل أبيب" بعد توقفه مؤخرًا إثر انفجار وقع بمدينة "العريش" واستهدف أحد خطوط توريد الغاز لإسرائيل، ولا تزال المفاوضات قائمة بين مصر وإسرائيل حول قضية تعديل أسعار الغاز الزهيدة جدًا مقارنة مع السعر العالمي والتي كانت معتمدة في عهد "مبارك". وبصريح العبارة، لو لم تكن أميركا مطمئنة الى تحقق واستمرار هذا "الستاتيكو"، لما دعمت الثورة المصرية ولما ساهمت في إشعالها.
وباستثناء استعادة الشعب المصري حريته بعد تخلصه من الحكم البوليسي وفساد الطبقة السياسية التي حكمت بلاده، فإن بقية النتائج الأولية لإسقاط نظام الرئيس المصري المخلوع "حسني مبارك" كانت في غاية السلبية ومن الخطورة بمكان، ولا سيما منها توسع النفوذ الإيراني ومن يكنون له مشاعر المودة مثل جماعة "الإخوان المسلمين"، وبروز شبح الفتنة الطائفية بين المسلمين والأقباط.

1- توسع النفوذ الإيراني والانفتاح المصري على إيران:
أولى النتائج السياسية لإسقاط نظام "مبارك" تمحورت حول العلاقات المصرية-الإيرانية التي قُطِعت منذ قيام "الثورة الخمينية" عام 1979.
ففي 22/2/2011 كانت مصر والعالمين العربي والإسلامي على موعد مع عبور سفينتين حربيتين تابعتين للبحرية الإيرانية "قناة السويس" في اتجاه البحر المتوسط للمرة الأولى منذ قيام "الثورة الخمينية" عام 1979، وذلك بعدما وافقت السلطات المصرية في 18/2/2011 على عبورهما. ويتألف طاقم السفينة "خرج" من 250 بحارًا ويمكن أن تحمل ثلاث مروحيات، أما الثانية "الفاند"، فهي مزوّدة بطوربيدات وصواريخ مضادة للسفن، وقد توجّهتا الى سوريا حيث رستا في ميناء "اللاذقية".
وبذلك، في أول اختبار سياسي له منذ توليه إدارة شؤون البلاد في 11 شباط 2011، أثبت "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" المصرية جدارته تجاه الإدارة الأميركية -الساعية الى تقوية نفوذ إيران في المنطقة واستخدامها فزاعة لدول الخليج-، بموافقته على طلب إيران عبور السفينتين "قناة السويس".
وفي أول تعلق لها على عملية العبور، اكتفت "واشنطن" بالقول إنها تراقب هذه العملية وإنها على علم بالتحرك الإيراني، وأنها لا تعتقد أن السلوك الإيراني في المنطقة يتسم بالمسؤولية! وقد مرّت السفينتان الحربيتان الإيرانيتان بمحاذاة السواحل الإسرائيلية، دون أن تزيلا إسرائيل عن الخارطة (الدعاية الإيرانية الكاذبة)، كما أن إسرائيل لم تعترض طريقهما، بل اكتفت بإعلان حالة التأهّب والجهوزية للرد على أي استفزاز.
وفي سياق تعزيز الانفتاح المصري على إيران والتنظيمات الملحقة بها، أعلنت مصر في 29/3/2011 للمرة الأولى عن بعض ملامح سياستها الخارجية الجديدة بعد "ثورة 25يناير"، إذ وعدت حركة "حماس" بتغيير طريقة التعامل مع "معبر رفح" مؤكدة أن اتفاقية تنظيمه ليست ملزمة لها كما طالبت إيران بفتح صفحة جديدة (تقرر فتحه بشكل دائم في 26/5/2011، وكانت القاهرة أقفلته عام 2007 "حماس" على القطاع). وقال وزير الخارجية المصري "نبيل العربي" (قبل أن ينتخب أمينًا عامًا لجامعة الدول العربية خلفًا لـ"عمرو موسى") وذلك في أول مؤتمر صحافي له منذ توليه منصبه إن "إيران ليست دولة عدوة لمصر(...) ومصر تفتح صفحة جديدة مع جميع الدول بما فيها إيران، حيث إنها دولة من دول الجوار التي لنا بها علاقات تاريخية طويلة". وعن إمكانية رفع مستوى العلاقات الديبلوماسية بين البلدين إلى سفارة، قال "العربي" إن هذا الأمر يتعلق بالموقف الايراني "نحن نعرض فتح صفحة جديدة وننتظر رد فعلهم".
وردًا على سؤال ما إذا كانت مصر ستنفتح على "حزب ولاية الفقيه" في لبنان (المسمى بـ"حزب الله") كما هي الحال مع "حماس" حاليًا، أكد "العربي": "إن هناك فارقًا كبيرًا بين "حماس" و"حزب الله"، حيث إن الأولى أرضها محتلة، بينما الثاني جزء من نسيج سياسي في دولة، ومن يرغب في الحضور إلى مصر فإن مصر لا تمنع ذلك، ومن يرد الاتصال فإن الباب مفتوح".
وحول عدم تأثر العلاقة مع إسرائيل بزوال نظام "مبارك"، قال "العربي" في21/4/2011: "أود ان أؤكـــد أن إسرائيل تحلم بأن تتم معاملتها كأي دولة أخرى، وأنا أرى هذا مطلبًا مشروعًا وليس لدي مشكلة في هذا، وإنني أكرر ما قاله المجلس الأعلى للقوات المسلحة وقلته أنا من قبل من أن مصر ملتزمة كل المعاهدات الدولية التي أبرمت قبل ثورة يناير، وليست لدينا نية لتغيير هذا".
هذا، وقد رحبت إيران بالخطاب المصري الجديد، وبدأ العمل على إعادة تبادل السفراء، كما صرح رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني "علاء الدين بروجيردي" في 14/5/2011، بأن "طهران والقاهرة قررتا زيادة معدل الزيارات المتبادلة لرجال الأعمال والعلماء بين البلدين في إطار سعيهما الى تعزيز العلاقات الثنائية"، موضحًا أن "سبل تعزيز العلاقات بين البلدين ستتخذ إطارًا فعليًا على المستويين الرسمي والشعبي في وقت قريب".
وقبل ذلك الإعلان، كانت لافتة زيارة الأمين العام لـ"حزب العمل الإسلامي" المصري "مجدي حسين" طهران بشكل رسمي، حيث استقبله وزير الخارجية الإيراني "علي أكبر صالحي" في 18/4/2011، وأكّد "صالحي" على "ضرورة إبقاء تضامن الأمة المصرية ويقظتها حتى النصر النهائي"، فيما شدد "مجدي حسين" على أن "الثورة الإسلامية الإيرانية واعدة بالنسبة الى وحدة المسلمين"، و"إقامة علاقات متينة بين البلدين والحكومتين الإيرانية والمصرية"!
غير أنه في تطور أمني لافت ومتشعب الدلالات، ما لبث أن طرأ على العلاقات الإيرانية-المصرية مؤكّدًا صوابية سياسة نظام "مبارك" التي كانت متبعة حيال إيران والتنظيمات المرتبطة بـ"ولاية الفقيه"، تبدد جزء كبير من "أمل" داعب خيال بعض الجاهلين بالمشروع الإيراني التخريبي والمتعامين عنه والمتواطئين معه، في أن تشهد العلاقة المصرية مع إيران بعد "ثورة 25 يناير" تطورًا دراماتيكيًا سريعًا يضع حدًا لـ32 عامًا من التوتر والقطيعة، فقد أعلن فجأة في 29/5/2011 أن السلطات الأمنية في القاهرة أوقفت مساء السبت 28/5/2011 الديبلوماسي الإيراني "محمد قاسم الحسيني" وبدأت التحقيق معه في نيابة أمن الدولة العليا بتهمة التجسس على مصر و"الإضرار بمصالحها".
وأوضحت مصادر نيابة أمن الدولة أن المخابرات العامة المصرية رصدت تحركات "مشبوهة" للـ"حسيني" منها أنه "استغل حال الفراغ الأمني في البلاد أثناء أحداث الثورة، ونشط في جمع معلومات استخبارية عن الأوضاع الداخلية وخصوصًا الحال الأمنية في شمال "سيناء" وأوضاع المواطنين المصريين الذين يعتنقون المذهب الشيعي".
وأضافت أن التحقيق مع الديبلوماسي الإيراني تضمّن مواجهته بوقائع "قيامه بجمع معلومات سياسية واقتصادية وعسكرية عن مصر ودول الخليج، من خلال تجنيد أعضاء في شبكات تجسس سرية وإمدادهم بمبالغ مالية، كما طلب من مصادره الاتصال بجماعات وتنظيمات سياسية مصرية لمعرفة مدى استعدادها لقبول دعم مالي من ايران". لكن المصادر لم تذكر بالاسم الجماعات والأحزاب التي حاول الديبلوماسي الإيراني الاتصال بها، كما لم تدل بأية معلومات عما إذا كان هناك موقوفون آخرون جرى التحقيق معهم في هذه القضية.
وبعد ساعات من توقيفه والتحقيق معه، أفرج عن "الحسيني" بعدما أفادت وزارة الخارجية أنه ديبلوماسي معتمد في "مكتب رعاية المصالح الإيرانية"، إلا أن السلطات الأمنية أبلغته أن عليه مغادرة البلاد في غضون 48 ساعة.
وجاء الإعلان عن توقيف "الحسيني" وترحيله معاكسًا لاتجاه الإشارات التي صدرت عن القاهرة منذ تنحي "مبارك"، وآخرها اللقاء الذي جمع قبل أيام وزير الخارجية المصري "نبيل العربي" ونظيره الإيراني "علي أكبر صالحي" على هامش الاجتماع الوزاري لدول مجموعة عدم الانحياز في مدينة "بالي" الأندونيسية.
تبقى الإشارة الى أنه على الرغم من فك القيود الصارمة التي حكمت علاقة الدولة المصرية مع إيران في عهد "مبارك"، وما ترتب على ذلك من تحرر في تحركات الأحزاب المقربة والمؤيدة للسياسة الإيرانية الاستكبارية والفتنوية والتوسعية في المنطقة، مثل جماعة "الإخوان المسلمين" وسواها ممن بدأت تتكشف أقنعتهم، تبقى الأنظار مشدودة الى موقف مشيخة "الأزهر" والخطاب الذي ستعتمده في مرحلة ما بعد الثورة من السياسة الاستكبارية الإيرانية في المنطقة. وقد استرعى الانتباه في هذا السياق تصريح شيخ الأزهر الإمام الأكبر "أحمد الطيب" في 19/4/2011، تعليقًا على تدخلات إيران في البحرين وتصريحاتها العدائية والاستفزازية تجاه دول الخليج، فقد أهاب "الطيب" بإيران "الكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وأن تنظر إلى ما يحدث في العالم العربي من مشكلات على أنه شأن داخلي بحت تتكفل به شعوب هذه المنطقة وأصحاب الشأن فيها، وذلك درءًا للفتنة وحقنًا للدماء وحفظًا للجوار وحقوقه ودعمًا لمشروع الحوار بين السنة والشيعة".

2-الانفتاح على النظام السوري:
في تطور سياسي ثان لا يقل خطورة عن سابقه، إتفقت سوريا ومصر في 10/3/2011، على "فتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية" في مرحلة ما بعد تنحي الرئيس المصري السابق "حسني مبارك" الذي سيطر الجمود خلال فترة رئاسته على العلاقات السورية-المصرية، وخصوصًا في السنوات الأخيرة والتي وصلت فيها العلاقة أحيانًا الى حدّ القطيعة.
وأتى هذا التطور بعدما بعث المشير "محمد حسين طنطاوي" رئيس "المجلس العسكري الأعلى" في مصر برسالة الى الرئيس السوري "بشار الأسد" شدد فيها على "متانة العلاقة بين البلدين" وضرورة "فتح صفحة جديدة" بينهما، فأبدى الرئيس السوري في رسالة جوابية استعداد بلاده "للتعاون الوثيق" مع مصر، وأمل أن "تستعيد مصر دورها الطبيعي في العمل العربي المشترك". وقد عقد أول لقاء مصري-سوري في المرحلة الانتقالية بعد أسبوع من تبادل الرسائل، وذلك لدى استقبال الرئيس السوري "بشار الأسد" رئيس المخابرات العامة ومبعوث "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" في مصر اللواء "مراد محمد موافي" في 17/3/2011.
ويذكر أن العلاقات السورية المصرية قطعت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وقد عملت إسرائيل جاهدة على إخراج سوريا من عزلتها الدولية على خلفية الاشتباه القوي بوقوفها وراء عملية الاغتيال، ونجحت في مهمتها فعلا مع فرنسا "ساركوزي" أولا، ثم مع الولايات المتحدة كما تحسنت العلاقة مع المملكة السعودية، لكن بقي "مبارك" عصيًا على الاستجابة لتلك المصالحة، فكانت العلاقات بين "الأسد" والرئيس المصري تتسم بالبرودة، وخصوصًا نتيجة اختلاف وجهات نظرهما في الملف اللبناني والعلاقات مع إيران.
بيد أن نتيجة هذا الانفتاح المصري الطارئ على سوريا لن تكون بمستوى الضرر نفسه الذي سببه وسيسببه للقضايا العربية والإسلامية الانفتاح المصري آنف الذكر على إيران، ذلك أن الشعب السوري انتفض لحريته وكرامته في 15/3/2011، معلنًا ثورته على النظام البعثي الشمولي والفاسد والدموي الذي يتسلط على الحكم في سوريا منذ العام 1963، كاشفًا زيف شعارات "الممانعة والمقاومة والعروبة" التي يتستر خلفهما النظام الحاكم ليخفي علاقته بإسرائيل التي خرجت بعض تفاصيلها الى العلن مع تصريحات الرجل البارز في النظام "رامي ومخلوف" وكتابات الصحافة الإسرائيلية.
ومما لا شك فيه أنه بعد سقوط نحو ألف ومئة شهيد وعشرة آلاف جريح والإعلان عن مئات المفقودين، باتت أيام نظام "الأسد" معدودة وهو الى زوال بالتأكيد، إلا أن ما يؤخر سقوطه هو الدعم الأميركي والإسرائيلي الذي يمنح "الأسد" المزيد من الوقت لمحاولة وأد الثورة بالحديد والنار.
وهذا الدعم الصهيو-أميركي المفضوح لم يتوقف عند اعتراف الرئيس الأميركي "باراك أوباما" بقبوله أن تكون عملية الانتقال الى الديموقراطية بقيادة "الأسد" رغم الحرب غير المعلنة التي يشنها على شعبه، حين صرّح في 19/5/2011: "إن الرئيس السوري بشار الأسد أمام خيار: إما أن يقود عملية الانتقال الى الديموقراطية وإما أن يخرج من الطريق"! بل كانت وزيرة الخارجية الأميركية "هيلاري كلينتون" أشد وقاحة وصراحة في دعم "الأسد"، حيث سئلت في اليوم التالي لتصريح "أوباما" عن سبب عدم اتخاذ خطوات أشد قسوة حيال سوريا، فكانت إجابتها الفظة والمهينة بحق الشعب السوري: "لا شهية لذلك. لا يوجد إرادة. لم نر أي نوع من الضغط كالذي رأيناه يتراكم من حلفائنا الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي وجامعة الدول العربية وغيرها لنفعل مثلما فعلنا في ليبيا... نحاول أن نكون أذكياء في تقويم كل حالة على حدة"، مشيرة (في إشادة ضمنية بالرئيس السوري) إلى أن "الأسد قال الكثير من الأمور التي لم نسمعها من زعماء آخرين في المنطقة عن نوع التغييرات التي يريد رؤيتها"!!
ويشار الى أن سقوط النظام السوري سيعيد خلط الأوراق في الشرق الأوسط، نظرًا للدور الاستراتيجي الذي يلعبه في المشروع الصهيو-إيراني الذي يتوسل شعارات "الممانعة والمقاومة" للوصول الى أهدافه.

3-بروز شبح الفتنة الطائفية:
ثالث نتائج إسقاط "النظام المصري" وأشدها خطورة وارتباطًا بـ"مشروع الشرق الأوسط الجديد"، تمثلّت بعدة حوادث واشتباكات طائفية بين مسلمين وأقباط، أعادت هاجس التقسيم الى الأذهان، وخصوصًا مع بروز خطابات مشينة وتحركات مريبة لجماعات إسلامية متطرفة لا تؤمن بالعيش المشترك ولا تعترف بالآخر، رافتها أصوات نشاز لزعماء أقباط تطالب بإقامة دولة مستقلة قبطية على نموذج "الفاتيكان"!
وقد كان "عوديد ينون"، الصحفي الأميركي اليهودي، أول من أوحى لقادة الأقباط عام 1982 بهذا التطلع؛ ففي الورقة التي نشرها بعنوان "إستراتيجية لإسرائيل في الثمانينات من القرن" قال فيها: "مصر مقسمة وممزقة بين بؤر عديدة للسلطة، وإذا تقسمت مصر فإنّ دولا مثل ليبيا والسودان أو حتى الدول الأبعد لن تستمر في توحدها في شكلها الحالي. إنّ رؤية دولة قبطية مسيحية في صعيد مصر إلى جانب عدد من الدول التي تعاني من ضعف السلطة وبدون حكومة مركزية كما هي عليه الآن، هو مفتاح للتنمية التاريخية التي كان من المقرر العودة إليها بموجب اتفاق السلام، ويبدو أنّ ذلك لا مفر من ذلك على المدى البعيد ".
وبالعودة الى تفاصيل الحوادث الطائفية، بدأت محاولات إشعال الفتنة الطائفية في مصر قبل أقل من شهر على بدء التظاهرات. ففي الوقت الذي كانت تحتفل فيه مصر بأعياد رأس السنة الجديدة، تعرضت محافظة الإسكندرية لعمل إرهابي، حيث انفجرت سيارة أمام "كنيسة القديسين" في تمام الساعة الثانية عشرة و20 دقيقة أثناء القداس مسفرة عن وفاة 25 شخصًا وإصابة 80 بينهم 8 مسلمين.
تنبهت "جبهة علماء الأزهر" لخطورة الأمر، فناشدت جميع المصريين تغليب العقل وترجيح المصلحة الوطنية وألمحت إلى أن جهات ترمي من الحادث إلى "ضرب الأمن في المجتمع المصري، وتأجيج نيران الفتنة بين المسلمين وإخوانهم من أهل الكتاب". وأضافت الجبهة: "ما يحدث في مصر وفي غيرها من بلاد العروبة والإسلام ما هو إلا جزء من المؤامرة التي تحاك وأحيكت للعراق والسودان، والصومال وأفغانستان، ومصر عندهم على الجرار، فاحذروا أيها العقلاء من أهل مصر من أن تقعوا فيما نصب لكم من الشراك".
تزامن هذا الاعتداء مع التحضيرات لإجراء الاستفتاء في السودان على انفصال "جنوب السودان المسيحي" والتي ظهرت نتيجته المؤيدة للانفصال بعد شهر. وقد تناولت الصحف المصرية الصادرة في 10/1/2011 ملفات عدة كان أهمها ما يتعلق بالاستفتاء الجاري حول تقرير مصير جنوب السودان، وينافسه في الأهمية ما فجرته حادثة الاعتداء على "كنيسة القديسين" بإسكندرية مصر من قضايا متعلقة بالأقباط، فاوردت صحيفة "المصريون" أنباء عن دعوة لقيادات أقباط المهجر إلى قيام دولة مستقلة للأقباط في مصر، بالتزامن مع إجراء استفتاء تقرير مصير جنوب السودان، مؤكدين أن الدولة الجديدة تشكلت من خلال هيئة تأسيسية من مائة قبطي من داخل وخارج مصر، مطالبين بالحصول على 25 بالمائة من المناصب السيادية في مصر وإطلاق حرية بناء الكنائس بلا حدود وتشكيل محاكم للأقباط، تمهيدًا لحكم ذاتي للأقباط في مصر حسب قولهم. وتبنى تأسيس ما تمسى بـ "الدولة القبطية" قيادات قبطية معروفة بمواقفها المناصرة لإسرائيل ودعواتها الدائمة لها من أجل التدخل لحماية الأقباط في مصر، ومن بين هؤلاء "موريس صادق" رئيس "الجمعية الوطنية القبطية" و"منظمة كميل الدولية من أجل يسوع"، وقناة "الحقيقة" المسيحية ومنظمة "ستاند آب أمريكا"، وقناة "الطريق" المسيحية بولاية "نورث كارولينا".
بعد سقوط نظام مبارك، فعّل دعاة الفتنة المنظمة من السياسة الصهيو-أميركية تحركاتهم على الساحة المصرية لإشاعة مناخ فوضى وخوف، وباتوا يركزون جل نشاطهم على النفخ في "التوتر الطائفي" وزيادة حوادث الفتنة "المنظمة" بين المسلمين والمسيحيين بسرعة مثيرة للانتباه، وهي حوادث تتلطى خلف عناوين تمويهية لا تمثل سوى الجزء البسيط الظاهر من جبل الجليد، كالعلاقات العاطفية بين شباب وفتيات مسلمين وأقباط، والاحتجاجات على تعيين محافظ قبطي في "قنا" جنوب مصر قبل أن يتم إرجاؤه مدة ثلاثة أشهر، مع العلم أن المحافظ السابق كان قبطيًا أيضًا!
فقد أقدم مجهولون في 23/2/2011على ذبح كاهن كنيسة قبطيًا يدعى "داود بطرس" (82 سنة) داخل شقته في أحد الأحياء السكنية وسط مدينة "أسيوط" جنوب مصر. وقال راعي كنيسة "مار مرقس" بـ"أسيوط" القس "أبانوب ثابت"، أن جيران المجني عليه، أبلغوه أن مجهولين عددهم بين ثلاثة وأربعة أفراد ذبحوا المجني عليه وهم يهتفون "الله أكبر"، قبل العثور عليه مضرجًا بدمائه. وتظاهر الآلاف من الأقباط في المدينة بعد جنازة الكاهن في "كنيسة القيامة" في "درنكه" التابعة لـ"أسيوط"، وكذلك في "القاهرة". وأعلن "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" الحاكم في مصر، أنه "يراقب بدقة محاولات لإحداث الفتنة بين المواطنين، مناشدًا المصريين التصدي لهذه المخططات".
بعد تلك الحادثة الإرهابية توالت الصدامات الدامية بين المسلمين والأقباط فسجل وقوع نحو 15 حادثًا دمويًا حتى نهاية أيار2011 ذهب ضحيتها عشرات القتلى ونحو 500 جريح، وكان أخطرها على الاطلاق ثلاثة حوادث:
الأول وقع في 5آذار2011، حيث قتل شخصان وأحرقت "كنيسة الشهيدين" في قرية "أطفيح" في أعمال عنف بين مسلمين وأقباط في ضاحية "القاهرة"، فيما عُزِيَ الى خلافات عائلية تطورت الى تبادل للنار على خلفية علاقة عاطفية بين مسيحي ومسلمة في محافظة "حلوان"، مما أدى الى مقتل والد الفتاة وابن عمها. وعقب الانتهاء من إجراءات دفن القتيلين تجمعت أعداد كبيرة من أهالي القرية وتوجهوا إلى "كنيسة الشهيدين" احتجاجًا على العلاقة المشار إليها، إلا أن بعض العناصر المتطرفة المشبوهة والمنتمية الى ما يسمى "الجماعة السلفية" المعروفين بقربهم من أجهزة أمن النظام البائد، أقدمت على اعتداء وهدم تدريجي (غير مسبوق) لـ"كنيسة الشهيدين" وقامت بإشعال النيران في الكنيسة واقتحامها وإتلاف محتوياتها مستغلين حادثة الخلاف العائلي. ومنذ ذلك الحين بدأت التظاهرات والاعتصامات القبطية الاحتجاجية والمنددة بهدم كنيسة "أطفيح" وبالطائفية تنظم في القاهرة والإسكندرية.
وكان "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" أعلن أن الجيش سيعيد فورًا بناء الكنيسة المهدمة، وسيلاحق المسؤولين عن الاعتداء عليها. لكن هذا القرار لم يفلح في أمتصاص غضب المعتصمين بعدما شاع نبأ أداء أتباع "الجماعة السلفية" في قرية صول بالصلاة على أطلال "كنيسة الشهيدين" وزرع لافتة في المكان كتب فيها: "مسجد الرحمن"!
الحادث الثاني وقع في 8/3/2011، مع خروج المئات من أعضاء "الجماعة السلفية" في تظاهرات في شوارع القاهرة ومدن أخرى رافعين شعارات ومطالب "طائفية" مثل احياء قضية زوجتي القسَّين "وفاء قسطنطين" و"كاميليا شحاته" اللتَين قيل إنهما اعتنقتا الإسلام قبل أن تسلمهما الأجهزة الأمنية الى الكنيسة القبطية. غير أن الامر لم يقف عند حدود التظاهر، وإنما شن العشرات من "السلفيين" المسلحين في المساء هجمات منسقة استهدفت مواطنين مسيحيين يقطنون "حي الزبالين" و"حي الزرائب" حيث الغالبية المسيحية في منطقة "المقطم" غرب القاهرة، ما أسفر عن سقوط 13 قتيلا و140 جريحًا. وقد تفجر الوضع بعدما سرت شائعة أن المتظاهرين الأقباط متوجهون لحرق "مسجد السيدة عائشة" انتقامًا لحرق "كنيسة أطفيح"، وهو ما أدى لاشتعال المواجهات، كما قيل إن المتظاهرين الأقباط قطعوا طريق الأوتوستراد وقاموا بإحراق عدد من السيارات لتشتعل الأحداث بعدها.
الحدث الفتنوي الثالث وقع في 7/5/2011 حيث بلغت المواجهات الطائفية ذروتها عندما اشتعلت في حي "إمبابة" الشعبي شمال شرق القاهرة صدامات دموية بين مئات من المتطرفين المسلمين السلفيين ومواطنين مسيحيين من سكان الحي، أدت إلى حرق كنيستين وتخريبهما وسقوط نحو 15 قتيلا وأكثر من 240 جريحًا.
وفي التفاصيل، تذرع مئات من "السلفيين" المتهمين على نطاق واسع بنسج علاقات وثيقة مع جهاز مباحث أمن الدولة السيئ السمعة الذي تم حله بعد أسبوعين من سقوط مبارك، تذرعوا بشائعة عن وجود فتاة مسيحية قيل أنها أسلمت بعدما ارتبطت بعلاقة عاطفية مع شاب مسلم محتجزة في كنيسة "مار مينا" في حي "إمبابة"، فحاصروا الكنيسة وحاولوا أقتحامها بالقوة لتحرير الفتاة، مما أدى إلى الصدامات التي أوقعت قتلى وجرحى من المسلمين والمسيحيين. وبعد ساعات قليلة هاجم نحو 50 شخصًا مسلحين بأسلحة بيضاء وزجاجات حارقة كنيسة "العذراء" الواقعة في الحي وأحرقوا محتوياتها قبل أن يلوذوا بالفرار. لكن شهودًا أكدوا أن هؤلاء الأشخاص ليسوا من سكان الحي، وبدا من سلوكهم أنهم "بلطجية مأجورون" لتنفيذ الاعتداء.
وعلى أثر ذلك الحادث، عقد رئيس الحكومة المصرية "عصام شرف" إجتماعا طارئًا لحكومته وجه بعده بيانًا الى الشعب تلاه وزير العدل المستشار "عبد العزيز الجندي" أكد فيه أن حكومته "ستضرب بيد من حديد على كل من يعبث بأمن الوطن وكل من يحرض على إثارة الفتن الطائفية"، محذرًا من أن "مصر قد تكون أصبحت بالفعل ، أمة في خطر"، وأشار إلى أن الحكومة ستطبق على المشاركين في حوادث العنف الطائفي بنود قانون الأرهاب التي تصل العقوبات فيها إلى الإعدام .
كما تعهّد "شرف" في 11/5/2011 بتأليف لجنة للبحث في الاستجابة لطلبات فتح كنائس مقفلة واقتراح الحلول للمشاكل الطائفية المختلفة، وكذلك مشروع قانون لتوحيد قواعد بناء دور العبادة، وهو ما يطالب به الأقباط منذ عقود، إلى مشروع قانون آخر يجرم "التحريض والتمييز الديني".
هذا، وقد كان "المجلس العسكري" الحاكم قد حذر في 3/5/2011 من "مواقع إنترنت وصفحات في موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك تبث من دول أجنبية وتحرض على الفتنة الطائفية في مصر. وقد جاء هذا التحذير بعدما بُث شريط مصور على شبكة الانترنت يدعو إلى حرق كنائس "امبابة". وأضاف "المجلس" انه بعد تتبع هذه المواقع والصفحات تبين "انها مجهولة الهوية وتعمل من داخل بعض الدول الأجنبية وليس من داخل مصر حتى يصعب اكتشافها".
وهكذا، عوض ان تأتي الثورة بالتغيير والمساواة، ثمة أياد آثمة عملت على حرفها عن مسارها، لتسود في ظل انفلات العصبيات وتكرار الحوادث الطائفية، مشاعر الخوف والقلق الشارع المصري من أن تتحول مصر بعد ثورتها من قاطرة التغيير نحو الديموقراطية في العالم العربي الى بوابة للتمزق والتفتيت الذي لن ينجو من شره أحد، خصوصًا مع الشعارات والهاتافات التي رفعت في الاعتصامات القبطية المحتجة على استهداف الكنائس والعنف الطائفي، حيث رفعت هتافات مطالبة بالحماية الدولية للمسيحيين في مصر، وقد جرى رفضها فيما بعد من الأقباط الواعين للمؤامرة التي تحاك لمصر، إلا أن بعض المتظاهرين لم يستطيعوا إنكار تخوفهم المبرر من سعي البعض في مصر الى اقامة دولة إسلامية تهمش المسيحيين الذين يمثلون حوالي 12 في المئة (نحو 10 ملايين) من سكان مصر التي تعد 85 مليون نسمة تقريبًا.

4-تسليم البلاد الى "الإخوان المسلمين" برعاية "المجلس العسكري":
تلك هي النتيجة الرابعة لسقوط نظام "مبارك". فقد شكلت جماعة "الإخوان المسلمين" منذ اللحظة الأولى لسقوط النظام بعد "ثورة 25 يناير" وتولي "المجلس العسكري" زمام السلطة بتوجيهات أميركية، ركيزة أساسية للوضع السياسي المصري الى حد يمكن معه ملاحظة أن هناك نوعًا من التفاهم العميق -إن لم يكن التحالف نتيجة لصفقة ما- بين الجماعة والمؤسسة العسكرية في الضبط التدريجي لمرحلة ما بعد تنحي الرئيس "حسني مبارك".
صحيح أن الحركة القيادية لـ"الإخوان المسلمين" سعت في أيام الثورة الأولى الى بذل اقصى ما يمكنها في إخفاء نشاطها وشعاراتها الدينية وإظهار الانكفاء داخل التحالف الشبابي الواسع الذي نشأ في "ميدان التحرير"، إلا أن نشاطها ما لبث أن ظهر بوضوح بعد خطاب "مبارك" الثاني يوم انقسم "شباب الميدان" بين من اعتبر أن الحركات الاحتجاجية حققت أغراضها بعدم استمرار نظام "مبارك" في الحكم والتفاوض مع نائب الرئيس "عمر سليمان"، ومن أصرّ على التظاهر في "ميدان التحرير" حتى "الرحيل الآن" وكان في مقدمة هؤلاء جماعة "الإخوان المسلمين" الذين شحنوا جمهورهم لمتابعة الاحتجاجات حتى إسقاط النظام بشكل كامل.
وازداد دور جماعة "الإخوان" فعالية وريبة، مع المنهج السريع الذي وضعه "المجلس العسكري" للمرحلة الانتقالية، خصوصًا فيما يتعلق بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في غضون أشهر قليلة، وهو ما أثار تساؤلات حول الغاية من وراء هذا التسرع، فضلا عن المخاوف من النتائج التي ستفرزها تلك الانتخابات المتسرعة، خصوصًا أن ثمة حاجة الى مزيد من الوقت كي تنشط الحياة السياسية المصرية وتنشأ الأحزاب وتتنظم بعد عقود من القمع. فإجراء الانتخابات بسرعة يناسب جماعة "الإخوان المسلمين"، التي تستطيع أن تكون مستعدة للانتخابات خلال أسابيع لكونها جماعة متمرسة والأكثر تنظيمًا على الساحة المصرية رغم التضييق الذي كان يمارس عليها قبل الثورة.
وتأكد التحالف الإخواني-العسكري، مع طرح "المجلس العسكري" موضوع الاستفتاء على التعديلات الدستورية، حيث كان "الإخوان" القوة السياسية الوحيدة التي تمثلت في لجنة إعداد هذه التعديلات الدستورية التي شكلها العسكر، كما كانوا بتأييدهم تلك التعديلات -فضلا عن فلول النظام السابق- الوحيدين الذين شذوا عن إجماع القوى والأحزاب والحركات السياسية المدنية بمختلف تنوعاتها وأطيافها التي كانت عماد الثورة، والتي رفضت التعديلات مطالبة بصياغة دستور جديد للبلاد.
فوسط مناخ مشحون طائفيًا استخدم خلاله "الإخوان" أبشع أنواع التحريض والتخويف الطائفي، جرى الاستفتاء في 19/3/2011، وكانت النتيجة لصالح "الإخوان" و"المجلس العسكري" فقد صوت بـ"نعم" للتعديلات أكثر من 77 في المئة من المقترعين، وبالتالي أعلنت اللجنة القضائية العليا للإشراف على الانتخابات نجاح "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" في الحصول على تأييد شعبي لرؤيته في شأن مسار المرحلة الانتقالية، وهي الرؤية التي تصب بشكل كامل ومباشر في مصلحة "الإخوان المسلمين"!
هذا، ولم يجد كثيرون تفسيرًا للدعاية الطائفية التي شكلت ركيزة حملة "الإخوان" لتعبئة جمهور الناخبين وحثهم على التصويت تأييدًا لتعديلات تتعلق بموضوع سياسي بامتياز، سوى محاولة تعبئة لفرض قواعد اللعبة الديموقراطية الجديدة بما يناسب مصالحهم، ويسمح لهم بالحصول على نصيب يتجاوز حجم نفوذهم الواقعي في المجتمع من خلال اغتنام فرصة التعديلات للدستور المعطل التي يؤدي تمريرها الى إجراء الانتخابات البرلمانية في غضون أشهر قليلة، أي قبل أن تتمكن القوى السياسية القديمة والقوى الجديدة التي أفرزتها الثورة من التبلور وتنظيم صفوفها، وهو ما يتيح للـ"جماعة" أن تنافس وحدها في هذه الانتخابات رجال الأعمال من فلول النظام القديم، مستفيدة من الميزة النسبية التي تتمتع بها حاليًا والمتمثلة في كونها القوة السياسية الوحيدة ذات الإمكانات التنظيمية والمالية الضرورية لخوض معركة انتخابية من هذا النوع وفي هذا الوقت.
وفي سياق تحضيراتها لخوض الاستحقاقات الانتخابية القادمة، أعلنت جماعة "الاخوان المسلمين" في 30/4/2011، إنشاء حزب سياسي سيشارك في الانتخابات التشريعية في ايلول المقبل والتي تسعى من خلالها الى الفوز بنحو نصف مقاعد مجلس الشعب، وعينت أحد أبرز صقورها "محمد مرسي" رئيسًا للحزب الجديد الذي أطلقت عليها اسم "حزب الحرية والعدالة". وأكد "مرسي" أن الحزب الجديد "ليس حزبًا اسلاميًا بالمفهوم القديم، ليس حزبًا دينيًا، وإنما هو "حزب مدني" و"سيعمل بصورة مستقلة عن الجماعة". وكشف "مرسي" أن الترشح لمجلس الشعب "سيكون في حدود 45 الى 50 في المئة" من المقاعد خلال الانتخابات المقبلة.
وعلى الرغم من قول الجماعة إنها لن تتقدم بمرشح لانتخابات الرئاسة التي يفترض تنظيمها قبل نهاية السنة، وأنها لن تدعم أيًا من أعضائها إذا ما ترشح، فقد خلط الأوراق إعلان القيادي البارز في الجماعة "عبد المنعم أبو الفتوح" في 12/5/2011 ترشحه للانتخابات الرئاسية المصرية مستقلا، ما أثار التساؤلات عن إمكانية وجود عملية توزيع أدوار داخل صفوف الجماعة بهدف الإطباق على جميع مفاصل السلطة في مصر.
أما صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية فقد كشفت في اليوم نفسه لترشح "أبو الفتوح" عن أن الرئيس الأميركى "باراك أوباما" أكد لأحد مساعديه أنه يريد أن يصبح "وائل غنيم" (الناشط السياسى وعضو ائتلاف الثورة) "رئيس مصر القادم"، لافتة إلى أن "أوباما" يأمل أن يفوز "شباب الشارع" فى المرحلة المقبلة فى مصر، ناقلة عنه قوله:"وذلك ما أعتقده طريقًا طويلاً وصعبًا".
وعلى أي حال، يبدو أن أميركا مطمئنة لهوية الفريق السياسي الذي سيدير مصر بعد الانتخابات حتى ولو كان "الإخوان المسلمين" أنفسهم، وذلك بمستوى الاطمئنان ذاته الذي تكنه للجيش الذي يدير المرحلة الانتقالية. ففي مقابلة أجرتها صحيفة "الواشنطن بوست" مع "عصام العريان" أحد أهم رموز "الإخوان المسلمين" في مصر، ونشرت بتاريخ 15/5/2011، تركز الحديث حول مستقبل مصر، وفي ذلك قال "العريان": "مصر يجب أن تكون دولة ديموقراطية ذات نظام برلماني". وعن مصير اتفاق السلام مع إسرائيل قال: "ستحترم الدولة المصرية اتفاق السلام، والبرلمان الجديد هو الذي سيقرر في شأن مستقبله". أما عن العلاقة مع الولايات المتحدة فقال: "نحن لا نتحدث عن الولايات المتحدة بصفتها عدوة"، لكنه دعاها الى مراجعة سياستها في المنطقة". وعن تطبيق الشريعة في مصر قال: "إن مبادئ الشريعة هي أهم مصدر للتشريع في مصر كما ورد في الدستور"، وشدد على إيمان "الإخوان" بالمساواة بين المرأة والرجل، وبالمساواة بين أبناء الأقليات.
لذا، يمكن اعتبار سيناريو وصول أو إيصال "الإخوان" الى الحكم -كما هو متوقع- الاحتمال الأنسب بالنسبة للولايات المتحدة، إذ يرجح في حال تم ذلك أن تزداد الحساسيات مع الأقباط، ما سيعزز الخطة الصهيو-أميركية بتقسيم مصر طائفيًا من خلال إقامة مصر "إسلامية إخوانية"، وأخرى قبطية، هذا فضلا عن تعمق علاقات مصر "الإخوانية" مع إيران.
تلك كانت النتائج الأولية لسقوط نظام "مبارك"، ويمكن حصر أشدها خطورة بتعاظم النفوذ الإيراني وحلفائه من "الإخوان"، والفتنة الطائفية بين المسلمين والأقباط، تلك الاعتداءات الكريهة والطائفية البغيضة التي تديرها السياسة الصهيو-أميركية القذرة بما تقوم به من دعم لبعض الجمعيات المشبوهة سواء التي تنسب نفسها الى المسلمين أو الأقباط.
لسنا ضد "الثورة المصرية" في بعدها المطلبي والمعيشي والحقوقي وما يندرج فيه من تعديل للدستور وإطلاق للحريات ومحاسبة للفاسدين واجتثاث للفساد، ولا يفهم مما تقدّم أننا نؤيد فساد نظام الرئيس المخلوع أو ديكتاتوريته، وإنما نؤيد ضبطه لتلك المخاطر ووعيه إياها وحرصه على مصر موحدة وآمنة من تدخلات "ولاية الفقيه". ومن هذا المنطلق كان الأفضل -من وجهة نظرنا- الاكتفاء بتعديل سلوك النظام مع شعبه لا بإسقاطه تمامًا ولا سيما بعد استجابته لمعظم مطالب الثوار الذي ترجمه صراحة في خطابه الثاني، وهو ما يعني أننا أقرب الى شباب الثورة الذين اعتبروا بعد الخطاب الثاني أن الحركات الاحتجاجية حققت أغراضها بعدم استمرار نظام "مبارك" في الحكم، وأننا أبعد بأشواط طويلة عمن أصروا على التظاهر في "ميدان التحرير" حتى "الرحيل الآن" وفي مقدمتهم جماعة "الإخوان المسلمين" التي تتحضر لوراثة النظام السابق عبر صناديق الاقتراع وبفعل خطوات "المجلس العسكري" المتسرعة.
يجب أن نعلم أن الأحداث الطائفية والإرهابية المتفرقةَ الأليمة التي تشهدها مصر منذ سقوط نظام "مبارك" أو حتى قبل ذلك التاريخ، ما هي إلا حلقات مترابطة في سلسلةٍ هادفة الى تقسيم المنطقة وفق "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، يعلم حقيقتها جيدًا من رسَمَها ويقف وراء تنفيذها، بهدف وزرع مناخات الكراهية والتجزئة في مصر، لإخضاعها للإملاءات والشروط الخارجية في قضايا عدة، ليس آخرها أو جديدها فقط فرض تَخلي مصر عن جزء من أرضها في سيناء لنقل الفلسطينيين إليها، وإقامة الدولة الفلسطينية في غزّة الكبرى عوضًا عن فلسطين، واغتيال القضية الفلسطينية، وترسيخ يهودية الدولة في إسرائيل... نقول ذلك رغم الجو الإيجابي الذي نتج عن المصالحة بين حركتي "فتح" و"حماس" والتي تمت برعاية مصرية وجرى التوقيع عليها في 3/5/2011، وهي مصالحة لا نعلّق عليها آمال كبيرة لأن الطرفين المتضررين منها هما إسرائيل وإيران اللذان يشكلان حقيقة محورًا واحدًا في المنطقة، وكلاهما سيعمل على إفشال المصالحة مستغلا نفوذه وعلاقاته بالحركتين المتصالحتين (الأول بـ"فتح" والثاني بـ"حماس").
الرهان اليوم على وعي الشعب المصري في إسقاط أهداف المؤامرة بجميع تفرعاتها الإيرانية والطائفية والتقسيمية، وعدم الوقوع في فخ يريده المجرمون الحقيقيون المخططون لتلك الجرائم الطائفية.
وإننا إذا نظرنا في التقارير التي تصدر عن الحريات الدينية من المنظمات الحقوقية الممولة أميركيًا في مصر،‏ سنجد ملامح بقية المشروع الذي يطمح في قيام منطقة حكم ذاتي للنوبيين وأخرى للمسيحيين، وتفتيت بقية الشعب الى سنة وشيعة وبهائيين وقرآنيين‏‏!!
نقول ذلك على أمل أن يفكر المصريون طويلا ويتأملوا مليًا في المرحلة الجديدة التي دخلتها بلادهم، فيعوا الخطر الذي يحوم فى الأفق ولا يلتفت إليه كثيرون تحت نشوة "فرحة الانتصار"، وإلا فإن التنكر أو الاستخفاف بالدورين الإيراني والأميركي في اندلاع الثورة ومحاولة التحكم بمسارها، قد يجعل القوى الشبابية والمدنية تشاهد حلمها يتبخر وترى ثورتها تخطف وتصادر وتفرغ من مضمونها على أيدي رجال إيران وعصابات الفتنة الطائفية التي لاتفقه من مبادئ الإسلام ولا المسيحية شيئًا!
والى أن تنجلي الأمور، عيننا على السياستين الأميركية والإيرانية تجاه مصر، كما على تحركات "المجلس العسكري"، و"الإخوان المسلمين" وحلفائهم ممن يسمون أنفسم "سلفيين"، وفلول النظام السابق، والحركات الشبابية، والأحزاب والائتلافات الجديدة، وحوادث الفتنة الطائفية، وما ستفرزه صناديق الاقتراع في الانتخابات النيابية والرئاسية وما سيترتب عليها من تبعات ومفاعيل، فمستقبل مصر لم يتضح بعد، و"ثورة 25 يناير" لا تزال مستمرة...
عبدو شامي
 
الثورتان الليبية واليمنية موضوع الحلقة التاسعة من هذه السلسلة.





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !