زيارتي الثانية في خلال ثلاثة أشهر، والثانية بعد أحد عشر عاماً، لكنها هذه المرّة عائلية يكاد ابني الأصغر ناصر(12 عاما) لا يصدق أنني أسبح معه في الميناء الشرقي بجوار نادي الكشافة حيث تـُلقي المراكب بمخلفاتها فتطفو طبقة من الزيوت على السطح، فأنا حـُرٌّ في مسقط رأسي، ورأس مبارك تـُطل من بين ولديه الواقفين أمامه في قفص، وتسمع الأرضُ والسماوات العـُلا ردَّه علىَ المستشار أحمد رفعت: حاضر يا أفندم!
مصر كبيرة فصغارُها أجبروا مَنْ بيدهم الأمر والنهيّ على إحضار الطاغية بـِفراشه، وإصبعه في أنفه ليتمدد أمام الدنيا كلها بعدما مدّد لنفسه، زمنا ومكاناً، سـُلطة لم ينقصها إلا هامان ليبني له صرحا لعله يطـّلع إلىَ إلــَه المصريين.
ومصر صغيرة وهي لا تستطيع أن تـُسرع في مُحاكمةٍ عاجلة، فتـُسارع في طلب أعجل لتسترد مليارات نهبها الأوغاد من جيوب أبناء شعب يعيش ثلثه تحت خط الفقر، وثلثه الثاني ملامساً لخط القهر.
مصر كبيرة فقد جعلت قفص الاتهام كأنه قفص للقرود، وعادت روح 25 يناير إلى السلطة القضائية، وحل صوت واثقٌ محل المطرقة، وبدتْ قاعة المحكمة نسخة مصغرة من ميدان التحرير، ولم يعد مبارك الرئيس الذي تنحى، لكنه الغاصب الذي رفع المصريون الأحذية في وجهه، وعاد الحادي عشر من فبراير يُحلق فوق رؤوس الحاضرين في جلسة كتابة تاريخ جديد، فالخمسة آلاف سنة من عمر أم الحضارات تنحني احتراما للثالث من أغسطس 2011.
ومصر صغيرة وأبناء العبور والميدان لا يعرفون أن الوطن أيضا دين، وأن الخطأ والصواب لا يستغني عنهما الحلال والحرام، وأن المظاهر الخارجية هي سباق في التجمل، ومباراة في التمثيل، فإبليس يستطيع أن يعتلي المنبر ويلقي خطبة الجمعة أو عظة الأحد ويبهر مستمعيه، ويزعم أنه من الفرقة الوحيدة الناجية من النار، ويسرق ثورة شبابية أعادت مصر إلى خريطة العالم فيستبدل بها شعارات مخلوطة ببهارات إيرانية وتوابل حماسية وتفسيرات ترابية بشيرية ثم يقوم بعجنها بأوراق صفراء مضت عليها قرون طويلة لتنتقل طالبان إلى سلوكيات شعب رواه النيل بالتسامح، وغزاه وغذّاه الكفيل بالتطرف والتشدد!
مصر كبيرة بعدما نزعت الخوف من صدور أبنائها، وتعلمت أن الغضب للكرامة هو القيمة الكبرى في الحياة، فطاردت حيتان النهب والهبر والتصفية والقتل والفساد فوقفوا في صف طويل، أوَّلـُه في طـُرة، ومنتصفه يختبيء خلف زعم تأييد الثورة، وآخره يتنقل في بلاد تعيش مصارفه على من مصّوا دماء شعوبهم.
ومصر صغيرة، وتم اغتيال اللغة العربية في قاعة محاكمة السفاح، واكتشفنا أن تلاميذ المرحلة الابتدائية أرقى في ضادهم من المحامين في محكمة العصر، وقد تراجعت الفنون والآداب، وأزاح الدف عبقرية آلات تسبح بحمد الجمال فجعلها السنباطي وعبد الوهاب وبيتهوفن وموتسارت وأبو بكر خيرت ودفورجاك وموستاكي وثيودوراكيس وعمار الشريعي تدخل النفوس والقلوب والأفئدة لتصنع الحب والثورة والتمرد والمقاومة و .. الحياة!
مصر كبيرة وقد خرجت عن بكرة أبيها بملايينها في جنازة وعرس: أما الجنازة فكانت في نهاية سبتمبر 1970 رغم الهزائم والأوجاع والنكسات فناصرُها فارس سقط عدة مرات، وأخذت الجماهير بيده في كل مرة لتنهض به من جديد، وأما العرس فكان للمصريين كلهم، إلا قلة من المنتفعين والحمقى والوصوليين، وقد زيـّن كل شبر من أرض الكنانة، وأصبحت كل الميادين نسخاً مصغرة من ميدان التحرير!
ومصر صغيرة عندما تزعم كل جماعة وفرقة وأصحاب مذهب ومؤسسو حزب ونجوم فضائيات أن الله، عز وجل، منحاز إليها فقط، وأن الآخرين حثالة البشر، وأئمة الكفر، فيتم صبغ المجتمع بدهان مستورد جاء به مصريون ضربهم الكفيل على قفائهم، ووضع في رحالهم بضاعة مزجاة، فاستبدلوا بالحصري وعبد الباسط والبنا والمنشاوي وعبد العظيم زاهر والشعشاعي وشعيشع والطبلاوي ومصطفى إسماعيل أصواتً أخرى لا تعرف أصول القراءة ولا ترى فارقاً بين الحشرجة والسـُعال أو بين الحنجرة وحبل الغسيل، وجعلوها تصرخ في المحلات والمولات وسيارات الأجرة العرجاء ومكبرات صوت ذبذباتها صياح ديكة مريضة!
ومصر كبيرة وهي تلهم المنطقة بربيع ثورات يمتد من صنعاء والحديدة وأبين وعدن ويمر على دير الزور ودرعا وحمص واللاذقية ويقاوم الطاغية البهلوان في زليطن ومصراتة وبنغازي استعدادً لدك العزيزية على رأس سفاحها المهرج.
ومصر صغيرة وهي لا تستطيع أن ترفع القمامة من شوارعها، ولا تخرج مليونية تطالب بجعل كل شارع وحارة وزقاق وزنقة مكاناً طاهرا للسجود، وأن تجند صلاة الجمعة وقداس الأحد لإقناع المؤمنين أنه لن يدخل الجنة من ينام وأمام بيته أو محله قمامة حتى لو لم ترسل الدولة له صندوقاً يعينه على إزاحة وإزالة الفضلات.
مصر كبيرة في كل جمعة مليونية تطالب بالمزيد من الحرية والكرامة ومحاسبة قتلة شباب الثورة ولف حبل المشنقة حول عنق مبارك والعادلي وجمال وعلاء ويوسف والي ويوسف بطرس غالي وحسين سالم وصفوت الشريف وزكريا عزمي وفتحي سرور وأحمد نظيف و .. عشرات من أعداء شعبنا الذين هزّوا ذيولــَهم لكبيرِهم، ولوّثوا أنيابــَهم بدماء أبرياء جل ذنبهم كان المطالبة بكرامة أعطاهم الله إياها فصادرها كلاب القصر لحساب سيد القصر و.. نجليه.
ومصر صغيرة وقد هجرت الكتاب والعلوم الإنسانية وقيم التسامح والشرعة العالمية لحقوق الإنسان، ورفعت شعارات غريبة علينا تزعم أن اللحية ستتولى تفسير الدستور، وأن من رفض الثورة في مهدها، وتذبذب في منتصفها، وانحاز إليها في نهايتها، وسرقها بعد نجاحها هو صاحب الحق السامي في الخلافة، وأن مبدأ بوش الابن( من ليس معنا فهو علينا) تحول إلى من يتردد في تطبيق الشريعة وفقا لتفسيرات الجماعات إياها وأمرائهم إياهم فالسيف أصدق إنباءً من الكتب!
مصر كبيرة وقد جعل صغارُها من الشباب كبارَها من حملة النسور والنجوم على الأكتاف يتعلمون الحديث المهذب من جديد مع المصري، فكريم العنصرين قادر على الغضب، وكل طفل مصري ينتقل من مرحلة الطفولة إلى المراهقة، وعندما ينضج ينام ليلتين في خيمة بميدان التحرير أو ميدان سعد زغلول، ثم يصيح بمطالبه فتصطك أسنان كبار كنا لا نجرؤ على النظر في عيونهم أو المرور أمامهم!
ومصر صغيرة إذا وافقت الثورة الرائعة المجيدة على انتخابات مجلس الشعب بتلك الصورة المتخلفة والهمجية والبلهاء التي تسمح بنظام الدوائر وأصحاب المال ورافعي لافتات دغدغة المشاعر، فينتخب أهل الدائرة عدة مرشحين لا يمثلون مصر ثقافة وفكرا وعلماً وإحاطة بهمومها وقضاياها ومواجعها، فنستبدل بمصفقي العهد البائد مصفقين على طراز جديد. ونظام الدوائر هو عدو مصر الأول، وإذا تم ستعود روح مبارك لتحلق فوق رأس فتحي سرور الجديد، ويعود الوطن إلى المربع صفر ( طرحت رؤيتي في مقال مجلس الشعب الذي أحلم به ومقالات أخرى )!
ويبقى الخطر الأكبر الماثل أمام المصريين في مستقبلهم الموعود في ادعاء قوى التزمت والتطرف والتشدد أنها استدعت خالق الكون العظيم ليشهد لها، ويقف في صفها، وأن من ليس معها فهو علماني وملحد وكاره للإسلام ومتعاطف مع الكفار ومنحاز للغرب وعميل لإسرائيل وجاهل بأصول الدين وخصم لدولة الخلافة التي سيأتيها الكون كله صاغراً مستضعفاً جاثيا على ركبتيه أمام أمير المؤمنين!
تلك هي خلاصة رؤيتي في زيارة ثانية احتفلت خلالها بأحد أهم أعياد قلمي الذي كتب عام 2003 وقائع محاكمة الرئيس حسني مبارك، فجلست بعدها بثمانية أعوام في الإسكندرية أمام الشاشة الصغيرة أشاهد الطاغية يضع إصبعه في أنفه بعدما وضعه في عيوننا ثلاثين عاماً جرداء، قاحلة، فصَمـْتـُنا عدونا، وغضبــُنا إيماننا الكبير بالوطن.
إنها مصر التي يرفعها عشاقها إلى الأعلى، ويحاول المهووسون جرَّها إلى القاع!
إنها مصر الكبيرة و .. مصر الصغيرة، وخياري دائما الأول حتى لو كانت الأغلبية مع تقزيمها، وتحجيمها، وتصغيرها، وإعادتها إلى الدور الثانوي!
إنها الحب الأول والأخير، وثوارها الشباب يحتاجون إلى التطهر بها مع انبلاج كل فجر جديد حتى يطهروها من آخر الفراعنة.
وسلام الله على مصر
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 9 أغسطس 2011
Taeralshmal@gmail.com
التعليقات (0)