مصر فرعونية أم عربية ؟! ..
للإجابة على هذا السؤال نتوجه إلى ذلك القادر على أن يخوض بنا التاريخ والجغرافيا والصحارى والفيافي وعلوم الأجناس والطبيعة والسياسة ليضع أيدينا على على الحقائق الناصعة التي لا شية فيها ..
(مصر فرعونية أم عربية)؟
تحت هذا العنوان انطلق العلامة الأشهر والمؤرخ الجغرافي الأخبر الراحل الدكتور جمال حمدان في موسوعته الرهيبة المبهرة (شخصية مصر .. دراسة في عبقرية المكان) ليطوف بنا عبر مراحل التاريخ ويجلو العلاقة الضابطة والوشائج الرابطة بين مصر وعالمها العربي ليؤكد في النهاية أن مصر (عربية الأب) (فرعونية الجد) وأنه لا يجوز إحداث ثمة خلل في هذا النسب أو استبداله أوتغييره أو التجاوز فيه ..
وتعالوا بنا لنقرأ له ..
تلك الاستمرارية المادية التي تسود التاريخ المصري لاينبغي إذن أن تغفلنا عن ذلك الانقطاع الهام للغاية في الناحية اللامادية.. في الحياة الثقافية والروحية.. التعريب والإسلام ..
وصحيح أن الانقطاع لم يكن بالمعنى "الجنسي" بقدر ما كان بالمعنى الحضاري ..
وصحيح أن التعريب – وأكثر منه التبشير بالإسلام- مضى أبطأ وأقل مدى في مصر منه في بلد كالعراق الذي هو أقرب موقعاً إلى البلد الأم وأدخل موضعاً للبدو والرعاة.. ولكن هذا الانقطاع يظل أعظم حقيقة في تاريخ مصر الثقافي والروحي, ويمثل نقطة تحول حاسمة وخط تقسيم في وجودنا اللامادي . ولابد أن ندرك أن إهمال هذه الحقيقة أو الاهتمام بها قد أصبح له مغزاه السياسي الخطير..
فهناك من يحاول أن يبالغ في جانب الاستمرارية في كياننا لا ليبرز أصالة ما ولكن ليقلل من جانب الانقطاع , وبالتالي ليضخم في البعد الفرعوني في تاريخنا فيبعدنا بذلك عن عروبتنا ويطمس معالمها..
هم يفعلون ذلك حين يتساءلون في كلام له خبئ ( فرعونية أم عربية) ؟ .
ونود أن نضيف "بين قوسين" إنهم قد يخفون نفس السؤال وراء قضية أخرى جديدة هي المقابلة بين الوحدة العربية والوحدة الإفريقية , فهم يرتبون على المقدمات السابقة أن مصر "ليست عربية ولكنها مستعربة" ." ليست عربية ولكنها متكلمة بالعربية" " ليست عربية ولكن أشباه عرب" ..
لقد اندثرت كلمة "المستعرب M ozarabe "" في المغرب الأوربي ومعه , ولكن هناك الآن من يبدو أنه يعمل لبعثها في المشرق العربي!.. والهدف من كل هذه الدعاوى هو دائماً تخريجات سياسية واضحة ترمي إلى التشكيك في عروبة مصر وبالتالي إلى عزلها عن العالم العربي..
ونبدأ فنقول إن مصر لم تكن الوحيدة التي أثير حولها هذا الجدل ,
فالسودان وصف بأنه إفريقي وليس عربياً..
والمغرب زعموا أنه بربري لا عربي,
وقيل إن لبنان حيناً والشام حيناً آخر فينيقي أو سوري وليس عربياً..
والعراق كذلك لم ينج من الاتهام.. بمعنى آخر أن كل أجزاء العالم العربي خارج الجزيرة العربية دمغت بصورة أو بأخرى بأنها ليست عربية ولكنها مستعربة على أساس أن السكان قبل التعريب لم يكونوا عرباً "جنسياً" .
ولكن هذا الأساس ينهار من اللحظة التي يتطلب فيها "عروبة جنسية" فالعروبة مضمون ثقافي لا جنسي أولاً.. ومع ذلك فكل الغطاء البشري الذي يغطي ما يعتبر الآن العالم العربي هو أساساً فرشة واحدة من جذر واحد.. وعلى الأقل فإن الاختلاط والانصهار الدموي بين العرب الوافدين والسكان الأصليين حقيقة تاريخية بعيدة المدى..
على أن الذي يكشف خواء المناقشة من أساسها ويجعلها جوفاء حقاً إنها تمثل معطف مزايدة وهروب.. ففي عقر دار العرب ستظل تجد " العرب العاربة" و"العرب المستعربة" ! .. ولكنا لانسمع من يقول إن عرب الشمال ليسوا عرباًُ ولكنهم متكلمون بالعربية .
ولا ندري إلى أي مدى يمكن المضي في تجريد جزء آخر من العرب العاربة بدورها من أصالتها..
والواقع أن هذا المنطق من شأنه أن يجعل العرب كالأمريكيين.. فهو يخلق في الذهن لنا في مصر شعبة فرعوبية ( فرعونية- عربية) . وفي العراق شعبة أشوربية (أشورية- عربية) .. إلخ!! وكل هذا يتجاهل أم أكثر من ثلاثة عشر قرناً تجمع بين الجميع في إطار واحد يجب مثل هذه العرقية الشعوبية..
وهو أكثر من هذا يتجاهل أن العروبة نقيض الأمريكية تماماً في أصولها.. فالأخيرة نشأت من هجرة أجزاء من شعوب متنافرة لتتصاهر وتنصهر معاً في بوتقة وطن جديد عبر المحيط, بينما أن العروبة قامت من هجرة جزء من شعب واحد لتتصاهر وتنصهر مع شعوب متباينة في أوطان قديمة متلاصقة .. الأولى تحولت إلى أوربا الصغرى بينما خلقت الثانية بلاد العرب الكبرى .
أين الحقيقة إذن في عروبة مصر؟ .. أين هي من الفرعونية القديمة؟..
أهناك حقاً فارق بين نوع العروبة شرق السويس وغربها كما يزعم بعض الدعاة؟! .. ثمة عدة حقائق .
فإذا بدأنا من البداية فإن أول ما يجبهنا هو أن الفرشة الجنسية الأساسية التي كانت تغطي نطاق الصحارى في العالم القديم من المحيط إلى الخليج كانت الصحراء تنتمي إلى أصل واحد متوسطي . وفي العصر المطير حين كانت الصحراء سافانا يسودها صيد الحجري القديم , كانت كثافة السكان مخلخلة جداً ولكنها كانت غطائية عالمية بصفة عامة , وفي هذا الإطار كانت الهجرة والترحل ظاهرة دائمة , ومن ثم كان الاختلاط الجنسي أساسياً ولامحل لعزلة أو نقاوة ما.. وكل الذي حدث بعد ذلك مع عصر الجفاف أن تجمعت كل مجموعة من هؤلاء السكان في رقعة محدودة, وبذلك تحول الغطاء العالمي إلى الأرخبيل الجزري الذي نعرفه الآن..
ومعنى هذا أنه حدث "تقطع" في الغطاء القديم المتجانس جنسياً إلى عدة رقع متباعدة جغرافياً ولكنها تظل متجانسة جنسياً .. وهذا بالدقة مفتاح انثروبولوجية عالمنا العربي. فشعوب المنطقة – قبل العرب والإسلام- هم أساساً وأصلاً أقارب انفصلوا جغرافياً , ابتداء من العراق إلى الشام إلى الجزيرة العربية ومن مصر إلى المغرب أو السودان .. والتوطن المحلي والمؤثرات الداخلية الموضعية والتزاوج الداخلي الذي حدث بعد ذلك , لايمكن أن ينتج أكثر من ابتعادات محلية ضئيلة لاتغير من وحدة الأصل الدموي وتجانس العرق في كثير, وإن تطورات اللغات والألسن ما بين سامي وحامي, ويظل العالم العربي أو بيت العرب الجغرافي الكبير هو "دوار العرب" . بمعنى الأسرة الموسعة التي تضم عدة أسر نووية أو خلوية .
هذه واحدة..
أما الثانية فحقيقة تاريخية تؤكد السابقة وإن كنا نغفل عنها دائماً.. نحن نعرف – دينيا وتاريخيا- أن إسماعيل هو أبو العرب العدنانيين.. ولكنا نعرف أيضاً أنه ابن إبراهيم العراقي من هاجر المصرية . وإذا كان لهذا أي معنى أنثروبولوجي , فهل يمكن – أليس كذلك؟ أن يكون إلا شيئاً واحداً, وهو أن العرب أصلاً أنصاف عراقيين أصاف مصريين؟..
قد يبدو هذا للوهلة الأولى تخريجاً ثورياً.. ولكنه منطق أولى للغاية . وكم يبدو غريباً أن يلح من يلح على أن العرب واليهود "أبناء عمومة" لأن إسحق أبا اليهود أخ غير شقيق لإسماعيل أبي العرب. بينما نتغافل عن علاقة الأبوة والبنوة بين المصريين والعرب , فضلاً عن العلاقة غير المباشرة بين المصريين والعراقيين , على نفس الأساس..
وتأسيساً على هذا , فهل يكون تعريب العراق أومصر فيما بعد إلا عملية زواج أقارب مباشرة, ولا نقول نوعاً من التلقيح الذاتي أو الزواج الداخلي على نطاق جغرافي عريض؟
وثمة بعد هذا حقيقة لغوية تؤكد علاقة القرابة ..
فالثابت المحقق الآن أن اللغة المصرية القديمة – وهي حامية تصنيفاً- كانت تشمل نسبة هامة من المؤثرات والكلمات السامية , وقد أثبت البعض اشتراك أكثر من عشرة آلاف كلمة بين المصرية القديمة والعربية حتى ليعتبرها بعض الفيلوجيين لغة انتقالية بين الحامية والسامية.. فمن الثابت كذلك أن عرب الجزيرة لم يكفوا عن الخروج منها والتدفق على مصر أو التسلل إليها طوال التاريخ المكتوب وقبله.. ومن المتفق عليه بعامة أن مالم يسجل التاريخ أكثر مما سجل من موجات سامية قديمة إلى مصر.. وكانت صحراء سيناء وأطراف الدلتا بالنسبة لهم منطقة انتقال وتأقلم إلى أن يتم اندماجهم وتشربهم..
ومعنى هذا بوضوح أن تعريب مصر سبق في بدايته الفتح العربي والعصر الإسلامي , وأنه قديم في مصر مثلما كان قديماً في السودان , وإن كان الفتح نفسه هو الخطوة الحاسمة..
ولعلنا الآن , بعد هذه المؤشرات والمفاتيح , بحيث نستطيع أن نحدد حقيقة تعريب مصر ,
فحين التقى العرب بالمصريين وتصاهروا واختلطت دماؤهم , لم يكن ذلك في الحقيقة إلا لقاء أبناء عمومة أو أخوة في المهجر.. أو هو كان لقاء آباء بأبناء أو أجداد بأحفاد , وقد يكون الأصح أن نقول – إعادة لقاء- بعد أن باعدت بينهم الصحراء التي استحدثها عصر الجفاف .. وإذا كانت قد تبلورت بعض ابتعادات ثانوية أو تعديلات جسمية مكتسبة على المدى التاريخي والبعد الجغرافي , فقد جاءت الموجة العربية- في مصر كما في غيرها من البلاد العربية- أشبه بعملية "خض" أو تقليب عميق لجزئيات متماثلة أصلاً , تعيد مزجها حتى لا تتخثر أو تتحجر.. والمد العربي بهذا وبنتائجه يبدو- في معنى- كما لو كان عوداً إلى نمط العصر المطير , حيث نشر العرب مؤقتاً شبكة غطائية متجانسة على وجه المنطقة جميعاً ..وصلت ما انقطع وأعادت تأكيد الوحدة الأولية..
وانطلاقاً من هذا مرة أخرى, يمكن أن نصفي بعض المتناقضات التي تبدو على السطح في العلاقة بين الفرعونية والعروبة ,
فإذا صحت دلالة السند الديني عن الجانب المصري في أصل العرب, فقد عاد العرب بدورهم ليعطوا مصر جانباً عربياً في أصلها , عادوا ليعطوها أبوة جديدة , فالعلاقة الدموية إذن علاقة متبادلة على التعاقب والتناوب , والكل فيها في النهاية مضاف ومضاف إليه أكثر منه فاعلاً ومفعولاً به ..
ولكن لما كان العرب هم الأب الأخير في السلسلة , فإن القول بأن مصر فرعونية أصلاً عربية مصاهرة قد يكون منطقاً (جاهلياً) – منطق ما قبل الإسلام يعني- ونوعاً من الردة التاريخية تنسب الابن إلى الجد دون أبيه, أو قبل أن تنسبه إلى أبيه. وإنما الصح أن نقول إن مصر الفرعونية بالجد عربية بالأب , وكل من الجد والأب من أصل واحد أعلى مشترك.. غير أن العرب هنا وقد غيروا ثقافة مصر , هم "الأب الاجتماعي" في الدرجة الأولى , وليسوا "الأب البيولوجي" إلا في الدرجة الثانية حيث كانوا بالضرورة أقلية عددية بالقياس إلى المصريين ..
ولنفس هذه الأسباب يمكن أن نفهم لماذا يقال إن العرب إذا كانوا قد عربوا مصر ثقافياً , فإن مصر قد مصرتهم جنسياً. فأما تعريب مصر ثقافياً فـأمر لا يحتاج إلى تفسير , وأما تمصير العرب جنسياً – الذي قد يبدو مناقضاً للأصل الجنسي المشترك الواحد بين الجنسين- فليس في الحقيقة إلا من قبيل تغليب الأغلبية العددية على الأقلية دون أن يعني فارقاً أساسياً في ألأصل والنوع بين الطرفين .. وعند هذا الحد من المناقشة يمكن أن ننظر إلى الفرعونية وغيرها من دعاوى الرجعية التاريخية والوطنيات الضيقة كالفينيقية والآشورية .. إلخ من زاوية جديدة ومنظور علمي, لا شك أن المقصود بمثل هذه الدعوات نفي القومية العربية ونسخ العروبة ومضاربة القومية الشاملة بالوطنية المنغلقة . وهي مرفوضة ابتداء ودون مناقشة..
ولكن من الناحية العلمية . ينبغي أن ندرك أنها إنما تقوم على الجهل وحده , وإنها في الحقيقة سلاح مفلول يرتد إلى صدور أصحابه , فهم لايدركون أنهم إذ يهربون من الحاضر القومي الواحد , ويرتدون إلى وطنياتهم الشعوبية القديمة البائدة ليعتصموا بها منه , فهم عبثاً يحاولون الإفلات , ولا يثورون عليه إلا ليقعوا ثانية في دائرته المحيطة الغلابة..
فكل هذه الوطنيات هي – أصلاً وقبل العرب- أجزاء لا تتجزأ من أصل واحد مشترك قديم , وكانوا جميعاً أقارب بمثل ما أن أصحابها اليوم وبعد العرب أقارب, وفي النتيجة فإن دعاواهم الشعوبية الضيقة فاشلة علمياً في الإفلات بهم من العروبة, أما كل ما تنجح فيه عملياً فهي أن تصمهم بالحفرية والتحجر والردة التاريخية التي تضع الماضي الميت قبل واقع حاضر حي ينبض..
أما بعد ..
وعملاً بقوله تعالى (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) .. فقد أكد العلامة الخبير / جمال حمدان للموتورين والمهزوزين والمذبذبين ومن بقلوبهم مرض .. أكد لهم على أن مصر عربية.. عربية .. عربية..
(المصدر .. موسوعة شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان.. تحت عنون " فرعونية أم عربية " للعلامة الراحل الدكتور جمال حمدان)
التعليقات (0)