(1)
يعتقد المستبدُ أنه يملك مفاتيحَ زنزانةِ الوطنِ، فيغلقها كما يشاء، ويفتحها متىَ أراد!
عندما يتأكد الطاغيةُ أنَّ كلابـَه تضاعفت أعدادُها، وبرزتْ أنيابُها، وانتهتْ من تدريبات شراستِها علىَ أيدي المُقربين منه، ينطق حينئذ بِحُكم مؤبدٍ ضد شعبِه فلا يسمعه إلا المقرّبون منه، ويقوم علىَ تنفيذِه خَدَمٌ لا يُفَرّقون بين الطاعة و .. لَعْقِ الحـِذاء!
سقط مبارك كما يسقط مريضٌ بالأنيميا الحادة إذا زاجته عمّا حوله ريح صرصر عاتية أو عاصفةٌ جليدية.
مصر بدون مبارك كانت حُلماً يُداعب أذهانَ عشرات الملايين، وكانت معجزةً في زمن خلا تماماً من المعجزات، وكانت أملا يُغرق خيالات أصحابِ الوطن السجن، فالطاغيةُ إذا التصقتْ مُؤَخرتُه بكُرسي العرش تحولتْ مع مرور الأيامِ إلىَ قطعةٍ منه فلا يمكن التمييزُ بين العرش و .. الجالسِ فوقه!
زيارةُ الوطن تبدأ قبل الوصول بوقتٍ طويل، وبالنسبة لي فقد زرتُ مصر َفي خيالي مراتٍ لا حصر لها، رغم أنني كنت من المترقب وصولهم في الأحد عشر عاما المنصرمة!
كانت أقصى أماني الكثيرين هي التخلُّص من حبيب العادلي، أو تخفيف قبضة الأمن، أو استبدال خرزانة ليّنة بكُرباجٍ لاسعٍ، أما سقوطُ الطاغية وزوجتِه وابنيهما فكان أصعبَ من ولوج الجمل في سَم الخـِياط!
كل السيئات والسوءات والسلبيات كانت هيّنة علىَ القلب، وخفيفةً علىَ الصدر، ويسيرةً علىَ النفسِ مادامت أنفاسُ مبارك لا تلوّث القصرَ الجمهوري، فمصرُ لو كانت في قبضة إبليس بنارِه وقرنيّه لأشفق بين الحين والآخر علىَ أبنائها، وترك لهم فتات ما ينهب، ولكرامتهم ذراتٍ تعينهم علىَ الحياة، ولأحلامِهم صغائرَ تجعلهم يشعرون أنَّ في الشر بعضَ الخير، وأنَّ أنيابَ الذئاب تلين أحيانا وهي تنهش في لحوم المصريين.
لم يعلن قائدُ الطائرة التي هبطت بي أنَّ روحَ حبيب العادلي غادرت المطارَ إلىَ مُعتقَل طُرَة، وأنَّ القائمةَ السوداءَ تم مَسْحُها كما يمسح هاكرز الهارديسك، لكن هدوءاً عجيباً كان يُخيّم علىَ الصالة الثالثة بمطار القاهرة الدولي!
إنه نوعٌ من الأمان تشعر به عندما تنسحب أجهزة أمن الطاغية، وتختفي تلك العيون التي كانت تبحلق في وجهِك وجوازِ سَفَرِك، فالمصري كان مُتَّهماً حتى يرضى عنه كمبيوتر المطار فيدخل مصرَ آمِناً، فإذا عاد للسفر احتقن الكمبيوتر مرة أخرى فلعل المغادرَ ممنوعٌ من السفر.
الثورات كالفصول الأربعة، بعضُها يبدأ شتاءً قارصاً ثم يتحول إلىَ ربيع، وعندما يأتي خريفُ الثورة تتساقط كل الأوراق والبيانات والوعود كما حدث مع الثورة البلشفية.
وبعض الثورات يبدأ ربيعاً كالثورةِ اليمنية في عام 1962، ثم تظل تصارع الزمهرير والرعدَ والبرقَ إلىَ أنْ يختطفها قرصانٌ قاتيٌّ، ويكتب مِلْكيتَها باسمِه.
وبعض الثورات تظل في موسم الشتاءِ، وتنتج الأعاصيرَ والفيضاناتِ، ويظن مُفَجِّروها أنها ( بعثٌ )، فإذا هي تأكل أولادَها، ثم يلتهمها زعيمُها، وأخيراً تسقط في أيدي خصومِها كالثورة العراقية.
لكن 25 يناير حالةٌ خاصةٌ يُطلق كلابُ الارهابي مبارك، قبل خلعِه، رصاصاتٍ عمياءَ في ميدان التحرير، فإذا بالثوار الصغارِ يُقيمون حفلَ زفاف، ويتحدوّن أشرسَ طاغية عرفته مصر، والأكثر لُصوصية وجشعاً وطمعاً في كل لُقمةِ خبزٍ قبل أنْ تدخل فاه طفلٍ جائعٍ، فمليارات مبارك ينبغي أنْ تزداد ولو انتزع الزيادةَ من فقيرٍ لا يملك ثمنَ وجبة العشاء.
ثورةٌ يحلُم مُفجِّروها الفيسبوكيون أنْ تظل فصولُها الأربعةُ ربيعاً، لكن الربيعَ يشترط اختفاءَ مبارك وأسرته ورجاله خلف قضبانٍ حديديةٍ بزنزانات في بطون أقبيةٍ تحت الأرض، أو يلتف حَبْلٌ غليظٌ حول أعناقِهم دَفْعَة واحدة!
فتيات في عمر الثورات الشبابية يستقبلن القادمين إلى المطار بدلا من ضباطٍ كانوا كلما ثقلت أكتافُهم بنجوم ونسور تصلبت عضلات وجوهِهم فيقفز الخوفُ في وجوه مواطنين لا يشفع لهم جوازُ سفر أخضر كوثيقة اثباتٍ أن صاحبه ينتمي لأم الدنيا.
استقبلني في المطار بعض شباب ثورة يناير، وهم في عمر أولادي، واصطحبوني إلى الفندق المطل على النيل والذي قضيت به يومين.
في اليوم الأول كنت أحاول أنْ أجمع مئات المَشاهد التي تقع عليها عيناي في مشهد واحد لعله يُدخل الطمأنينةَ إلىَ قلبي.
أينما وليّت وجهي كنت أرى أهمَ وأعظمَ وأبدعَ انجازٍ لثورةِ يناير الشبابيةِ، لقد سقط جدار ُالخوفِ كما سقط جدارُ برلين بأيدي شبابٍ كان هونيكر يقوم بزيارتِهم في أحلامِهم فتتحول إلى كوابيس.
في أحد المقاهي القاهرية التفّوا حولي للمرة الثانية وبجواري كان الأديب الكبير والروائي الرائع فؤاد قنديل، وقلت لهم بأن أهم انجاز لثورتكم الطاهرة هو انتزاع الخوف من جذوره و .. صدوركم، فصاحبُ هذا المقهى لن يتصل بأمن الدولة لابلاغهم بوجودنا.
بالقرب من ميدان التحرير كان موعدي مع بعض الشباب، وفي انتظارهم شاهدت شابين يتجادلان بصوت مرتفع، ويستخدمان ألفاظا في انتقاد كبار ما بعد الثورة مَرَّ على مصر حينٌ من الدهر كانت تلك المفردات الغاضبةُ تحجز لصاحبِها مكاناً وراء الشمس، ثم انضم ثالث، ورابع وعاشر وعشرات، وبدا هايد بارك القاهري مُتفوقا على نظيره اللندني!
عيونهم الجميلة والواسعة تشي بالاثنين معا: الأول هو الثقة بأنهم أصحاب العبور الثاني رغم أن الساتر المباركي كان أكثر تجذُّراً في التربة من الساتر البارليفي، وكلاهما احتلال، والقصر الجمهوري في عهد مبارك كان ساكنوه يتحدثون العربية بلكنة عبرية، ومصالح تل أبيب لديهم أرفع درجات من مصر .. ومن فيها.
والثاني البحث عن قائد لهم يتسلم منهم ميدان التحرير ليقوم بتحويله إلى برنامج عمل تطير فيه مصرُهم من ذيل ركب الأمم، بفضل مبارك وعصابته، إلى التحليق في آفاق التقدم والعلم والتمدن والتسامح والاكتفاء الذاتي والانتصار على الفقر والمرض والعوز والحاجة والأمية.
في مساء اليوم الثاني لوصولي قادني الشباب إلى ميدان ماسبيرو الذي كان يعج بآلاف المعتصمين والمتظاهرين والغاضبين الأقباط.
ألقيت كلمةً مرتجلة في شركاء الوطن، فقلمي يحمل همومهم لسنوات طويلة، ونشرت من قبل ( أقباطنا .. حقوقهم واجباتنا) و ( أيها المسلمون .. ماذا فعلتم بأقباطنا ؟)، وقابلني الغاضبون بتصفيق، ونداءات محبة، وصافحني الكثيرون بعد مغادرتي المنصة وألسنتهم تدعو لهذا المسلم بالرحمة والسلامة، ولم أخطيء في فهم نظرات حُب تشع من عيون كانت تبحث عن المساواة الكاملة وليست تلك التي تنتهي بــ ( نعم لحقوقهم، ولكن .. )!
عدت مرة أخرى قادما من الاسكندرية وقضيت يوم الخميس( 12 مايو) في أحضان عاصمة الثوار الصغار، واستضافني التلفزيون المصري لأول مرة في حياتي الكتابية، فقد كنت ممنوعا من الكتابة والظهور في كل وسائل إعلام مبارك.
كان قلقُ الشباب مُنصباً على محاولات سرقة ثورتهم، ولكن النفوس الكبيرة في الأعمار الصغيرة كانت تحمل عزيمةً لو قمتَ بتوزيعها على مصر كلها لفرش الأرضَ في ميدان التحرير أكثر من ثمانين مليونا لا تستثني منهم طفلا أو مُسِنّاً أو رضيعاً أو .. جنينا!
الثورة لم تنته بعد، والشباب المصري حارس أمين عليها أكثر من ادعاء الكبار أنهم الأحرص والأنضج و .. الأكثر وعيا بقضايا الوطن.
كان خوفهم من التحالف الصامت بين روح مبارك، وحاملي الموبايلات في معتقل طرة، والتجديد خمسة عشر يوما على ذمة التحقيق حتى تجد الثورة المضادة مخرجا لعُتاة الاجرام!
وكان الخوف من الانفلات الأمني، والمزايدة الدينية، والبلطجية القساة بسيوفهم ومطاويهم، وغياب ضباط الأمن، خجلا أو فزعا أو احتجاجا، فالخيل والبغال والجمال والحمير تستعد لموقعة جديدة مادامت فلول مبارك تتنفس برئتيه، ومليارات لصوصه تشتري الذمم والضمائر و المسجلين في فيش وتشبيه تم احراقه لعله يحرق مصر الثورة.
كان شباب الثورة يحيطون بي ليتعلموا مني، فإذا بي أصبح تلميذاً لديهم، فهم متنبهون لكل ذرة خيانة مختبئة في صدور بقايا نظام الطاغية، ويميّزون بين المنتفعين الوصوليين و .. وبين أطهار مصر الجدد أو .. مصر الجديدة.
أسماءٌ لم تعرف طريقَها إلى وسائل الاعلام، ولم أقرأ لها، أو أتابع مقالاتها وأعمالها، فهم طلاب وطالبات، شباب يتعلم في الميادين ثم يثور فيها.
كان معي طارق وأحمد أبو اياد والحسيني وعمرو لورد وسمير راغب وأحمد ومحمد طلعت وشريف وريهام ماجد وراضية وابراهيم وعلي بأشعاره الثورية ويتصل بهم خالد الحوت من الخارج ليبث فيهم روح الأمل ووهج الثورة.
وكان معنا أحمد أبو الفضل من مكتب رئيس الوزراء يتحدث دون خوف أو وجل، فالثورة في مكتب الدكتور عصام شرف توأم للثورة في المقهى والشارع والميدان.
حدث تناغمٌ، وانسجامٌ، والتحامٌ، وتواصلٌ، ودفءٌ بيني وبينهم بدا كأنني عُدت شاباً أو أنهم لحقوا بعمري، وشعرت بأنني أستطيع الاستغناءَ عن كبار الصحفيين والمثقفين من أجل حضور فصول دراسية في مدرسة ثورة شباب يناير، مُتحدثاً أو مُنصِتاً، مُتكلماً أو مُستمعاً!
يتعاملون مع النت كأنه يُفشي لهم أسرارَه مع كل (لوجين)، فهو ليس لتحميل الأغاني ومشاهدةِ الفيديو كليبات الموسيقية، لكنه لصناعة الثورات في الميادين، وتبادل خبرات الغضب ضد الطغاة، وفضح أعداء الشعب.
شاهدت مصر بدون مبارك، وأدعو كل المهاجرين والمغتربين والمعارضين أن يعودوا لزيارة وطنهم لتهنئة الثوار الصغار، وبث مزيد من الأمل في نفوسهم، والتقدم باقتراحات ونصائح وأفكار ومشروعات ليلتحم الخارج بالداخل.
قاموا بتوديعي في مطار القاهرة الدولي قرب انبلاج فجر الاثنين 16 مايو، وأدمعت عيناي وأنا أدخل باب الطائرة، فمصر بخير وفي أمان وأمن وسلام مادامت تلك البراعم الواعية والثورية تستطيع أن تجبر أيَّ كبيرٍ على الرحيل، وأنْ تجمع في عدة ساعات الكترونية أمام الشاشة الصغيرة عدةَ ملايين يُلوِّحون بقبضاتهم فيرسمون في القلوب عَلَمَ مصر، وفي العقول مستقبلـَها المشرق والباهر.
زيارتي الأولى ناجحة بكل المقاييس، وإلىَ المشهد الثاني عن مصر بدون مبارك كما رأيتها!
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
Taeralshmal@gmail.com
التعليقات (0)