ينتهي الطاغيةُ لكن روحَه تظل ردحاً طويلا من الزمن تُخرج لسانـَها للذين أطاحوا به، فهو كالخفاش الذي يلتصق بالوجه فلا يبرحه إلا خوفا و ..فزعاً
مع كل حُلم شعبي بعد زوال الطاغية يجند في غيابه من المشهد الوطني سبعين كابوساً، وتظل حلبة المصارعة بين الحُلم والكوابيس شاهدة على ضراوة حُكم الطاغية بأثر رجعي.
في زيارتي لمصر لم أخطيء قراءة علائم الحيرة التي عبر عنها شبابُ الثورة، وعلامات الاستفهام اللانهائية عن سبب هذا الكم الهائل من قوى النفاق والتملق والقرف والغثيان التي كانت قد اصابت الكبار والمسؤولين والفنانين والمثقفين والرياضيين، فالدولة كلها كانت في خدمة رجل واحد.
أما رموز الفن والثقافة ومعرض الكتاب وهيئات القضاء ونقابات الصحفييين والمحامين فضلا عن رجال الأعمال والدبلوماسيين وقوى الأمن وغيرهم فكانوا يركعون لمبارك، ويمسكون له السوط ليسلخ به ظهورهم، ويبتسمون في مذلة وخنوع كلما التهبت أقفيتهم، وكانوا على مرمى حجر من اعلان الطاغية معبودهم الوحيد.
كل الأشياء قابلة للسرقة، من الدنيا إلى الدين، ومن الأراضي إلى الشهادات العليا، ومن عضوية البرلمان إلى الثورة التي تطيح بكل هؤلاء.
الظاهرة الأغرب في المشهد المصري هي التملق الشديد لشباب الثورة ثم استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، فالشكر لشباب الثورة يعني الطلبَ منهم أن يعودوا إلى بيوتهم، وجامعاتهم، ويجلسوا أمام النت، ويترحموا على شهدائهم الذين دفعوا ثمن تحرير مصر من الديكتاتور الدموي اللص، فالكهول والعواجيز والوجوه التي خنعت للطاغية تعود بأقنعة جديدة!
كل من هب ودب يتمسح بالثوار حتى لو كان خادما مطيعا للطاغية السفاح، ومن تعاطف مع الشباب في اليوم الأول كمن وقف معهم في اليوم الأخير، ومن كتب كلمة واحدة على استحياء يتساوى مع من حرَّض أولاده للمبيت تحت الدبابات والمجنزرات في ميدان التحرير، فاللص وقح في كل الأحوال، ومن يسرق معاش أرملة كمن يسرق ثورة، ومن يستولي على قطعة أرض صغيرة كمن يصادر دولة بأكملها لحسابه الخاص!
حكومة ثورة الشباب بدون شباب، والعقلية القديمة تظن أن صبغ شعر الرأس، وتجديد لغة الحديث، والزعم أنها ناهضت حُكم مبارك يعني أنها جددت خلايا الجسد، واستبدلت بروح بقرةٍ روحَ غزال، وأنها أضحت الممثل الشرعي لميدان التحرير.
لو كان الأمر بيدي لجعلت ثلثي الحقائب الوزارية لشباب الثورة فهم الأقدر على النهوض بالوطن، وتجديد الأفكار، وخوض غمار التحدي من أجل مستقبل واعد لمصر الجديدة.
الشباب لتحقيق الحلم، والعجائز للتنظير في الفضائيات!الشباب لجعل مصر كلها ميدانا للتحرير، والمترهلون يمكن تحنيطهم للتذكير بعهد مضى ولن يعود بإذن الله.
مرة أخرى أعيد التذكير برؤيتي التي بسطتها في حلقات خمس، وتتلخص في قناعاتي الشخصية بأن برلمانا قادما يقوم على الانتخابات الحمقاء والمتخلفة في نظام الدوائر المعاق سيفرز تحت قبة الحرم الديمقراطي مقهىً شعبياً رواده من الغوغائيين والمتربصين بالوطن والحالمين بالثروة بعدما أنفقوا ملايين في حملات انتخابية تدغدغ مشاعر البسطاء والطيبين، وأرى أيضا أن حل مشكلة البلطجية والفتوات وأصحاب السوابق هو المدخل الوحيد لوطن آمن، وقد عرضت الحل كما أراه، وهو قابل للاضافة والحذف والتعديل ليرقى إلى مرتبة ورقة عمل عاجلة، وعرضت أيضا مشكلة اختفاء كنوز من المصريين العباقرة والموسوعيين والشرفاء الذين لا يزالون خلف الستار ينتظرون أن ترفعه حكومة الثورة وتختار منهم قيادات الوطن في ثوبه الجديد، وها هي رؤيتي الرابعة لحكومة من وزراء ووكلاء وزارات ومساعدين جلهم من الشباب تحت سن الخامسة والثلاثين شريطة ان يكونوا قد ساهموا بالفكر والروح والجسد في خلع الطاغية.
وتبقى الرؤية الخامسة التي بدونها ستلعن أرواحُ الشهداء سارقي ثورتهم، وهي أهمية المحاكمات العلنية لرموز الفساد، وتعاطي الاعلام معها، والسماح بتصوير اللصوص كما نفعل مع المجرمين وتجار المخدرات، ونقل مبارك إلى مستشفى غير مجهز تماما كما كان يفعل مع الفقراء والمساكين، والتأكيد، قولا وفعلا، أنه ورموز العفن معه قد انتهوا إلى مزبلة التاريخ، وأن لا قداسة لأحد في مصر كلها، فأي تأجيل مقصود به انتظار ملك الموت ليقبض روح الطاغية قبل أن تهبط مطرقة قاض شريف لتحيل أوراقه إلى فضيلة المفتي، ورقبتـَه إلى حبل غليظ هو تأجيل يُخفي تعاطفا مع الطاغية أو وعودا سرية بعدم عرض جرائمه على القضاء المصري.
لم ولن أفقد ثقتي في ثورة الشباب، ودعمي اللامحدود لأبطال مصر الصغار، وثقتي بهم اللامتناهية، ويقيني أن حكومة مكوّنة من هؤلاء الشجعان القادرين على الاطاحة بأعتى الديكتاتوريات ستشرق بهم شمس مصر من جديد.
متفائل بالربيع ولو طال الشتاء، وواثق أن شباب الثورة قادرون على املاء شروطهم، فلأول مرة في التاريخ الحديث يرفع المصري رأسه، ويعود العالم كله لينهل من الحضارة المصرية، لكنها هذه المرة ليست من باب ملوك الفراعنة وتخليد موتاهم، وإنما من ميدان التحرير وثوار مصر الشباب وتخليد الحياة والحلم والأمل.
الثورة لا تنتهي بين عشية وضحاها، ومخلفات القمامة قد تكون أضعاف القمامة نفسها التي أفرزها قصر الطاغية، وتنظيف الوطن من كلاب مبارك يعادل نجاح 25 يناير وروعة 11 فبراير.
إذا مات مبارك قبل صدور حكم عادل يشفي غليل المصريين فسنندم جميعا على صمتنا بعد ازالته تماما كما صمتنا ثلاثين عاماً، فالأولوية لحُكم العدالة بدون تأجيل، ووثائق الادانة لو وقفت متراصة في أسوان فلن تنتهي قبل بلوغ الاسكندرية، والمساحة السرية في صور ولقاءات وحياة يومية لرموز النتن لنظام الحكم البائد لاتزال تحت الرقابة الصارمة كأن الثورة قامت لاخفائهم وعزلهم وليس لمحاكمتهم على جرائم يندى لها جبين الإنسانية.
وأخيرا يبحث أبطال ثورة الشباب على مصري يستحق تاج التحرير ليرشح نفسه، وتخرج مليونية تضم إليها عشرين مليونا أو أكثر في طول مصر وعرضها لتأييده حتى لو كان شاباً صغير السن، ككل الثوار الذين أطاحوا بالطغاة، لكن مزاد الرئاسة لا يتناسب ولا يتلائم ولا يرقى لمرتبة انتخابات العمدة في قرية مجهولة، وأكثر المرشحين لانتخابات سيد القصر الجديد كانوا مادحين للطاغية، أو صامتين على فساده، أو لاعقين لحذائه، أو أرانب في حضرته.
أحب مصر حباً جماً، وأخاف على ثورتها الشابة من لصوص محترفين يدخلون كل مغارة بكلمة سر مختلفة عن افتح يا سمسم، ولا أرى حلمي في أي واحد من المرشحين، يمينا أو يسارا، معتدلا أو متطرفا، سلفيا أو اخوانيا أو نجما فضائيا، فمصر كما أراها أكبر من كل هؤلاء ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً!
من كان يرى مصر صغيرة فليذهب إلى صندوق الاقتراع لاختيار واحد من هؤلاء، ومن يراها أكبر منهم جميعا فلينتظر حتى تفرز ثورة الشباب الزعيم الحلم.
وسلام الله على مصر
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 27 يونيو 2011
Taeralshmal@gmail.com
التعليقات (0)