بقلم// زيد يحيى المحبشي
23 مايو /أيار 2011
الثورات كالحروب، تظل امتداداً للسياسة، ولكن بوسائل أخرى، ولذلك تستمر الثورة المصرية، ويحتدم الصراع السياسي بين القوى التقليدية وقوى الحداثة المدنية, وبين دعاة التغيير الشامل ودعاة التغيير المؤطر, وسط حالة مخيفة من الانفلات الأمني والشرخ الطائفي والفوضى الضاربة في كل مكان والثورة المضادة الضارية والاستقطابات الحادة حول: محاكمة مبارك وأسرته, وطبيعة الدولة الوليدة، وملامح النظام السياسي الجديد، وفي قلب أحداث الثورة والصراع على المستقبل, وفقاً لذلك تتشكل ملامح مصر الجديدة, ببطء شديد ورتابة قاتلة.
أحلام ومخاوف لا تنتهي
هكذا بدت صورة مصر الجديدة, وهي تلج أعتاب المئوية الثانية, ذلك أن ثورتها الشعبية جددت الأحلام والمخاوف معاً وأنزلت الهواجس محل الأفكار، بعد أن كانت النشوة والأمل تتصدر عناوين المئوية الأولى, أحلام التحول الفعلي والجاد نحو الديمقراطية الحقيقية, وسط بيئة عربية غير مشجعة, واستنفار إسرائيلي وأميركي وحتى عربي غير مسبوق, تحسباً لما قد يحمله ربيع مصر من تحولات قد تقلب كل المعادلات القائمة في المنطقة وتخلط كل الأوراق, لاسيما إذا أتت متناغمة مع تطلعات وطموحات الشعب المصري, ومخاوف الانتكاسة ومعاودة اجترار الماضي بكل مساؤه.
وفي كلا الحالتين, لا يمكن تجاوز أو تجاهل وزن وأهمية مصر بين دول المنطقة من الناحية الجيوستراتيجية والجغرافيا السياسية بما لها من تأثير مباشر على مجمل السياسات الدولية في الشرق الأوسط, وعلى بوصلة الأحداث في المجتمعات العربية، بحكم المكانة والموقع ضمن شبكة المصالح العربية والإقليمية والدولية, ولذا لم يكن غريباً أن تكون ثورتها أكثر إثارة للتخوفات الدولية والإقليمية على حدٍ سواء، لما يترتب عليها من تداعيات تتعدى حدود مصر عكس تونس تماماً، ولعلى هذا واحداً من أهم أسباب تزايد مخاوف صانعيها، خشية موتها وخوفاً عليها لا منها.
مخاوف ربيع مصر الثورة اليوم لا تنتهي, فهناك خوف من تزايد الضغوط والتدخلات الخارجية، وخوف من استمرار الفكرة المستبدة للعقل السياسي الجمعي الداخلي في ممارسة سطوتها العنفوانية، وخوف من رتابة وبطئ أو تباطؤ المجلس العسكري في الاستجابة لمطالب التغيير والتي لا زالت تأخذ شكل الصدمات المفاجئة، بسبب غياب رؤية واضحة الترتيب لأولويات المرحلة، نظراً لعدم امتلاك قيادة الجيش وشباب الثورة على حدٍ سواء لجهاز سياسي مؤهل ومدرب على إدارة الأزمات وعملية التحول، والأهم من هذا وذاك: إدارة المجلس العسكري البلد في غياب أي سلطة رقابية على القرارات الصادرة عنهم بعد حل مجلسي الشعب والشورى, بالتوازي مع عجز شباب الثورة في فرض إرادتهم فيما يتعلق بإيجاد إصلاحات سياسية واقتصادية تلبي احتياجات الشعب، مصحوباً بتزايد قلق المصريين من تراجع الاقتصاد الوطني المخيف بعد الثورة, إذ تشير الدراسات الاقتصادية إلى خسارة الاقتصاد المصري نحو ثلاثة مليارات من الدولارات شهرياً بعد الثورة, مضافاً إليها وراثة مصر الثورة من النظام السابق أزمة اقتصادية خانقة يعجز أي نظام عن حلها, يأتي هذا في وقتٍ لا يزال تركيز الجيش منصبٌ على محاولة ضبط إيقاعات الشارع وضبط إيقاعات المرحلة الانتقالية, واستعادة هيبة الدولة, وسط حالة من الحيادية السلبية والارتباك وعدم الوضوح.
إذن فنحن أمام: جيش متريث ومنشد للماضي, يريد وضع الثورة على قضبان سكة النظام, وثورة متوقدة ومتطلعة للمستقبل, تريد التحليق إلى نظام جديد, برؤية مستقبلية تقطع كل الصلات مع الماضي، وفي لحظة عبور إجباري للنفق الوحيد نحو المحطة الثانية من عملية التحول, كانت هناك أشباح مترصدة, لم يعفيها سقوط النظام من الظهور والعمل على تدوير ماكينة العنف بين الجيش والثورة وبين الجيش والقوى الديمقراطية وبين قوى التغيير الرئيسية في الداخل وقوى التأثير الخارجية المتضررة من عملية التغيير المصرية، ما أوجد هالة من المخاوف لدى الجيش دفعته إلى محاولة تحويل الثورة إلى مجموعة مطالب ممرحلة مدعوماً هذه المرة بتأييد الإخوان المسلمين (التعديلات الدستورية, والاكتفاء بإحداث تغييرات طفيفة وسطحية تطال الأشخاص والسياسات دون المساس بهيكل الدولة وأجهزة النظام السابق وترحيل المطالب العمالية والاجتماعية إلى ما بعد المرحلة الانتقالية, نموذجاً)، الأمر الذي أدى إلى خلق شعور عام بأن الثورة بدأت تتلاشى وتخبو, وبالتالي إثارة الشكوك حول نوايا الجيش السلطوية بعد انتهاء المرحلة الانتقالية, ومدى استعداده لإحداث التغيير الحقيقي والشامل بشكل يقطع نهائياً مع عصر استبدادي كامل، باعتباره المطلب الحقيقي للثورة, الذي قدم المصريون من أجله أكثر من 800 شهيد، والتي يُفترض أن تكون دافعاً قوياً للانتقال من مرحلة المشروع الوطني، إلى مرحلة الدولة الوطنية، ومن مرحلة الحكم الفردي المتسلط والمتحكم بغرفة الأقدار قبل الثورة، ومرحلة القبضة الحديدية للحرس القديم - المجلس الأعلى للقوات المسلحة - بعد الثورة, التي لازالت تتحكم بكل شيء, غير آبهة بالمظاهرات المليونية التي ما تزال تهدر عالياً في كل الطرق، إلى مرحلة جديدة يقرر فيها الشعب انتزاع حقوقه بيده, وتكون فيها "السيادة الشعبية" قوة مقررة تجاور قوة العسكر ولا تنتظرها, في صناعة المعادلات السياسية الجديدة وفي اختيار الحكام, باعتبارها الضمانة الوحيدة لقطع الطريق نهائياً أمام إمكانية عودة الأفاعي من الشوارع الخلفية, انطلاقاً من قاعدة: أن البلد لا يمكن أن تُدار بالانفراد والاحتكار, بل عن طريق الشراكة العامة، وأن مهمة التغيير لا يمكن أن تتحملها فئة بعينها مهما كانت قوتها أو سندها الاجتماعي، وقتها فقط يمكن القول: أن مصر الجديدة لم يعد فيها مكان للاستبداد والمستبدين.
التطورات المتسارعة للأحداث في مصر, تثير سؤالاً في غاية الأهمية, سبق للدكتور إبراهيم أبراش وأن طرحه على بساط البحث والجدل قبل انتصار ثورة 25 يناير بأيام ولا يزال صداه يتردد إلى يومنا هذا, هو: "هل بمجرد خروج الناس إلى الشارع وهروب الرئيس أو تخليه عن السلطة يمكن القول بأن الثورة قد حققت أهدافها؟"، الإجابة قطعاً ستكون "لا" أو على الأقل ما تزال بحاجة للكثير من الدراسة من قبل علماء الاجتماع, كوننا اليوم أمام نموذج ثوري حطم كل ضوابط وشروط الثورات التقليدية, وهو ما يدعو للأمل والخوف في نفس الوقت, لماذا؟، لأننا أمام ثورة شعبية قامت بلا قائد وبلا خطة، ومع ذلك فهي وإن كانت قد نجحت في إسقاط رأس أو رؤوس النظام، لكن جسد النظام ما يزال قائماً، ما يعني أن الثورة مازالت ناقصة، لأن عملية الهدم لا قيمة لها ما لم تكن بهدف البناء, وهو النصف الثاني والأهم في أي عمل ثوري, ذلك أن طريق عملية البناء والتنمية والديمقراطية والرفاه, ليست في العادة مفروشة بالورود بل مزروعة بالكثير من الألغام والمفاجآت الكفيلة بنسف كل الأحلام في حال فقدت الثورة زخمها ويقظتها.
والحقيقة أن: "هدم نظام فاسد بدون خطة حقيقية وواضحة لبناء نظام عادل, هو أخطر من النظام الفاسد ذاته" بدلالة تغيُّر وتزايد مطالب قوى الفعل الثوري يوماً بعد آخر, وتزايد اتساع رقعة الجدل وتخبط الرؤى وتشعبها وتصادمها بين قوى التغيير الرئيسية حول أولويات المرحلة, ما يعني ببساطة: "استحالة بناء مستقبل واضح على رؤى غير واضحة".
مصر اليوم تقف على أعتاب مرحلة مفصلية وحاسمة, قد تنقلها إلى المستقبل وقد تعيدها قروناً إلى الوراء, طريق الماضي واضحة وسالكة, عكس طريق المستقبل, حساسية المرحلة بما يحيطها من أخطار, تستدعي من الجميع ضرورة التغلب على التباينات الداخلية والتخلُّص من لعنة اللهث وراء المكاسب السياسية والحزبية الآنية, وتغليب المصلحة الوطنية على ما عداها إذا ما أرادوا الانتصار للمستقبل.
تاريخياً, كل الثورات السياسية والاجتماعية المشهورة - والكلام هنا للدكتور أبراش- استمدت قوتها وأهميتها من قدرتها على التغيير الواسع في كل بنيات المجتمع، ذلك أنها تُمثل نقطة تحول مفصلية في حياة الشعوب، لذا فمن الطبيعي أن يكون هدفها: تحقيق التحول نحو الأفضل، لأنها تعمل على الإطاحة بكل ما تعتبره الشعوب مسئولاً عن بؤسها وشقائها وبالنخبة المحيطة به وبمرتكزات نظامه السياسي، وإقامة نظام بديل، يأخذ بعين الاعتبار المطالب والتطلعات الشعبية، إذن فالثورة: فعل جماهيري شامل غايته تغيير الأوضاع القائمة تغييراً جذرياً، في مرحلة تعتبرها نهاية المراهنة على التغيير والإصلاح من خلال النظام القائم, بالتوازي مع عجز المعارضة السياسية عن الإمساك بزمام المبادرة وتهيبها من الإقدام على تحمل مسؤولية التغيير، ما يجعل من الجماهير هي المتصدرة للمعركة، وهذا ما حدث في مصر ومن قبلها تونس.
على أن إشكالية هذا النموذج من الثورات, تكمن في سيولة ألوان الطيف الثوري وتعدد الرؤى في صفوفه، وهي سلاح ذو حدين، فهي من جهة مصدر قوة في انجاز مهمة الهدم، ومن جهة ثانية مصدر ضعف من حيث تمييع المطالب وغياب التوافق حول كيفية إدارة مرحلة ما بعد الهدم بصورة سلسة وآمنة تضمن تحقيق أهداف الثورة وتوجيه مساراتها وتحولاتها وإيصالها إلى بر الأمان بأقل التكاليف والخسائر الممكنة.
بواعث هذا التباين والتبلبل كثيرة لعلى أهمها: غياب القوى الوطنية القيادية عن الثورة, حيث كشفت الأحداث المتسارعة أنها مازالت مهتمة بنفسها أكثر من اهتمامها بالوطن سواء أثناء الثورة أو بعدها, بدلالة فشلها في توحيد صفوفها وكلمتها حول كيفية إدارة المرحلة الانتقالية, ناهيك عن عدم أهلِّية شباب الثورة لقيادة البلد، ما أدى في النهاية إلى القبول بقيادة الجيش ورعايته للمرحلة الانتقالية, أي القبول بقيادة الحرس القديم لتجديد النظام وتحديد وتوجيه مسارات عملية التطوير وضمان مرحلة التحول, في حين يقتضي المنطق أن يكون الشعب هو الضامن والراعي لهذه العملية, وليس الجيش بصلاته القوية مع النظام السابق ومع مراكز القوى المؤثرة في الخارج.
هذه الأمور مجتمعة تجعل الجيش يفكر ألف مرة قبل الإقدام على اتخاذ أي خطوة عملية نحو التغيير, واضعاً بالحسبان التداعيات المترتبة عليها وردود الأفعال الداخلية والخارجية, ولذا لم يكن غريباً أن نجد الجيش كثير التردد في مواطن تستدعي الحسم الفوري, والأخطر من ذلك مصاحبة عملية التحول ثورة مضادة تزداد ضراوتها وشراستها يوماً بعد آخر, تريد ضرب نقاوة الثورة وحرفها عن أهدافها, وتوسيع رقعة الانفلات الأمني الذي بات أشبه بالفوضى الشاملة, وضرب السِّلم الأهلي والوحدة الوطنية، الأمر الذي جعل الجيش في موقف حرج للغاية, وأشاع في نفس الوقت الخوف من سرقت الثورة وإجهاضها واحتمالات تصفيتها أو تحويلها إلى فولكلور, وبالتالي إثارة التساؤل عن مستوى التغيير, وما إذا كانت مصر ستشهد تغييراً جزئياً يطال الأشخاص والسياسات فقط بصورة ممرحلة تضمن توفير البحبوحة والحرية والعدالة والمساواة, كما هو واضح من أداء الجيش الحالي, أم أنها ستشهد إحداث تغيير شامل رغم كلفته الباهظة كما يطالب شباب الثورة, ورغم هذا يمكن الزعم بأن ثمة ما يشير إلى أن مصر أمام مرحلة جديدة, هي: مرحلة اكتشاف الجماهير لكرامتها ومعرفتها بأنها عامل مؤثر وقادر على إحداث التغيير الذي من الممكن أن يُرضي طموحات وتطلعات الشارع المصري.
حقائق على طريق التحول
عندما ثارت شعوب أوربا الشرقية ضد القبضة السوفيتية والشيوعية لم يخُن الثوار شعوبهم بعد الثورة, بل أقاموا أنظمة ديمقراطية أعادت لشعوبها الحياة من جديد لكن عوامل الخوف والقلق لم تختفِ.
وعندما قامت الثورة الفرنسية عام 1789 لم تحمل معها بوادر الاستقرار إلا بعد مرور أكثر من عشر سنوات (1799), عانت فرنسا خلالها من مختلف مظاهر الفوضى والصدامات الدموية, وفي الحالتين فأوربا الشرقية وفرنسا الغربية بعد الثورة لم تكن كما كانت عليه قبلها, بل صارت في وضع أفضل نسبياً، وفي الحالتين أيضاً ظلت الديمقراطية منذ روما القديمة وحتى اليوم, هي ذاتها رغم تعدد مسمياتها وشعاراتها: (ديمقراطية الأغنياء وليس ديمقراطية الفقراء).
الثورات العربية اليوم تبدو أكثر انجذاباً للنموذج الفرنسي, وما نريد الوصول إليه من وراء هذه المقاربة البسيطة, هو التأكيد على حقيقتين فيما يتعلق بالثورة المصرية ومستقبلها:
الأولى: أن القلق والخوف من المشاعر الطبيعية التي تنتاب الكثيرين عقب كل تحول جذري يهز المجتمع ويقلب أوضاعه سواء كان ثورة أو حرباً أو زلزالاً .
الثانية: أن الإنسان العربي على مدى تاريخه العريض: يحلم بالتغيير لكنه يخشاه، ويصيح بالثورة لكنه يرفض دفع الثمن, والسبب في ذلك بحسب شجعان القزي (نائب رئيس حزب الكتائب اللبناني) يعود إلى: "عدم وجود قائد قوي يملك حجة الحديث والمنطق، لا قوة السلاح والبطش، لديه رؤية واضحة وعلمية، ومستعد أن يموت من اجلها، لإيمانه بالوطن وبالمستقبل، وعدم وجود إرادة أو قاعدة شعبية حقيقية ومؤثرة تفهم مدنية الدولة بصورة يمكن البناء عليها بشجاعة، ومستعدة لفعل أي شيء من أجل الوصول إليها" .
في الحالة المصرية، هناك ثورة لازالت محتفظة بزخمها ويقظتها, ولازالت تختلق الآليات الثورية الملهمة, الكفيلة بتعميق مسارات الثورة وتوسيعها, وهي حالة غير معهودة في عالمنا العربي, وبالمقابل هناك ثورة مضادة موازية في القوة والشراسة, وهذا أمر طبيعي في أي عمل ثوري شعبوي، لكن الخوف هنا من أن يؤدي بقاء الحرس القديم في هرم السلطة وإدارة مرحلة التحول إلى استمرار الصراع والتصادم بين القديم والجديد, وبالتالي بقاء النظام المنبثق من رحم الثورة "مجرد ديكور جديد لمعطيات ثابتة وعقائد جامدة", دون أن يكون لذلك أي اثر على صعيد الحرية والديمقراطية التي هي أساس المشكلة وأساس الحل.
التوجه نحو المستقبل, يحتاج لنُخب ودماء سياسية جديدة, تقود عملية التحول وقاطرة التغيير, لأنها تظل الضمانة الوحيدة لأن يأتي هذا المستقبل مختلفاً عن الماضي، بينما التوجه نحو المستقبل بنُخب قديمة، يعني أن شيئاً لم يحدث وأن مصر ما تزال رهينة الدائرة الجهنمية المفرغة, التي ظلت تحكم مصيرها ومسارها منذ عصر الفراعنة وحتى ثورة 25 يناير, بحلقاتها المتداخلة والمتدفقة بانتظام: "مركزية مطلقة، تمرد وخروج على السلطة، فوضى وهرج ومرج وثورة بيضاء أو حمراء، ثم سلطة وسيطرة وحكم مركزي وفساد وتمادي وخلل بلا حدود" والسؤال هنا: كيف يمكن لمصر اليوم التحول نحو الديمقراطية والخروج من هذه المتاهة القاتلة دون أن يكون لدى أبنائها توجه نحو المستقبل؟.
الواضح وليس الأكيد أن مصر في طريقها نحو الأفضل, رغم صعوبة ادعاء فهم ثورتها حتى الآن فهماً كاملاً وصعوبة ادعاء الظن بأنها تمتلك مفاتيح الحل والمستقبل والنهضة, على الأقل خلال المرحلة الانتقالية وفي أسوأ الأحوال خلال السنوات العشر القادمة على أبعد تقدير, حينها فقط يمكن ادعاء فهم ثورة 25 يناير, وما إذا كانت قد نجحت بالفعل في إحداث التغيير المنشود والانتصار للمستقبل أم أنها مازالت تعيش في جلباب ودهاليز التاريخ؟.
الإشكاليات والتحديات المرحلية
في القرن الماضي كتب والتر بنجامين: "إن الأمل لم يُكتب لنا إلا بسبب أولئك الذين هم بلا أمل", ذلك هو الأمل الذي يعني: ثورة الإنسان على واقعه, بالصورة التي تضمن له حرية الاختيار لطريق "اللاء" الرافضة لكل الأشكال اللاحضارية المتخلفة التي تشدنا إلى الوراء, بمعنى أن يكون للإنسان هدف عقلاني مستقبلي حضاري، الأمل يعني أيضاً ثورة القانون والديمقراطية والحرية والعدالة والشرف والنزاهة، أما "اللاأمل" فتعني: الاستكانة للواقع اللاعقلاني القائم على حالة الفوضى وعدم المسؤولية واللامبالاة وعدم وجود هدف عقلاني مستقبلي حضاري، وبالتالي الاكتفاء بالتفرجة على نهر التاريخ, والجلوس على هامش التاريخ, والرضوخ لمبدأ الفيلسوف هوبز: "من الواجب تفضيل الحاضر والدفاع عنه واعتباره خير ما يوجد"، وما بينهما تبقى هناك فسحة كبيرة للمخاوف والهواجس من احتمال تمكن الفريق الثاني الذي لا يزال رغم سقوط النظام ذا شوكة وقوة ونفوذ لا يُستهان بها, من تحويل الثورة المصرية المُلهَمة بآلياتها إلى عامل فوضى وانقسام, واستغلالها سياسياً بشكل يحيدها عن أهدافها النبيلة, إذا لم تتجسد في ديمقراطية مؤسساتية تُمارس فيها السياسة والحكم بتجرد, وضمن أصول دستورية وديمقراطية تضمن الحريات وتقبل التعددية وشروط تداول السلطة.
الكل يدرك اليوم سواء شباب الثورة أو السلطة التي تدير المرحلة الانتقالية أن الثورة لم تكتمل ولن تكتمل بمجرد إزاحة نظام مبارك وأركانه القريبة والبعيدة، فهذا هو جانب الهدم من العملية الثورية, فكيف إذا كان جسد النظام لا يزال قائماً, ما يعني أن على الشعب المصري أن يتمتع بالصبر والنفس الطويل, بالنظر إلى حجم وضراوة الثورة المضادة, لأننا أمام تجربة فريدة هي الأولى من نوعها في تاريخ مصر, ولا بُد أن تأخذ وقتها ومداها الطبيعي حتى تنضج الصورة قبل التحول إلى مرحلة البناء, والتي يجب أن تنطوي على جانبين في غاية الأهمية، الأول: "داخلي" يقوم على إرساء الديمقراطية وفتح الطرق إلى العدالة الاجتماعية وإزالة العوائق المكبلة للحياة السياسية, وأهمها إلغاء قانون الطوارئ بصورة نهائية، والثاني: "خارجي" يتمثل في انتهاج سياسة خارجية ترضى عنها الجماهير المصرية بأغلبيتها العظمى، تُعيد مصر إلى مكانتها القومية والإقليمية والدولية, لكن دون ذلك هالة كبيرة من الإشكاليات والتحديات والمعضلات بعضها داخلي تقرر مصر الثورة وحدها أن تتحداها، وتتحدى النتائج التي يمكن أن تنتج عنها, وهذه ذات شقين بعضها مبرر وطبيعي كالأزمة الاقتصادية وحالة الاستقطابات الحادة والتوازنات المتقلبة بين ألوان الطيف السياسي, وبعضها غير مبرر وغير طبيعي كالفتنة الطائفية المهددة الوحدة الوطنية بمقتل.
وهناك تحديات خارجية إقليمية ودولية تتمثل في قدرات الأطراف الأخرى على التصدي المباشر لتحدي التغيير الحقيقي لما يترتب عليه من أضرار على هذه الدول كما هو حال إسرائيل وأميركا والاتحاد الأوربي, بما لها من ارتباطات داخلية لا تُعدم الوسيلة من أجل إعاقة الثورة وإثقالها بهواجس ومخاوف تحيدها عن أهدافها الحقيقية تمهيداً لضرب نقاوة الثورة وإدخالها في متاهات لا تحمد عقباها.
صحيح أن ما أنجزته الحكومة والحكم الحالي حتى الآن لا يرقى إلى مستوى مطالب وأهداف الفعل الثوري, كما أن بعضه أتى متعارضاً مع مطالب الثورة, خصوصاً فيما يتعلق بإجراء الاستفتاء الشعبي على تعديل بعض مواد الدستور دون ملامسة جوهر المشكلة المتعلقة بدين الدولة وصلاحيات رئيس الدولة, والخطوات العملية للانتقال من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة البناء القائمة على إجراء انتخابات برلمانية في أواخر أيلول/ سبتمبر المقبل تمهيداً لانتخابات رئاسية يتم إجرائها في نهاية العام الجاري أو أوائل العام المقبل وتشكيل لجنة وطنية بعد ستة أشهر من الانتخابات البرلمانية تكون مهمتها إعداد دستور جديد لمصر.
ومع ذلك تظل هناك إنجازات محل ترحيب الثوار أبرزها: حل البرلمان بمجلسيه وتعيين حكومة تسيير أعمال جديدة من التكنوقراط يحظى رئيسها عصام شرف بقبول الشارع، وحل جهاز أمن الدولة والحزب الوطني الديمقراطي الحاكم ومحاكمة رموز الفساد في النظام السابق وعلى رأسهم مبارك وأسرته بعد أن كان الجيش متردداً في ذلك, ومن ثم البدء بتفكيك منظومة الفساد التي حكمت مصر لثلاثة عقود، وعودة الحريات العامة والكرامة الإنسانية، والأهم من ذلك وضع مهمة محددة لعمل حكومة عصام شرف تتمثل بتهيئة الملعب السياسي والتحضير للانتخابات البرلمانية والشروع في استعادة أموال مصر المنهوبة، على أن الملاحظ حتى الآن، أن بعض التشريعات التي صدرت لم تأتِ تعبيراً عن إرادة الثورة ولم تأتِ تعبيراً عن حوار مجتمعي حقيقي كما هو حال التعديلات الدستورية والترتيبات المرحلية للانتخابات العامة، كما أن هناك قوانين وتشريعات لابد من اتخاذها كما هو حال قانون الأجور والقانون الانتخابي الذي لا يزال محل جدل كبير، وهياكل ومؤسسات لابد من إعادة بنائها كما هو حال المؤسسات الإعلامية والأمنية وأخرى بحاجة للحل وفي مقدمتها المجالس المحلية, لاسيما وأن مصر اليوم تدخل مرحلتها الثانية من مراحل التحول وهي مرحلة التطبيع السياسي المنهجي القائم على الشرعية الشعبية.
على مستوى السياسة الخارجية, فاجأت مصر كلاً من إسرائيل وأميركا بانجازها اتفاق المصالحة بين فتح وحماس دون إلقاء أي اعتبار للضغوط وردود الأفعال الخارجية، والتأكيد على فتح معبر رفح بصورة دائمة ونهائية لتخفيف الحصار عن غزة بالتوازي مع بدء القضاء المصري بإجراءات إعادة النظر في اتفاقية بيع الغاز لإسرائيل وتوجيه الاتهام لوزير النفط السابق سامح فهمي بسبب توقيعه عقد البيع وقبوله بسعر أدنى من الأسعار العالمية، والأهم من هذا وذاك تعالي الأصوات المطالبة بحق مصر في إعادة النظر باتفاقيات كامب ديفيد مع إسرائيل كواحد من حقوق مصر المشروعة التي يضمنها القانون الدولي والذي يظل أمضى وأقوى من اتفاقية تجعل من المساعدات الأميركية لمصر رهينة رضا إسرائيل.
هذا التغيير المفاجئ في السياسة الخارجية المصرية يأتي رغم أن تحديد ملامحها يظل من مهام الحكومة المدنية التي ستخلف العسكر في السلطة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، وهو ما يشي بأن مصر بعد الثورة في طريقها لاستعادة قيمتها ودورها الإقليمي الأمر الذي يجعلها الأكثر قدرة على بناء نظام جديد يُحسِّن شروط التبعية للخارج بصورة تجعل الدولة المصرية الجديدة شريكاً فاعلاً لا تابعاً ثانوياً في العلاقات الإقليمية والدولية بعد عقود من التبعية السلبية, بمعنى اكتساب العلاقات المصرية- الإسرائيلية بعد الثورة طابع الندية, وهذا بلا شك سيصب في صالح القضية الفلسطينية والعلاقات المصرية- الفلسطينية بعد أن كان مبارك قد ارتكب كل الكبائر في العلاقة مع إسرائيل وتجاوز كل المحرمات في العلاقة مع الفلسطينيين.
التعليقات (0)