ربما كان الوقت لا يزال مبكرًا للحديث عن وسائل النجاة من الأزمة، لأن الحالة على أرض الواقع غير مستقرة بعد، ولكنى أظن أن من الواجب الآن وليس بعد ساعة من الآن أن نحاول فتح أعيننا والتأقلم مع الضباب حتى نرى الأطياف المتشابكة خلال الغيوم فى الشارع ونحاول التفريق بينها، ومن ثم نستطيع أن ننظر فى البيت ونحاول ترتيبه من الداخل ترتيبًا حقيقيًا أفضل من السابق.
فماذا حدث فى مصر بدءًا من الخامس والعشرين من يناير الجارى؟
لقد قام جموع المصريين بالملايين فى ربوع مصر جميعها بالخروج إلى الشوارع، ولأول مرة منذ ثورة 1919 وذلك للتعبير الفطرى والتلقائى عن إحساسهم القوى بالاختناق بالفساد، والذى كان أحد الأسباب - وربما أهمها من وجهة نظرهم - للتدهور الحاد الذى أصاب مصر فى مختلف المناحى.
1- فى الناحية السياسية ممثلة فى برلمان صورى لا يمثلهم ويعتمد فى المقام الأول على تحالف بين الحزب الحاكم وغيره من الأحزاب بصورة أقل، ورموز المنفعة الشخصية فى مختلف أنحاء البلاد ومستعينًا فى ذلك التحالف بطبقة من البلطجية قام جهاز الشرطة باستخدامهم فى المقام الأول ثم استخدمهم الناخبون بعد ذلك أو بالرشاوى الانتخابية الفجة والمباشرة التى يشترى بها المرشحون أصوات الناخبين بحفنة من الجنيهات ربما لا تكفى قوتهم لمدة يومين، ولكنها تشترى بها بالكامل نسبتهم من كعكة الحكومة والتى تتحكم فى توزيعها مباشرة على المقربين وتمثل فى تخصيص أراض أو أذون استيراد أو تعيينات حكومية ينتفع بها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أو غيرها من نواحى المنفعة الشخصية المباشرة والفجة.
2- من الناحية الاقتصادية، فعلى الرغم من الجهود المبذولة من الحكومة الأخيرة لإصلاح الأوضاع الاقتصادية، ممثلة فى معدل نمو مرتفع وبنسبة عالية عما سبقها من الحكومات، إلا أن هذا لم يكن كافيًا لملاحقة التدهور السريع الذى أصاب الحياة الاقتصادية من جراء سياسات حكومية متعاقبة فاشلة، وخطايا محورية مثل عدم الانتباه لخطورة شركات توظيف الأموال إلا بعد وقوع كارثة، ومشروع توشكى الذى استنزف جانبًا كبيرًا من موارد مصر، وكذلك هروب عدد كبير من رجال الأعمال بأموال طائلة للبنوك، مما أدى فى النهاية لعدم شعور المواطن العادى بعوائد هذا النمو، بل وتأثره المتزايد بالغلاء العالمى الذى أصاب كل السلع والخدمات، خاصة بعد اندماج مصر فى نظام العولمة والذى كان هو نفسه المؤدى إلى هذا المعدل المرتفع للنمو.
3- وكان أيضًا من تكاليف هذا النظام الاقتصادى أن اقتربت معدلات ومعايير التشغيل من معدلاتها العالمية، مما أدى إلى زيادة معدل تسريح العمال وارتفاع حقيقى فى نسبة البطالة، خاصة المقنعة، وذلك استمرارًا لسياسة الحكومات المتعاقبة فى امتصاص غضب الشارع، وذلك بتكديس عمالة زائدة جدًا عن الحد، وذلك فى قطاع المحليات ومعظم قطاعات الحكومة.
4- وكان القطاعان الأساسيان اللذان وضح عليهما هذا الفشل الاقتصادى - على أهميتهما القصوى- قطاعى الصحة والتعليم، وذلك لتكلفتهما العالية، لذلك فقد كانا أول من دفع ثمن الأخطاء والخطايا التى تحدثنا عنها من قبل.
هذه كانت أخطاء النظام والتى نجم عنها - ولو بشكل جزئى - حالة الاحتقان الاجتماعى العام والتى كانت ملاحظة فى مصر بوضوح فى الفترة الأخيرة، ولا أستثنى من ذلك الاحتقان الاجتماعى، الاحتقان الطائفى الناتج عن المد الأصولى العالمى، والذى تعامل معه النظام بمنطق أمنى بحت كان جراؤه تعاظم دور الأمن، خاصة جهاز أمن الدولة فى المجتمع حتى تعالى وزن تقارير أجهزة الأمن عن وزن الكفاءة فى أى منصب قيادى عام، وكذلك استمرار دائم لحالة الطوارئ وما تشكله من قيد على حرية المواطن العادى وقبول استخدام العنف المفرط والتعذيب تجاه الأصوليين أو المشكوك فى اتجاهاتهم، وكذلك قمع أى اتجاهات فكرية حرة قد يعتقد النظام أنها قد تسهم فى اضطراب الواقع الأمنى الهش، فضلاً عن رشاوى النظام الكبيرة لرموز الأجهزة الأمنية، كانت هذه فى وجهة نظرى الأسباب التى أدت إلى ثورة المصريين، ولكنها فى الحقيقة كانت وقود الثورة، أما الشرارة فى الحقيقة فقد كانت ثورة التونسيين الذين رأى المصريون فى الظروف المؤدية إلى ثورتهم الكثير من التشابه مع الظروف التى يمرون بها، فكانت الشرارة والتى انطلقت فى المقام الأول من مجموعة من شباب مستخدمى الشبكات الاجتماعية فى الانترنت الذين توفرت لديهم الشجاعة الكافية وبشكل رائع، لكى يعبروا عن غضبهم من النظام، ومن ثم انتقلت الشرارة إلى جموع المصريين، ولكن لماذا ركز الغاضبون على الرئيس مبارك؟ فى رأىى هناك ثلاثة أسباب لهذا التركيز:
(1) أن الرئيس مبارك هو الرمز الأول لهذا النظام، وهو الثابت والمحرك لكل الحكومات المتعاقبة التى أدت لهذا الفشل الاقتصادى والاجتماعى، وكذلك فهو رئيس الحزب الوطنى الحاكم الذى تفاعل عضويًا مع هذا الفساد السياسى.
(2) أن الرئيس مبارك قد كان فى حد ذاته مثلاً واضحًا لهبوط فكرة تداول السلطة وتكافؤ الفرص، حيث ظل محتفظًا بمكانه لمدة ثلاثين عامًا، فضلاً عن عدم تعيين نائب له فى أى فترة خلال فترات حكمه.
(3) أن الرئيس مبارك قد تبنى دومًا خلال فترة حكمه سياسة من التعتيم ولم تكن الشفافية كلمة مطروحة فى قاموسه، فلم يتم التصريح مرة بشفافية، وعن حالة الرئيس الصحية الحقيقية، رغم أنه قد تخطى الثمانين ومر بعدة أزمات صحية، ولم يتم الحديث الرسمى عن ثروة الرئيس وعائلته ومصادرها، فضلاً عن التعتيم المستمر وعدم وضوح الرؤية من مسألة احتمال توريث الحكم لجمال مبارك والذى كانت فكرة ثوريته الحكم صادمة للناس، كونها تكرس أيضًا بوضوح معانى الوساطة والمحسوبية وانعدام الحراك السائدة فى المجتمع والتى استعظم الناس رؤيتها حتى فى منصب رئيس الدولة.
التعليقات (0)