آه يا مصر يا بنت المجنونة .. يا بنت العفاريت ..
طول عمرك كده .. مجنونة زي الطماطم.. تطلعي وتنزلي ..لا عارفين ليه طلعتي .. ولا فاهمين ليه بتنزلي..
عيالك العفاريت بإيديهم نحتوا الصخر وقطعوا الحجر ورسموا على وش الأرض أهرامات معجزة وعجيبة من عجايب الزمان.. عيالك العفاريت فكوا شفرة الأرض ورسموا عليها لوحة خضرا ونشفوا ورقها ورسموا عليه أول حروف التاريخ والحضارة ..
عيالك العفاريت في دمياط والمنصورة حاربوا بإيديهم العريانة وبالنبابيت وأسروا ملك فرنسا ذات نفسه وحبسوه في دار ابن لقمان في المنصورة...
عيالك العفاريت الفلاحين بالجلاليب الزرقا لموا بصماتهم وتوقيعاتهم يوم ما رفض الانجليز التفاوض مع سعد باشا علشان مالوش صفة فأعطاه الشعب كله وكالة شعبية تاريخية ليتكلم باسمه..
عيالك العفاريت وقفوا قدام الخديوي وقالوا له إحنا أحرار ومش عبيد وأقسموا ألا يستعبدوا بعد ذلك اليوم ..
عيالك العفاريت طردوا الخواجات ونزلوا يديروا القنال وكأنهم خبرا ولاد خبرا.. والضرب نزل فوقهم فرنسي وانجليزي واسرائيلي ولا أثر فيهم بنكلة ..
إنضربتي واتبهدلتي في 67 واتقطعت منك سينا بحالها واتذليتي بين الأمم .. ومفيش ست سنين
وعيالك العفاريت انطلقوا كما المارد من قمقمه وسقوا المجرمين الصهاينة كاس السم الزعاف وجابوا لك أرضك لحضنك من تاني ..
كل ما يقولوا انهزمت وضاعت نلاقيكي طالعة زي العفريت تقولي أنا هنا .. أنا مصر .. أم الدنيا..
حتى الكورة .. بعد ما قلنا خلاص راحت علينا.. نلاقي عيالك العفاريت يكتسحوا نسور نيجيريا في كاس الأمم بالتلاتة..
آه يا بنت المجنونة .. أمال إحنا بنحبك وبنعشق ترابك ليه؟
ولو سألني حد .. إنما صحيح إنتي يا مصر أم الدنيا؟
هنا الكلام والرد يكون لحسين مؤنس في كتابه " مصر ورسالتها" اللي قال فيه..
في البدء كانت مصر .. قبل الزمان ولدت .. وقبل التاريخ.. هنا بدأ كل شيء .. الزراعة , والعمارة , والكتابة ,و الورق , والهندسة , و القانون , والنظام , الحكومة..
وهنا , وقبل كل شيء ولد الضمير .. هكذا قال جيمس هنري بريستد في كتاب جليل عن مصر عنوانه (فجر الضمير ) ( The Down of History) والضمير هو ذلك الوازع الداخلي في كيان الإنسان الذي ينبهه إلى الخير ويحذره من الخطأ ويحاسبه على ما يتعارف من أخطاء حساباً داخلياً صامتاً ولكنه ألم للإنسان من كل عقاب .. وعلى أساس الضمير ظهرت الديانة المصرية القديمة .. وكان المصري القديم أول من تنبه بالفطرة إلى حقيقة البعث والحساب ..
قرون تجري في أثر قرون , عوالم تولد ثم تموت , ومصر هنا في مكانها , تبني وتنشئ وتعمر وتكتب وترسم وتنشد وتصلي , وتتألق وتتوهج , وتخبو , ثم تتألق وتتوهج.
وكما كانت مصر في كل زمان, فهي أيضاً كائنة في كل مكان .
في فرنسا يقولون أن مصر تبدأ من ميدان الكونكورد , حيث مسلتنا العظمى على مسافة قريبة من ميدان "الوفاق " . هنا يقوم متحف اللوفر , والقسم المصري فيه جزء من تاريخنا وتاريخ فرنسا معاً , اشترك في كتابته فرنسيون ومصريون , أو متمصرون إن شئت..
كان جان فرانسوا شامبليون يقول : أنا شامبليون المصري , عندما عاد من مصر وزار قريته المسماة "فيدجاك" قال هذا "كَفْر" فيدجاك .. جاء إلى بلادنا غلاماً في الثامنة عشرة من عمره يلتمس المجد.. وخرج منها وفي إحدى يديه مفتاح الهيروغليفية, وفي ألأخرى مفتاح الحياة, وأصبح _ وهو في الثلاثين من عمره_ أستاذاً في الكوليج دي فرانس ..
بهذين المفتاحين أضاف إلى تاريخ البشر خمسة آلاف سنة , وعثر على مفاتيح أخرى لألوف السنين ..
هذا العبقري الذي فتح ذلك الفتح العظيم ومات في الثانية والأربعين من عمره , كان محموماً بمصر. عندما وصل إلى أبي سمبل وجد المعبد مطموراً في الرمال إلى أوساط التماثيل , تسلق ونفذ إلى داخل المعبد غير عابئ بالحيات التي كان الناس يرونها رأي العين. لم تجرؤ الحيات على أن تمسه , كان إيمانه كعصا موسى .. يبطل معها كل سحر..
بعد شامبليون , عشرات من العباقرة مدوا حدود مصر إلى عواصم أوربا , حتى وصلت أدنبرة ولنينجراد وبرلين.
ومع كل.. فلدينا حدود غربية لحضارة مصر هي أبعد من هذا ,
هناك على ساحل الأطلسي في جمهورية موريتانيا الحالية يوجد إقليم شنقيط . شنقيط هذه كأنها جزء بعيد من مصر . على طول العصور الوسطى كان الشناقطة يأتون من هناك ليتعلموا ويعودا , الكثيرون منهم أقاموا عندنا , ورواق الشناقطة في الأزهر مشهور..
وفي الأندلس – اسبانيا والبرتغال اليوم- كانت باجة (في البرتغال) تسمى مصر.. ومرسية ( في اسبانيا) كانت أيضاً تسمى مصر.. لأن العرب الذين سكنوها كانوا مصريين..
وفي الجنوب أين تبدأ مصر – حضارياً أقصد ؟
لقد قال هارولد ماكمايكل الدبلوماسي البحاثة البريطاني : " في رحلتي الأولى مع النيل جنوباً , ما وجدت بناء حجرياً – من الخرطوم إلى اكواتوريا ( المديرية الاستوائية) - إلا وهو من بناء المصريين .. كل المدارس والمساجد ونقط البوليس وثكنات الجند ومراكز المواصلات ومحطات الري, بناها المصريون"..
مصر هذه كبيرة صغيرة.. الذي تراه منها على ضفاف النيل هو عاصمتها.
عاصمة تبدأ عند الاسكندرية وتنتهي عند الشلال .. وبقية الدنيا هي البلد ..
المصريون يقولون: مصر أم الدنيا .. حقيقة كبرى يقولونها دون أن يدركوا مغزاها.. نعم أم الدنيا , بل هي الدنيا.
عندما خرج أفلاطون من مصر ووصل إلى كريت رآه الناس يتحسس رأسه , فسألوه فقال : أريد أن أتأكد أن دماغي ما زال في مكانه .. كاد يضيع مني هناك .. هذا بلد تجار يشترون منك أي شيء!..
وعندما وصل الاسكندر إلى الدلتا قال : أي جنة هذه!
وعندما وضع نابليون قدمه على شاطئ مصر قال : أي نار هذه!
وعندما وصل إليها عمرو بن العاص قال : هذه شجرة خضراء..
وعندما جاء ابن خلدون إلى القاهرة قال: رأيت مجمع الدنيا ومحشر الأمم ..
ويوليوس قيصر – عندما أجهده المصريون في حربهم وحاصروه في الأسكندرية- قال : لن أبقى في هذا الجحيم لحظة أكثر مما ينبغي ..
أما صلاح الدين فقد قال شيئاً معناه: هذا بلد لا يخرج منه إلا مجنون..
أقوال وآراء شتى تخرج منها بأن مصر هي كل شيء وأي شيء تريد.. بحسب مزاجك وملكاتك واتساع قلبك وعمق شعورك ونظرتك إلى الحياة ..
ومصر عاشت تاريخها كله على القلائل الذين فهموها جيداً وأحبوها في عمق.. سواء أكانوا عباقرة أم ناساً بسطاء..
لقد قال نابليون : لو أتيح لي أن أعيش في هذا البلد وأحكمه, لما تركت قطرة من ماء النيل تذهب إلى البحر..
هذا ما نفذه جمال عبد الناصر , وهذا هو السد العالي.. حقاً إن العقول الكبيرة تتلاقى , وكذلك القلوب ذات العمق ..
في الفرنسية يقولون ألأرواح الطيبة تتلاقى.. ومصر إنما هي ثمرة جهد عقول كبيرة وقلوب ذات عمق وأرواح طيبة تتلاقى وتعمل معاً.. وبما دون قصد..
في أيام الخليفة الحاكم- وكان دون شك رجلاً غير سليم العقل- أتى من العراق عبقري رياضي هو الحسن بن الهيثم , وفي حقيبته مشروع لتنظيم مياه النيل.. أين الحسن بن الهيثم وأين مياه النيل؟ ولكنه كان عقلاً كبيراً .. والنيل قلب كبير..
لم ينجح الحسن بن الهيثم فيما أراد , وأدخلوه السجن .. كان سجنه غرفة مظلمة , في بابها ثقب صغير.. في ظلام المحبس رأى صورة الخارج تمر من الثقب , وتنعكس على الجدار .. هذه هي " الغرفة المظلمة" .. الكاميرا أو بسكيورا .. هذه هي الكاميرا أو الفوتوغرافية.. اكتشفها عقل كبير في سجن صغير على ضفاف النيل .
. بعد أن خرج من السجن لقي علي بن يونس .. كان أيضاً عقلاً كبيراً.. ولكنه كان مجنوناً ولا شك.. كان يرصد النجوم على قمة المقطم, وكان يعشق كوكب الزهرة " فينوس" .؟. كان يلبس رداء طويلاً أحمر , ويضع على رأسه طرطوراً طويلاً أحمر , لكي يستلفت نظر محبوبته السماوية , ولكنه كان فلكياً عظيماً , كان مجنوناً وعقلاً كبيراً في آن واحد .. واحدا من العقول الكبيرة التي صنعت تاريخ مصر..
في تاريخ مصر عقول كبيرة كثيرة.. ولكن الكثير منها لم يكن كبيراً قبل أن يدخل مصر.. مصر هي التي أعطتها حجمها..
الاسكندر دخل مصر قائداً صغيراً , وخرج منها إلهاً معبوداً..
وعمرو بن العاص دخل مصر قائداً عادياً .. وخرج منها من بناة الدول..
وصلاح الدين , ماذا كان قبل أن يدخل مصر ؟
قلها ولا تخف .. مجرد ضابط صغير .. مصر جعلت منه صانعاً من صناع التاريخ..
ونابليون دخلها مغامراً , وخرج منها وقدمه على عتبة سيادة الدنيا..
مصر صنعت لهم جميعاً أكثر مما صنعوا لها..
هؤلاء أتوا من الخارج لم يصنعوا تاريخ مصر كما يقال.. بل مصر صنعت تاريخها وصنعتهم هم أيضاً..
كانوا يقولون أن مصر هبة النيل , ولكن شفيق غربال صحح العبارة.. وقال.. أن مصر هبة أبناء مصر..
ماذا صنع أحمد بن طولون –مثلاً- لمصر؟
ماذا كان يستطيع محمد بن طغج الأخشيد أن يصنع لها؟
وبيبرس , وقلاوون , وبقية السلسلة؟ صنعتهم مصر فيما صنعت ..
إن تاريخنا لم يكتب بعد , عندما يكتب ستتلاشى أسماء كثيرة, ستسقط كما تسقط أوراق شجرة عجوز بعد عاصفة خريف..
إنما العقول الكبيرة التي صنعت تاريخ مصر هي عقول أبنائها الذين نشأوا من ترابها .. أولئك الذين يخرجون من بطون الريف وفي قلوبهم فحولة الفراعنة وحزم شيخ البلد ورقة نفرتيتي.. أولئك الذين يصنعون تاريخ مصر على مهل وفي صمت..
والإغريق – الذين يزعم المؤرخون أنهم من كبريات الشعوب التي صنعت التاريخ , والذين يفخر الأوربيون بأنهم آباؤهم الروحيون – هؤلاء الإغريق أنفسهم كانوا يعترفون بأنهم تعلموا أصول الحضارة من مصر..
هنا تعلموا الفن والفكر والجمال والدولة والنظام ..
بعضهم اعترف بفضل مصر.. وبعضهم أبغضها بغض الإنسان لما هو أحسن منه ,
وهيرودوت يمدح مصر أحياناً , ويهجوها أحيانا أخرى, وهجوه إياها أدل على اعترافه بفضلها من مديحه..
القلوب الطيبة التي تضفي طابع الإنسانية الغالب على تاريخ بلادنا كثيرة.. أقدمها من الناحية التاريخية ذلك الموظف المصري الكبير الذي عاش سنوات الفوضى والقلاقل التي أعقبت الأسرة السادسة قبل الميلاد بخمسة وعشرين قرناً ..
في صفحات بردية حافلة بالعمق الإنساني , بكى هذا الرجل الطيب مصير بلاده التي افترستها الفوضى , هذا الرجل الطيب رثى بلاده رثاء يدل على إحساس قوي عظيم..
هذه أول وثيقة في التاريخ نشعر فيها بما يسمى "حب الوطن" .. قبل ذلك بقليل نقرأ اسم أول "رئيس وزراء" في التاريخ , هو "أوني" وزير الملك "بيبي" .. كان رجل دولة بكل ما في هذه الكلمة من معنى, كان وزير خارجية أيضاً يعقد الاتفاقيات والمعاهدات ..
في نفس الوقت نسمع عن أقدم قصة وفاء زوجي في التاريخ هي قصة الملكة "نبت اكيرتي" التي نسميها "نيتوكريس" .. معنى اسمها "الجميلة ذات الخدين الورديين" .. هذه أيضاً كانت أول ملكة في التاريخ..
الناس الطيبون الذين صنعوا تاريخ مصر هم الزراع والصناع , وكل أولئك الذين يملأون الخلية المصرية نشاطاً وشهداً >>
هم الذين يبنون وينشئون وهم يسعون لرزق الأولاد , والأولاد ذخائر الأوطان.. هم الجنود المقاتلون الذين رابطوا على حدود مصر من فجر التاريخ .. هم الجنود المجهولون الذين أنشأوا الامبراطوريات , وهم الذين يقفون اليوم على الحدود ليحموا أرض مصر في كل اتجاه.. وأرض مصر- بعد ألوف السنين- لم تنقص شبراً واحداً منذ أيام مينا أو نارمر. ونجزم – من شواهد التاريخ- بأن المصري لن يرضى أبداً أن يترك شبراً من أرضه تحت يد غيره ..
ومصر عاشت تاريخها كذلك على العلم وأهله ,
عالم مصر الأول هو " أمحوتب" , ذلك المهندس العظيم – الذي وضع تصميم مدينة سقارة ذات الأسوار وبناها- كان طبيباًُ أيضاً , وقد جعله الإغريق إلهاً .. من أيام أمحوتب – ومن قبلها قطعاً- لم تتوقف شعلة العلم في مصر أبداً , لم يخل عصر من عصورنا من علماء كبار . بعد علماء مصر القديمة الذين اخترعوا الهندسة والطب والطبيعة والكيمياء والقانون والأخلاق جاء علماء الاسكندرية , إسكندرية البطالمة أقصد, كانت جامعة كبرى ملأت الدنيا نوراً .
لم يزدهر العلم في مدينة قبل العصور الحديثة .. كما ازدهر في الاسكندرية : فلاسفة ورياضيون ولاهوتيون وجغرافيون ومؤرخون , وآخر قاس بعد الشمس .. كنيسة أيا صوفيا – أعظم عمل معماري مسيحي خلال العصور الأولى – بناها خلال حكم جستنيان (527-565) مهندسان من الاسكندرية..
علماء مصر الإسلامية لا يحصيهم عد, في يوم من الأيام جمعت الفسطاط علم الدنيا كله, في كل نواحي عالم الإسلام ركدت العقول في أواخر العصور الوسطى , إلا في مصر :
كيف يمكن أن يكون عصر ركود ذلك العصر الذي عاش فيه أمثال السخاوي والسيوطي وابن حجر العسقلاني والمقريزي وأبو المحاسن والقلقشندي والنويري وابن منظور والمرتضي الزبيدي وعبدالرحمن الجبرتي؟
وفي العصر الحديث اتصلت سلسلة أهل العلم والأدب ,
من رفاعة الطهطاوي إلى محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومحمود الفلكي ومحمود سامي البارودي , واحمد شوقي وحافظ إبراهيم وطه حسين ولطفي السيد وعلي إبراهيم وعلي رامز ومحمد رمزي وعبدالرحمن الرافعي وشفيق غربال ومصطفى نظيف , ونجيب محفوظ المثال الواضح الذي أقر العالم كله بعبقريته عندما منحه جائزة نوبل في ألأدب.. وبناة السد العالي وصناع مجدنا الصحفي إلى أبي نظارة. وغيرهم وغيرهم...
هل أجبنا على سؤال : مصر . ما هي؟
لا أعتقد !
على أي حال : أظن أنك الآن – على الأقل- تحس ما هي مصر ..
هذا الوطن العظيم الجميل الذي نتشرف بالانتساب إليه ..
والكثير الذي فاتني يحدثك عنه علماء هم أوسع مني علماً..
هم الآخرون عقول كبيرة وقلوب طيبة.. وأهل علم من المشاركين في بناء تلك الخلية الخالدة التي لا تسكن أبداً ..
خلية مصر.. أم الدنيا .. ومجمع الشهد.. وأم الخير والبركات ...
التعليقات (0)