مواضيع اليوم

مصادرة الأموال أو إتلافها كعقوبة تعزيرية

A.Fattah Edris

2012-11-24 17:35:30

0

مصادرة الأموال أو إتلافها كعقوبة تعزيرية

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام علي المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد وعلي آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين .. وبعد:
فإن من العقوبات الشرعية ما وضع له الشارع حدا ووصفا معينا ليس بوسع ولي الأمر أو من ينوب عنه أن يخالفه, كما في العقوبات الحدية ونحوها, ومن العقوبات ما ترك الشارع لولي الأمر سلطة تقديرية في اختيارها وتوقيعها علي من أتي بموجبها, مراعاة لحال ارتكاب الجريمة, وظروف ارتكابها ومرتكبها, ومدي خطورتها علي المجتمع الذي وقعت فيه, والأضرار والمفاسد التي نشأت عنها, كما في العقوبات التعزيرية, ومصادرة المال أو إتلافه علي صاحبه من هذا القبيل, فقد يكون ذلك هو العقوبة المناسبة للتهرب الجمركي مثلا, أو للغش في المواد الغذائية أو الدوائية, أو بيعها بأعلى من ثمن مثلها, تضييقا علي الناس في أقواتهم وأدويتهم, أو إتلاف ما انتهت صلاحيته من ذلك, أو غير المطابق للمواصفات القياسية لإنتاجه, كما أن ذلك قد يكون العقوبة المناسبة للمواد الثقافية التي تغذي الشباب بالفكر المغلوط, أو الأفكار الهدامة أو المخالفة لثوابت العقيدة, أو للثروات التي استخرجت من باطن الأرض أو استغلت فيها عناصر الطبيعة مما لم يأذن فيه ولي الأمر, وقد يكون العقوبة الملائمة لإتلاف آلات اللهو: مثل: آلات الموسيقي وآلات الفيديو جيم والأشرطة المسجلة المشتملة علي مواد محرمة, سواء كانت أشرطة كاسيت أو فيديو أو نحوها, ووسائل المقامرة والميسر وما يستخدم في السحر والشعوذة, وكل ما لا يقره الشرع أو يتنافى مع أحكامه, لذا كان لابد من بيان حكم التعزير بمصادرة هذه الأموال أو الأدوات أو الآلات أو المواد, أو إتلافها علي أصحابها عقوبة لهم .

آراء الفقهاء في حكم مصادرة المال أو إتلافه كعقوبة:
وقد اختلف الفقهاء في حكم التعزير بأخذ المال ( كالغرامة أو المصادرة أو نحوهما )، أو بإتلافه علي مالكه، علي مذهبين:
المذهب الأول:
يري أصحاب أن للإمام أو نائبه أن يعزر بأخذ المال أو إتلافه إذا رأي ذلك, روي هذا عن أبي يوسف، وقال بعض الحنفية: إن التعزير بأخذ المال جائز إذا رأي القاضي أو الوالي ذلك، ومن جملة ما يجوز التعزير فيه بأخذ المال: عدم حضور الصلاة في جماعة من الرجال ونحوه، ويري المالكية جواز التعزير بالتصدق علي المعزر بما باع به الشيء الذي غشه، أو بإتلاف ما يملكه المعزر: كإراقة اللبن علي من غشه، إذا كان يسيرا، وثمة قول للشافعي في مذهبه القديم: بجواز التعزير بأخذ المال، إلا أنه رجع عن قوله هذا، وقال : بنسخ العقوبة بالمال .
المذهب الثاني:
يري من ذهب إليه عدم جواز التعزيز بأخذ المال أو إتلافه, وقد ذهب إليه جمهور الحنفية، وهو ما عليه
المذهب، وقال الطرسوسي: إن مصادرة السلطان لأرباب الأموال، لا تجوز إلا لعمال بيت المال، أي إذا كان بقصد ردها إلي بيت المال، وإلي هذا المذهب ذهب المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، وقال الطحاوي والغزالي: التعزير بأخذ المال كان في ابتداء الإسلام ثم نسخ، وعليه الإجماع، وادعي الدسوقي المالكي: انعقاد الإجماع علي عدم جواز التعزير بأخذ المال .
أدلة المذهبين:
استدل أصحاب المذهب الأول علي جواز التعزير بأخذ المال أو إتلافه علي صاحبه بما يلي:
أولا: السنة النبوية المطهرة: أحاديث منها:
1- روي عن عامر بن سعد " أن سعد بن أبي وقاص  ركب إلي قصره بالعقيق، فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه، فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد علي غلامهم، أو عليهم ما أخذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله ، وأبي أن يرده عليهم " .
وجه الدلالة منه:
أفاد هذا الحديث أن رسول الله  قد أباح سلب من يصطاد في حرم المدينة أو يقطع شجره، وهذا تعزير بأخذ المال ومصادرته ممن ارتكب هذا الجرم .
اعترض علي الاستدلال به:
أ- قال العيني: أما الجواب عن حديث سعد في أمر السلب، فهو أنه كان في وقت ما كانت العقوبات التي تجب بالمعاصي في الأموال، ثم نسخ ذلك في وقت نسخ الربا .
ب- قال ابن بطال: حديث سعد بن أبي وقاص في السلب لم يصح عند مالك، ولا رأي العمل عليه بالمدينة.
ج- قال الشوكاني: إن ما جاء في هذا الحديث هو من باب الفدية، كما يجب علي من يصيد صيد مكة، وإنما عين رسول الله  نوع الفدية هنا، بأنها سلب العاضد فيقتصر علي السبب لقصور العلة، التي هي هتك الحرمة عن التعدية.
2- روي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: " سئل رسول الله  عن الثمر المعلق، فقال: " من أصاب منه بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنه، فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة ".
وجه الدلالة منه:
عبر رسول الله  عن حد السرقة بالقطع، لمن سرق من الثمر - بعد أن يؤويه الجرين - ما قيمته ثمن الترس، بأن سرق نصاب القطع، وعبر عما دون الحد بالعقوبة، وهي التي يستحقها من سرق من الثمر ما قيمته أقل من ثمن الترس، وهذه العقوبة هي التعزير، وأضاف علي ذلك غرم مثلي المسروق، والقياس أن ما أخذه علي هذا النحو يضمن بمثله، فتغريم السارق مثلي ما أخذه هو نوع من التعزير بأخذ المال، فدل هذا علي جواز التعزير بأخذ المال .
3- روي جبير عن عوف بن مالك  قال: " قتل رجل من حمير رجلا من العدو فأراد سلبه، فمنعه خالد بن الوليد
وكان واليا عليهم، فأتي رسول الله  عوف بن مالك، فأخبره ، فقال لخالد: ما منعك أن تعطيه سلبه ؟، قال: استكثرته يا رسول الله ، قال: ادفعه إليه، فمر خالد بعوف فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله ، فسمعه رسول الله  فاستغضب، فقال: لا تعطه يا خالد .. لا تعطه يا خالد ".
وجه الدلالة منه:
أفاد الحديث منع رسول الله  خالد بن الوليد من دفع سلب المقتول لقاتله الحميري، لأن عوف بن مالك أغلظ لأجله الكلام مع خالد، مما أغضب رسول الله ، ومنع السلب عن مستحقه علي هذا النحو نوع من التعزير بأخذ المال .
اعترض علي الاستدلال بهما:
قال الشوكاني: إن هذين الحديثين وغيرهما مما في معناهما واردة علي سبب خاص، فلا يجاوز بها إلي غيره، لأنها وردت علي خلاف القياس، لورود الأدلة كتابا وسنة بتحريم مال الغير، قال تعالي: " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم "، وقال سبحانه: " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلي الحكام "، وقال  في خطبة حجة الوداع: " إن دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام "، وقال: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ".
4- روي بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن رسول الله  قال: " في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون، لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالي، لا يحـل لآل محمد منها شيء ".
وجه الدلالة منه:
أفاد هذا الحديث أن مانع الزكاة تؤخذ منه الزكاة جبرا عليه، ويعزر علي منعه الزكاة بأخذ نصف ماله، فدل هذا علي جواز التعزير بأخذ المال من المعزر .
اعترض علي الاستدلال به:
قال الشوكاني: في سند هذا الحديث مقال، فقد اختلف في بهز بن حكيم، فقال أبو حاتم: لا يحتج به، وروي عن الشافعي أنه قال: ليس بهز حجة، وهذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولو ثبت لقلنا به، وكان قال به في القديم ثم رجع عنه، وقال ابن حبان : لولا هذا الحديث لأدخلت بهزا في الثقات، وقال ابن حزم: إنه غير مشهور العدالة ..، ثم قال الشوكاني: وقد روي ابن الجوزي في جامع المسانيد وابن حجر في التلخيص عن إبراهيم الحربي أنه قال: في سياق هذا المتن لفظه وهم فيها الراوي، وإنما هو " فإنا آخذوها من شطر ماله "، أي يجعل ماله شطرين، ويتخير المصدق ويأخذ الصدقة من خير الشطرين عقوبة لمنعه الزكاة، فأما ما لا يلزمه فلا، وقال بعضهم: إن لفظة " وشطر ماله " مبني للمجهول، ومعناه: جعل ماله شطرين، يأخذ المصدق الصدقة من أي الشطرين أراد.
أجيب عن هذا الاعتراض:
قال بعض العلماء: ما ورد في سند الحديث من المقال مما لا يقدح بمثله، ويجاب عن كلام الحربي وما بعده: بأن الأخذ من خير الشطرين، صادق عليه اسم العقوبة بالمال، لأنه زائد علي الواجب.
5- روي عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : " لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلي قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ".
وجه الدلالة منه:
أفاد هذا الحديث أن رسول الله  هم بإحراق بيوت رجال، لا يشهدون صلاة الجماعة في المسجد، وإحراق بيوتهم هو من قبيل التعزير بإتلاف بعض أموالهم، علي تركهم شهود الجماعة، فدل هذا علي جواز التعزير بإتلاف المال .
اعترض علي الاستدلال به:
قال الشوكاني: إن السنة أقوال وأفعال وتقريرات، والهم ليس من الثلاثة, فلا يكون من السنة التي يستدل بها علي الأحكام الشرعية.
أجيب عن هذا الاعتراض:
قال البعض: إن رسول الله  لا يهم إلا بالجائز شرعا، فالهم وفقا لهذا من السنة.
6- روي عمر بن الخطاب  أن النبي  قال: " إذا وجدتم الرجل قد غل، فاحرقوا متاعه واضربوه ".
وجه الدلالة منه:
أمر رسول الله  بضرب الغال من الغنيمة وإحراق متاعه، وذلك علي وجه التعزير، والتعزير بإحراق المتاع الوارد في الحديث، دليل علي جواز التعزير بإتلاف المال .
اعترض علي الاستدلال به:
أ - قال الشوكاني: في سند هذا الحديث ضعف، ففي إسناده صالح ابن محمد بن زائدة المديني، قال البخاري: عامة أصحابنا يحتجون به وهو باطل، وقال الدارقطني: أنكروه علي صالح ولا أصل له، والمحفوظ أن سالما بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أمر بإحراق متاع الغال، في رجل غل في غزاة مع الوليد بن هشام، قال أبو داود: وهذا أصح.
ب - قال الطحاوي: لو سلم صحة هذا الحديث، لاحتمل أن يكون الأمر بإحراق متاع الغال حين كانت العقوبة بالمال، أي وقد نسخ ذلك .
7- روي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم " أن رسول الله  وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما حرقوا متاع الغال وضربوه ".
وجه الدلالة منه:
أفاد هذا الحديث أن رسول الله  وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، قد عزروا الغال من الغنيمة بضربه وإحراق متاعه، فدل هذا علي جواز التعزير بإتلاف المال .
اعترض علي الاستدلال به :
قال الشوكاني: في سند هذا الحديث ضعف، ففي إسناده زهير بن محمد، قيل: هو الخراساني، وقيل: غيره وهو مجهول كما قال البيهقي، وقد رواه أبو داود من وجه آخر عن زهير موقوفا، قال ابن حجر في الفتح: وهو الراجح.
8- روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " أمرني رسول الله  أن آتيه بمدية - وهي الشفرة - فأتيته بها، فأرسل بها فأرهفت، ثم أعطانيها وقال: اغد علي بها، ففعلت فخرج بأصحابه إلي أسواق المدينة، وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام، فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته، ثم أعطانيها, وأمر الذين كانوا معه أن يمضوا معي ويعاونوني، وأمرني أن آتي الأسواق كلها، فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته، ففعلت فلم أترك في أسواقها زقا إلا شققته ".
وجه الدلالة منه:
أفاد هذا الحديث أن رسول الله  شق أزقة الخمر وأمر أصحابه بشقها، وإتلافها علي هذا النحو عقوبة لأصحابها، وإلا فإنه يمكن الانتفاع بها بعد تطهيرها، فدل هذا علي جواز التعزير بإتلاف المال.
اعترض علي الاستدلال به:
قال الشوكاني: ذلك من قبيل قطع الذريعة إلي الفساد ، وذلك حتي لا تستغل مرة أخري في حفظ الخمور أو نقلها إلي حيث تباع .
ثانيا : آثار الصحابة:
روي عن علي  " أنه أحرق طعام المحتكر، كما أحرق دور قوم كانوا يبيعون الخمر، وهدم دار جرير بن عبد الله "، كما روي عن عمر  " أنه شاطر سعد بن أبي وقاص في ماله الذي جاء به من العمل الذي بعثه إليه، وضمن حاطب بن أبي بلتعة مثلي قيمة الناقة التي غصبها عبيده وانتحروها، وروي عنه أنه غلظ وابن عباس رضي الله عنهم الدية علي من قتل في الشهر الحرام في البلد الحرام " .
وجه الدلالة منها:
إن ما فعله هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم هو من قبيل التعزير بأخذ المال أو إتلافه، ولم يكن لهم أن يفعلوا ذلك إلا عن توقيف، لأنه لا مدخل للرأي فيه .
اعترض علي الاستدلال به:
قال الشوكاني: إذا سلم صحة إسناد هذه الآثار وانتهاضها للاحتجاج بها، فإن ما فعله علي  هو من قبيل قطع ذرائع الفساد: كهدم مسجد الضرار وتكسير المزامير، وأما المروي عن عمر وابن عباس رضي الله عنهم فهو قول صحابي أو فعله، وهو لا ينتهض للاحتجاج به, ولا يقوي علي تخصيص عمومات الكتاب الكريم والسنة المطهرة، من مثل قول الحق سبحانه: " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل "، وقول رسول الله : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم "، وقوله : " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ".
استدل أصحاب المذهب الثاني علي عدم جواز التعزير بأخذ المال أو إتلافه بما يلي :
أولا: النص:
إن الشرع لم يرد بأخذ المال من المعزر أو إتلافه عليه، فلا يجوز تعزيره بأي منهما، لأن التعزير أدب والتأديب لا يكون بذلك.
ثانيا: الإجماع:
حكي الشيخ محمد بن عرفة الدسوقي الإجماع علي عدم جواز التعزير بأخذ المال، وقال: ما روي عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، من أنه جوز للسلطان التعزير بأخذ المال، فمعناه كما قال البزار الحنفي: أن يمسك المال عنده مدة لينزجر مقترف المعصية ثم يعيده إليه، لا أنه يأخذه لنفسه أو لبيت المال كما يتوهمه الظلمة، إذ لا يجوز لأحد من المسلمين أخذ مال مسلم بغير سبب شرعي: كشراء أو هبة، وحكي الطحاوي والغزالي الإجماع علي نسخ العقوبة التعزيرية بالمال، بعد أن كانت مشروعة في ابتداء الإسلام.
اعترض علي الاستدلال بنسخ العقوبة بالمال:
قال النووي: الذي ادعوه من كون العقوبة كانت بالأموال في أول الإسلام، ليس بثابت ولا معروف، ودعوي النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ.
ثالثا: المعقول:
إن الفتوي بجواز التعزير بأخذ المال، يؤدي إلي تسليط الظلمة علي أخذ مال الناس فيأكلونه، وقد نهي الشارع عن ذلك.
المناقشة والترجيح:
إن الذي تركن النفس إليه من هذين المذهبين - بعد استعراض أدلتهما، وما أعترض به علي بعضها وما أجيب به عن بعض هذه الاعتراضات - هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول، من جواز التعزير بأخذ المال أو إتلافه علي مالكه، وذلك لقوة ما استدلوا به علي مذهبهم من السنة في الجملة، ولا ينال من حجية الأحاديث التي استدلوا بها ما اعترض به علي بعضها، فقد أجيب عن بعض هذه الاعتراضات، وما لا يجب عنه منها مبناه علي نسخ الأحاديث الدالة علي العقوبة بالمال، أوعلي خصوصية هذه العقوبة بمن وقعت عليهم، وكلاهما غير مسلم، وذلك لأن النسخ يحتاج إلي معرفة الدليل الناسخ وثبوته ومعرفة تاريخه، والدليل الناسخ لم يثبت ولم يعرف كما قال الإمام النووي، وإذا سلم ثبوته فإنه لا يعلم تاريخه، ومن ثم فلا تسلم دعوي النسخ، لأن الأصل عدمه، ولم يرد في الأحاديث الواردة بالعقوبة المالية ما يدل علي خصوصيتها بمن وقعت عليهم، فتظل علي عمومها، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وما استدلوا به من آثار الصحابة متوجه علي مذهبهم، ولا ينال من حجيته ما اعترض به الشوكاني عليه، وذلك لأن ما فعله هؤلاء الصحابة هو عقوبات تعزيرية، فإن قطعت بها الذرائع إلي الفساد، فتلك وظيفة العقوبة بوجه عام، وقول الشوكاني: إن المروي عن الصحابة لا يقوي علي تخصيص عمومات الكتاب الكريم والسنة المطهرة، هو مذهب له تابعه فيه الحنفية والحنابلة، الذين يجيزون التخصيص بذلك، ولا نقول به، وإنما نقول في هذا المقام: إن أقوال الصحابة وأفعالهم هذه لم تخصص عمومات الكتاب والسنة الدالة علي عدم حل أخذ مال المسلم بغير رضا منه، وإنما خصصتها أقوال وأفعال من لا ينطق عن الهوي ، وقد سبق في أدلة أصحاب المذهب الأول بعض هذه الأقوال والأفعال .
وأما ما استدل به أصحاب المذهب الثاني، فلا يقوم حجة لهم علي مذهبهم، فقولهم: إن الشرع لم يرد بأخذ المال من المعزر أو إتلافه عليه، تنقضه الأحاديث السابقة التي تدل علي ورود الشرع بهذه العقوبة، واستدلالهم بالإجماع غير مسلم، لوجود من ينازع في حكم هذه المسألة، فضلا عن ورود اعتراض علي دعواهم نسخ هذه العقوبة لم يمكنهم دفعه، فنال من حجية دليلهم هذا، واستدلالهم بالمعقول علي حكم هذه المسألة، هو استدلال بمعقول في مواجهة النصوص التي استدل بها أصحاب المذهب الأول، وهو لا يجوز، ومنع هذه العقوبة بدعوي سد الذريعة أمام الظلمة من الحكام، لا يقتضي منعها بالنسبة لمن لا يتحقق منه أخذ المال ظلما، وذلك لأن الأصل عدم الظلم في أخذ المال أو إتلافه كعقوبة للمعزر .

أ.د. عبد الفتاح محمود إدريس

أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن

بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر

وعضو مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !