بقلم: د. زاهي حواس
مشروع قانون الآثار الجديد.. هو قضيتنا اليوم. وبداية أقول لقد أردنا أن نحمي مصر من لصوص تاريخها وشرفها وضميرها القومي المتمثل في أغلي ما تملكه من كنوز الآثار المصرية التي يحسدنا عليها العالم أجمع.. ولا يملك العالم كله ربعها أو حتي خمسها.
والحماية تتمثل في قانون الآثار الجديد الذي عرضناه بعد خمس سنوات من الجهد والعرق والسهر وعشرات الاجتماعات حتي وصل الي مجلس الشعب الموقر..
واسمحوا لي هنا أن أجيب علي ما أثير حول قانون الآثار من تساؤلات نشرت في الصحف, بل وتناولتها برامج تليفزيونية عديدة, وكان من الغريب أن تجد هناك معارضين لبعض المواد التي نطرحها في التعديلات الجديدة, وذلك دون أن يناقش الأسباب التي دفعتنا لطرح هذه التعديلات.
بل وآثارها العظيمة بالنسبة لأمننا القومي ومصالحنا العليا, ونقصد بها حماية أعز ما نملك من ميراث وهو تراثنا الحضاري الذي لايمكن أن يعوض بأي حال من الأحوال.
لقد قيل إن القانون لم يراجع.. وان هناك أخطاء لغوية.. ولابد أن نعرف هنا للحق وللتاريخ أن فاروق حسني وزير ثقافة مصر قام بتشكيل لجنة برئاستي وعضوية العديد من المستشارين بمجلس الدولة والقضاء, لمناقشة تغيير القانون117 لسنة1983.. وقد استمرت المناقشات والاجتماعات لمدة خمس سنوات كاملة, وبعد ذلك عرضنا علي السيد وزير الثقافة ما تمخض عن هذه المناقشات والمراجعات, والتي أرسلت الي مجلس الدولة للمراجعة ثم الي الحكومة..
وعقد الدكتور مفيد شهاب بعض الاجتماعات بمجلس الوزراء كان فاروق حسني حاضرا في بعضها, وأخري حاضرا بها.. وكان الدكتور مفيد شهاب متحمسا جدا للقانون أكثر من تحمس الأثريين أنفسهم, ويستحق الرجل منا وسام احترام وتبجيل..
بعدها عرض القانون علي لجنة الثقافة والسياحة والإعلام بمجلس الشعب ونوقش مرات عديدة بحضور ممثلين من اللجنة التشريعية, نخص بالذكر منهم الدكتورة آمال عثمان, خلاصة القول إن ما تم تقديمه الي مجلس الشعب كان قد مر بمراحل عديدة ومراجعات من قانونيين وتشريعيين ولغويين فطاحل..
وكان لابد من أن نوضح للناس لماذا اقترحنا هذه العقوبات والغرامات المشددة, والتي سببت انزعاج بعض الناس, وكانت كل اعتراضاتهم خاصة ببنود العقوبات, بل وأشار البعض إلي أن أوروبا وأمريكا لا يوجد في قانونها مثل هذه العقوبات المشددة فيما يتعلق بحماية التراث, وهنا لابد من أن نذكر هؤلاء أن مصر بلد فريد في تراثه وفي حضارته, ولايمكن بأي حال من الأحوال أن نقارن بين وضع تراثنا الحضاري بأي دولة أو مكان في العالم, فإن هذه الدول عندما تحدث بها سرقة لمنتج حضاري يكون عبارة عن لوحة فنية, أو ساعة أثرية, أو سجادة ثمينة.
أما في بلدنا فهناك من يقوم بالحفر خلسة, بل ويكسر المقابر ويقوم بنشر التماثيل واللوحات الجدارية التي صنعها أجدادنا من آلاف السنين, إذن فالمقارنة هنا ظالمة, وأؤكد أن لو أي دولة تملك ما نملكه لكانت اقترحت ما اقترحناه من عقوبات وربما أشد منها..!
في مصر نعاني من تعديات علي أرض الآثار, قدرت بنحو ثمانية آلاف تعد كل سنة تهدد تراثنا الحضاري, بل وتساعد علي طمس واخفاء فترات تاريخية مهمة الي الأبد, وفي مناطقنا الأثرية التي يقصدها آلاف السائحين يهجم عليهم الباعة الجائلون, وآخرون يرغمونهم علي ركوب الدواب, وعندما يتم القبض علي أحدهم يتم عمل محضر له ويقوم بدفع غرامة تقدر بخمسين جنيها مصريا, هكذا وبهذا الثمن يتم تشويه صورة حضارتنا والإساءة لشعبنا..
لهذه الأسباب وغيرها كان لابد من وجود قانون جديد يعالج مشكلات القانون القديم ويسد ثغراته, فيعاقب كل معتد علي أرض أثرية أو يهدم أثرا بعقوبة السجن مدة لا تقل عن خمس سنوات, وغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه.. ويعاقب كل من يشوه أثرا أو يتلفه عامدا متعمدا بالحبس مدة لا تقل عن سنة.. هذه هي العقوبات الجديدة ولو عدنا واكتفينا بالقانون القديم لاستمرت التعديات وزادت أعمال السرقة والتشويه لآثارنا ولاستمر نزيف الحضارة في بلد كان أبناؤه يقدسون ترابها, فرفض مصري يسمي سنوحي أن يدفن في أرض غير أرض مصر حتي ولو في تابوت من ذهب وأرسل الي ملك مصر يستعطفه أن يسامحه ويأمر بعودته لكي يموت ويدفن في تراب مصر.. فهل نحن صادقون فعلا علي حماية تراث هذا البلد؟
لقد كنت حاضرا مؤتمرا عن استعادة الآثار المسروقة الذي عقد في روما تحت مظلة هيئة اليونسكو وجاءت التوصيات أن تقوم كل دولة باتخاذ ما يتسني لها من إجراءات صارمة لحماية تراثها الحضاري, ومن ضمن هذه الإجراءات تغليظ عقوبة السرقة, وذلك بعد تأمين وحراسة المناطق الأثرية والمتاحف, ولذلك وعندما توليت أمانة المجلس وضعت نصب عيني ضرورة تنفيذ هذه التوصيات, وقمنا بوضع28 وحدة أثرية عند منافذ جوية وبرية وبحرية, ولهذا نسمع يوميا عن ضبط العديد من المهربين, بل ووصل البعض في أن يملأ الحاويات بآثار مقلدة ويدس بينها قطعة أو قطعتين من آثار حقيقية فريدة لكي تهرب الي الخارج.
ولقد ساعدنا جهاز الخدمة الوطنية للقوات المسلحة في بناء ما يقرب من36 مخزنا متحفيا علي مستوي عال, يتشابه في الشكل والمضمون مع المتاحف, ومزودة بأحدث الوسائل للحفاظ علي الآثار ومعامل تصوير وترميم وحراسة إلكترونية, وذلك كخطوة مهمة للتخلص نهائيا من المخازن التي كانت تبني بالطوب اللبن وتخزن فيها الآثار بطريقة عشوائية.. ولا ننسي أنه في قضية الآثار الكبري والتي اتهم فيها مصريون وانجليز وأمريكان, اتضح أنهم كانوا ينقبون أسفل المخازن ويسرقون الآثار والمخزن مغلق ولا يعرف أحد أن السرقة تتم من أسفل المخزن, وبعد فتحه بطريقة الصدفة يتم اكتشاف السرقة, كذلك قمنا في المجلس الأعلي للآثار بتعيين نحو ثمانية آلاف حارس آثار متعلم.
وفي نفس الوقت, يتم تسجيل الآثار, لأن البعض يهلل أن آثارنا مسجلة وهذا خطأ ونحن علي أرض الواقع, والحقيقة أنه حتي الآثار الموجودة بالمتاحف غير مسجلة, مثال علي ذلك عندما قمنا بتطوير المتحف اليوناني الروماني وجدنا أن أغلب آثاره غير مسجلة.. هل يتصور أحد ذلك؟ لقد ظل الأثريون يسجلون الآثار طوال أكثر من عام.. فماذا كان يفعل الأثريون من قبل؟ الإجابة معروفة هي خدمة الأجانب في المقام الأول دون النظر الي العمل الأساسي لأمين المتحف, وهو البحث وتسجيل ومراقبة سير الأثر, سواء داخل المتحف أو خارجه اذا كان في معرض خارج المتحف مثلا, أو أعير الي متحف آخر.
تري هل يتصور أحد أن نظل نعمل بالقانون القديم ونترك آثارنا للعصابات الدولية والمحلية تسرق وتهرب الآثار الي خارج البلاد دون قانون رادع؟!
لقد وجدنا ثغرات كثيرة في القانون القديم, منها أن تجار آثار مسجلون رسميا برغم أنهم لا يزاولون تجارة الآثار, إلا أن بعضهم يتخذ الاسم التجاري للاتصال بتجار الآثار في الخارج.. لذلك وجب ضرورة إلغاء التجارة, والاستيلاء أو شراء ما بحوزتهم من آثار.. هذا بالإضافة الي اعطاء الحرية الكاملة للحائزين علي قطع أثرية عن طريق الإرث أو الشراء أو الاقتناء في أن يفعل بها ما يشاء عدا البيع للخارج أو اتلافها عمدا, وهنا واجب الدولة في حماية ما يملكه الفرد دون المساس بالملكية الخاصة, وفي حالة ضم الدولة لأرض أثرية غير مسجلة أو منزل أو عقار أثري فإن واجب الدولة أن تعوض صاحبها بالتعويض المناسب.
كما تم إلغاء نسبة الـ10% التي يتم اعطاؤها للبعثات الأجنبية في القانون القديم, وأن ينص في القانون الجديد علي مقاضاة الأجانب في الداخل.. وقد يقول البعض وما الفائدة؟ وهنا أعرض لكم مثالا, فلو وجدنا أن هناك قطعة أثرية مسروقة وموجودة بأحد المتاحف الأمريكية أو الأوروبية ورفض هذا المتحف تسليمها لمصر.. في هذه الحالة فإن الحل الوحيد هو أن يتم اقامة دعوي في البلد الذي يقع فيه المتحف وبذلك تتكلف ملايين الدولارات.. وقد نخسر القضية!
فماذا فعل القانون الايطالي؟.. وضع مادة أن يتم مقاضاة مدير المتحف الذي يحوز القطعة في ايطاليا.. وقد حدث أن حكم القضاء الايطالي بالسجن ثلاثة أشهر لمديرة متحف بول جيتي لوجود قطعة أثرية ترجع للعصر الروماني بالمتحف, وعلي الفور اجتمع مجلس الادارة وقرر إعادة التمثال الأثري علي الفور الي ايطاليا انقاذا لسمعة مديرة المتحف, ولدينا العديد من القطع الأثرية الموجودة بمتاحف أوروبا وأمريكا ولم نستطع اعادتها حتي الآن برغم وجود أدلة لدينا بسرقتها..
أما المادة الأخري المهمة فهي العلامة التجارية.. فقد صفق العالم كله عندما أعلنا أننا بصدد تسجيل آثارنا المهمة, سواء مواقع أثرية مثل الهرم وأبوالهول أو قطع أثرية مهمة مثل تمثال خفرع أو قناع الملك توت عنخ آمون, وقد اخترنا نحو150 أثرا للتسجيل ويصبح محميا ضد الاستغلال في الاعلانات التجارية أو المباني إلا بإذن من المجلس الأعلي للآثار.. حتي نحمي تراثنا من التقليد, بل والاستخدام السيئ كأن تنشأ في أمريكا صالة قمار علي هيئة معبد مصري.. وفي القانون الجديد يكون المجلس الأعلي للآثار السلطة الوحيدة التي تمنح التصريح بعمل النماذج الأثرية ومنع عمل نماذج مشابهة تماما وبذات المقاسات, أي عمل صورة طبق الأصل من الأثر, وهو الحق الذي يحتفظ به المجلس الأعلي للآثار وحده دون أي جهة أخري.وهذا البند الذي وضعناه يحمي صناعتنا الوطنية من الانتاج الصيني, وسوف يجعل مصر تنافس الصين بعد أن يصبح لنا وحدنا الحق في عمل النماذج الأثرية ومنح التصريح لعملها بشروطنا.
وقد وجدت أن البازارات التي تقوم علي هامش المعارض في الخارج تعرض نماذج مصنوعة في الصين, وعارضت ذلك فأحضروا الي نماذج من الآثار التي تنتج بخان الخليلي ـ عبارة عن صناعة سيئة وسعر عال جدا.. أما نموذج الصين, فالثمن رخيص والصناعة جيدة.. لذلك فنحن نريد حماية الصناعة الوطنية وأيضا حماية الآثار وضرورة استغلال آثار مصر لزيادة الدخل القومي.. هذه هي فلسفة قانون الآثار.. وغدا سوف يناقش المجلس القانون.. وكل شعب مصر في انتظار أن يوافق السادة النواب علي القانون الذي سوف يحافظ علي تاريخ مصر ويحفظ ذاكرة الأمة.
http://www.ahram.org.eg/47/2010/01/16/4/3549.aspx
التعليقات (0)