الشرق الأوسط الجديد..من الفكرة الى التنفيذ [2/11]
مشروع صهيو-أميركي من تنفيذ إيراني
من الحلقة السابقة، نستخلص أن مشروع "الشرق الأوسط الكبير" أو "الجديد"، ينص على إعادة تقسيم البلدان الحالية في المنطقة إلى دوليات صغيرة، انطلاقاً من ديموغرافيتها القائمة على الأديان، والمذاهب، والقوميات، والأقليات، بغية تحقيق الهدف الذي قام عليه هذا المشروع، ألا وهو استيعاب إسرائيل في المنطقة، بصفتها دولة يهودية، وتأمين حمايتها عبر إضعاف الدول المحيطة بها، فضلاً عن قطع الطريق أمام أي صحوة إسلامية سنية أو عربية، قد تستعيد نفوذها ووحدتها في تلك البلاد، فتمحو إسرائيل من الخارطة.
فما هي الأدوات التي وقع عليها الخيار لتنفيذ المشروع الصهيو-أميركي؟
أولاً- الأدوات البشرية: إيران والأقليات الشيعية المرتبطة بـ"ولاية الفقيه": كان طبيعيًا من خلال طروحات "بيرنارد لويس" و"رالف بيترز"، التي شددت على ضرورة أن يتم التقسيم على أساس طائفي او مذهبي اوعرقي، كان طبيعيًا أن يجري البحث عبر دراسات استشراقية دقيقة عن الطائفة أو المذهب أو العرق الأنسب للقيام بمهمة التفتيت المنشود صهيونيًا في المنطقة؛ وقد ذكر "رالف بيترز" صراحة(راجع المقال الأول) ما أسماها بأنها "الجماعات أو الشعوب التي خدعت حين تم التقسيم الأول"، وعد أهمها:"الأكراد، والشيعة العرب".
واستطرادًا نقول: ربما ركز "بيترز" على هذين العنصرين دون سواهما من مكونات المنطقة، لكونهما موزعَين ديموغرافيًا على العديد من بلدان المنطقة المتقاربة جغرافيًا بالنسبة للأكراد، والأكثر اتساعًا وتباعدًا بالنسبة للشيعة، ولأنهما بحسب إشارته يشعران بالضيم والظلم ما سيشكل حافزًا ودافعًا معنويًا كبيرًا لقيامهما بتلك المهمة. ومن نافل القول انه جرى استبعاد المكوّن السني، لا لأنه يمثل السواد الأعظم من سكان المنطقة وحسب، بل كونه يمثل الخطر الأعظم الذي أُنتِج هذا المشروع وما سبقه من مشاريع من أجل انهاء آمال توحده واستعادته لقوته.
إزاء هذا الواقع، لم تجد الصهيونية العالمية أمامها سوى اتباع خطة دعم الأقليات المتواجدة في العالمين العربي والإسلامي، وعلى الأخَصِّ تلك التي تنسب نفسها الى الإسلام، وذلك ليَسهُل تأثُّر المسلمين بها وتعاطفهم معها، وبالتالي شق الصف الإسلامي، وعلى أن تكون قوميتُّها غير عربية، لشقِّ الصف العربي. وعلى أكتاف هذه الأقليات يُعاد تقسيم العالمين العربي والإسلامي إلى دويلات صغيرة تَسهُلُ السيطرة عليها، وبهذا يتحقق الحلم الصهيوني العالمي بالسيطرة على العالم أجمع، وتنعم إسرائيل بالأمن والسلام.
صحيح أن لكل بلد أقيلياته وطوائفه التي يمكن دعمها واستغلال تطلعاتها وأطماعها لتنفيذ ذلك المشروع؛ لكن بشكل عام، ومن مجريات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط منذ العام 2000 تحديدًا، أي مع الانسحاب التكتيكي الإسرائيلي من الجنوب اللبناني الذي رفع في المنطقة أسهم إيران وحزبها في لبنان -لكي لا نعود الى العام 1979 حيث تمّ إعلاء شأن صاحب بدعة "ولاية الفقيه" ووليها الأول الخميني وثورته-، الظاهر أن الاختيار الصهيو-أميركي وقع على إيران صاحبة القومية الفارسية، والأقليات الشيعية المتحالفة معها والمنصاعة لـ"ولاية الفقيه"، نظراً لحقد غلاة الفرس وغلاة الشيعة التاريخي الديني والعرقي على غالبية سكان هذه المنطقة من العرب والسنة، واستعدادهم للثأر والانتقام من هذه الأكثرية عندما تتاح لهم الفرصة المناسبة، استعادة لأمجاد مندثرة وحقوق مزعومة...
ومن جهة ثانية، ثمة اعتقاد خطير لدى غلاة شيعة "ولاية الفقيه"، يحفز الرهان التقسيمي عليهم، مفاده أن تمكين نفوذهم في بعض المناطق، إضافة إلى مساهمتهم في إشاعة الفساد في الأرض وكذلك كثرة القتل والهرج والمرج والفوضى، كل ذلك يؤدي-في اعتقادهم- الى التعجيل في ظهور "المهدي" الذي ينتظرونه، وتهيئة الظروف لقدومه وتسلمه زمام الحكم. ولذلك نرى الرئيس الإيراني "محمود أحمدي نجاد" يهلوس بين الحين والآخر بهذه المعتقدات. فيوم سقوط نظام "مبارك" في مصر (11/2/2011) والذي وافق الذكرى 32 لـ"لثورة الخمينية"، قال "نجاد": "ان ما يحدث من ثورات شعبية إنما هي ثورة الإمام المهدي، ونحن في منتصفها الآن"، ولم ينس السلاح الدعائي والتضليلي الذي يأكل به عقول البسطاء، فبشّر "بهزيمة أمريكا واسرائيل وانتصار الثورة التي يرى فيها يد الامام المهدي". وفي 3/3/2011، قال "نجاد": "ان التطورات الجارية حالياً والثورات الشعبية في بعض دول المنطقة، هي بمثابة تحرك في اتجاه النهج الإلهي والإنساني الأصيل، وبداية لحصول حدث مهم وعد به الانبياء"!
وفي مراجعة تاريخية سريعة، ندرك أن ثمة أحلامًا فارسية باستعادة أمجاد كسرى المجوسية ونفوذ الدولة الصفوية. كما هناك طموحات إيرانية-شيعية لاستعادة أمجاد العبيديين (من سلالة الشيعة الإسماعيلية الباطنية) الذين أطلقوا على أنفسهم إسمًا تسويقيًا دعائيًا وتضليليًا هو "الفاطميين"، راح دعاتهم يجوبون به البلدان لتثبيت دعوتهم، لاسيما في مواسم الحج في مكة والمدينة، وأيضاً في اليمن والعراق وبلدان مصر والمغرب، متخذين منه ستارًا لنشر فكرهم المنحرف والدخيل على المجتمع الإسلامي.
وقد استطاع هؤلاء هؤلاء المنحرفين، بناء دولة حكمت تونس ومصر والشام، وعلى فترات ليبيا والجزائر والمغرب، وأجزاء محدودة من غرب الجزيرة العربية وصقلية، وكان لها نفوذ قوي في شمال السودان. وذلك كله قبل أن تسقط دولة العبيديين على يد صلاح الدين الأيوبي ، الذي اتخذ هذا القرار الجريء قبل "معركة حطين"(583هـ1187م) بسبع عشرة سنة، فقد كان هذا القائد ذا نظرة جيو-سياسية ثاقبة، جعلته يدرك أنه لن ينتصر على الصليبيين ولن يتمكن من تحرير بيت المقدس، إلا بعد إسقاط تلك الدولة الخبيثة التي أذاقت السواد الأعظم من المسلمين ألوانًا شتى من العذاب.
وإذا تمعنا في خارطة نفوذ العبيديين، سنجد أنها مكونة اليوم من دول مستهدفة بمخطط التقسيم، وأنها مشمولة بموجة الثورات المعدية التي نشهدها اليوم، وأنها الدول نفسها التي تحاول إيران وملحقاتها مد نفوذها إليها، ومنها ما وقع بالفعل في القبضة الإيرانية، لكن هذه المرة تحت عنوان "تصدير الثورة الإسلامية"، وبأساليب دعائية مبتكرة تعتمد على شعارات "المقاومة" و"الممانعة" و محاربة "الشيطان الأكبر" و"تحرير فلسطين".
وبذلك يكون هذان العنصران (إيران وأتباع "ولاية الفقيه") الخنجر المسموم، الذي سيتم بواسطته تقطيع المنطقة وتفتيتها، وإعادة هيكلتها من جديد. هذا ما حصل فعلاً في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان، وهو ما يحصل اليوم في البحرين واليمن والسعودية؛ وما "الهلال الشيعي" الذي امتد من أفغانستان الى لبنان بقيادة إيران، إلا بداية ودرع حماية للمصالح المشتركة مع السياسة الصهيو-أميركية، والتي تستغلها الأخيرة لتنفيذ حلقات مشروعها التفتيتي الشهير.
ثانيًا- العنصر الإعلامي والدعائي: قناة "الجزيرة" القطرية: كان ذلك، بالنسبة للعنصر البشري الذي أوكلت اليه مهمة تنفيذ "مشروع الشرق الأوسط الجديد". وفي زمن الثورة المعلوماتية والإعلامية التي أثبتت عظم تأثيرها في تكوين مزاج الرأي العام والتحكم به، كان لا بد من الاستعانة بوسيلة إعلامية وإعلانية في آن واحد، يتم من خلالها الترويج والدعاية وأحيانًا التحريض والتوجيه والتنظير لكل ما من شأنه خدمة ذلك المشروع الصهيو-أميركي وأدوات تنفيذه البشرية (إيران وملحقاتها من شيعة "ولاية الفقيه" وسواهم)، وبالتالي الإسهام في تزخيم عجلة سيره، فكان أن أُنشِئت في دولة قطر قناة "الجزيرة" الفضائية المشبوهة، التي تمثّل حقيقة صوت الخارجية القطرية وصورتها الى العالم. كما جرى تكريس العديد من القنوات الفضائية ذات الواجهة العربية لخدمة الرؤية الأميركية عبر الغسيل الدماغي المنظم، لتهيئة الشعوب في المنطقة للتغيير المتدرج والشامل. وتوازيًا مع ذلك، تم تفعيل دور المنظمات الحقوقية والإنسانية ذات التوجهات الأميركية، وتم تسريب وثائق سرية من شأنها أن تخلق استعدادًا نفسيًا وتهيئة شعوبية للتغيير، لكن من سيّئ الى أسوأ.
انطلقت فكرة انشاء محطة "الجزيرة" من أطروحة الرئيس الأميركي الأسبق "جورج بوش الاب" بعد حرب الخليج الثانية : "الأرض مقابل السلام" والتي تعرقلت مسيرتها، فكان لابد من حلحلة الأوضاع بطريقة أو بأخرى، وأهم هذه الطرق تغيير الفكر والنظرة العربية نحو إسرائيل، وتقبل الواقع والتأقلم مع الوجود الصهيوني في المنطقة، وربطه بعلاقات سياسية واقتصادية وإعلامية، ومن هنا ظهرت فكرة قناة "الجزيرة" على السطح في البداية بعد قبول قطر لعب هذا الدور مغلفًا بشعار "الرأي والرأي الآخر". وهذا يظهر بوضوح من خلال المساحات الواسعة التي تمنحها "الجزيرة" لمسؤولين إسرائيليين لإسماع وجهات نظرهم بشأن الصراع في الشرق الأوسط، وتوازيًا مع ذلك تمار دورها كبوق دعائي للمنظمات الإرهابية وتلك التي تتاجر بما يسمى "مقاومة" و"ممانعة"، والتي تحتاجها إسرائيل للمضي في سياستها.
وهذا أمر لا يستدعي كثير بحث وتدقيق، ولا سيما ان الدولة التي جيّشت إعلام "الجزيرة" بأكمله ليحارب إسرائيل في العلن هي قطر، التي قدّمت نحو ثلث مساحة أراضيها للولايات المتحدة الأميركية التي بنت عليها اكبر قاعدتين عسكريتين أميركيتين كانت تدار منهما يوميًا عمليات الحرب في العراق، وتتدفق منهما "الصواريخ الذكية" ومختلف الذخائر لإسرائيل في أثناء مسرحية "حرب تموز" 2006، ومحرقة "غزة" 2008-2009.
علاوة عن ذلك، فإن قطر تقيم في العلن أيضًا مع العدو الإسرائيلي أمتن العلاقات على تنوع مجالاتها السياسية والاقتصادية والثقافية والتطبيعية، وتستقبل بشكل دوري وفي لقاءات حميمة بالغة الحفاوة، مسؤولين إسرائيليين مثل "بيريز" الذي شارك وحاضر في أحد المؤتمرات عام 2007، و"ليفني" التي استضيفت بدعوة شخصية من الشيخة "موزة"، ومؤخرًا زوجة "نتنياهو" التي حضرت مهرجان الأغنية في قطر، إلا أن شدة موضوعية وصدقية والتزام قناة "الجزيرة" -قناة الممانعة والمقاومة بامتياز- تمنعها من إبراز ذلك كله وسواه من خيانات العائلة القطرية الحاكمة في نشرات أخبارها، وكذلك موقف الشعب القطري من حكامه!
وفي هذا السياق، كشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" عام 2007 في أحد اعدادها ، أن رجل الأعمال الإسرائيلي "حاييم سبان"، الذي يحمل الجنسية الأميركية أيضًا، أجرى مفاوضات مع أمير قطر لشراء 50% من أسهم قناة "الجزيرة" الفضائية القطرية، الا ان تلك المفاوضات توقفت بعد أن قرر الأمير القطري استئجار خدمات شركة مدققي الحسابات الدولية "برايس-ووترهاوس"، من أجل تحديد سعر للقناة الفضائية.
وقد تزامن ظهور القناة القطرية ولمعان نجمها في العالم العربي، مع فورة الإسلاميين المتشددين والتكفيريين التي اجتاحت الدول العربية والعالم، وعملت إسرائيل وأميركا على استغلالها وتحويل هذه الجماعات وفي طليعتها "تنظيم القاعدة" الى زعزعة الداخل الإسلامي عبر تغذيتها سياسيًا وإعلاميًا. وبالفعل، كان لحكومة قطر وقناة "الجزيرة" الدور الأكبر في ذلك مع التغطية الشاملة والدقيقة والجذابة لأحداث 11 ايلول2001، وما تلاها من الحرب على أفغانستان، وتخصيصها دون سواها من قنوات العالم بعرض حصري لمقابلات وافلام "تنظيم القاعدة" وزعيمه اسامة بن لادن صنيعة الإستخبارات الأميركية "سي آي اي".
ولم تكتف الإدارة الأميركية والإسرائيلية بذلك، بل أحيت النزعة القومية العربية ممثلة في البعثيين والناصريين، وأصبح الجميع في صراع ايديولوجي وسياسي وسباق حميم نحو السلطة تحت مسميات مختلفة وتحالفات مشبوهة، وتكفلت قناة "الجزيرة" كالعادة في كل ما من شأنه التفرقة، بالدور الإعلامي، وتكفلت حكومة قطر بالدور السياسي.
ولا بد من القول، إن قطر ما كان لها أن تفرض نفسها على الساحة السياسية في المنطقة، ساحبة البساط من تحت أقدام دول عربية لها تاريخها الوازن في هذا المضمار، لولا الدور المشبوه التي تكفلت بلعبه في النطقة، ولولا السطوة الإعلامية التي اكتسبتها عن طريق قناة "الجزيرة". وقد كشفت بعض وثائق " ويكيليكس " الأخيرة هذه الحقيقة حينما أكدت أن دولة قطر تتخذ من " الجزيرة " و سيلة للضغط على الدول العربية...
وقد لعبت "الجزيرة" التي يشرف أمير قطر (البار بوالده) شخصيًا في بعض الأحيان على إعداد و"منتجة" بعض تحقيقاتها، لعبت دورًا بارزًا في رفع أسهم إيران وملحقاتها في المنطقة، وساهمت بشكل كبير في شق الصف العربي والإسلامي، فانحازت مثلا لحركة "حماس" ذات الولاء الإيراني على حساب"فتح"، ولفريق 8آذار المسيّر من قبل المحور السوري-الإيراني بقيادة "حزب ولاية الفقيه" في لبنان، كما عزفت على أوتار الجماهير العربية في اجتماعات الجامعة العربية أو غيرها.
وكان لافتا أن يختار الإرهابيون محطة "الجزيرة" القطرية المشبوهة، مساء 14 شباط 2005، لعرض شريط مصوّر أعلنت فيه جماعة مجهولة تطلق على نفسها اسم "جماعة النصرة والجهاد في بلاد الشام"، مسؤوليتها عن اغتيال الحريري.
وكان لافتا أيضًا، تبني قناة "الجزيرة" لبيانات واشرطة تنظيم "فتح الاسلام" الارهابي يوم اعتدى على الجيش اللبناني في ايار2007، وكأنها الجهاز الإعلامي الرسمي لهذا التنظيم! وقد استغل هؤلاء التكفيريون وجود طاقم "الجزيرة" الميداني كضيوف عندهم، وتعاملوا مع شاشتها كـ"صديق"، ليظهروا الجيش كـمعتدٍ وأنفسهم كـ"ضحايا ومقاتلين شرفاء" و"أصحاب قضية"، وليس مجموعة تكفيرية مدعومة من الإستخبارات السورية، تمتهن الذبح والقتل العشوائي وتفجير النفس، لزعزعة الأمن في لبنان ومحاربة "قوى 14 آذار". والأخطر من ذلك، أن تلك القناة المشبوهة اتخذت يوم اندلاع "حرب مخيم نهر البارد"، موقفًا يساهم في اثارة الفتنة بين اللبنانيين والفلسطينيين، حيث ادعت بعد مضي يومين على حصار المخيم من قبل الجيش اللبناني، أن الناس في المخيم "باتت تأكل الكلاب الميتة"، وذلك في محاولة للإيقاع بين الفلسطينيين والحكومة اللبنانية، وثني الأخيرة عن اتخاذ قرار حازم في اقتحام المخيم.
ولم تنفك تلك القناة المشبوهة عن مناكفة مواقف المملكة العربية السعودية الساعية لتدعيم الوحدة العربية وإجراء المصالحات لإنهاء النزاعات الداخلية في المنطقة، ما يعكس رغبة قطر في سرقة الدور السعودي ولعب دور "بيضة القبّان" في المنطقة، فتم التصويب على "اتفاق مكة" بين كل من "فتح" و"حماس" الذي أفشلته إيران، و"الحوار اللبناني-اللبناني" الذي انتهى بجريمة إرهابية هتك فيها منتحلو صفة "المقاومة" جميع الحرمات، وأفضت الى تسوية قهرية مناقضة لاتفاق الطائف فرضها "حزب ولاية الفقيه" وداعميه الإقليميين بجهود قطرية مشبوهة، فكان "اتفاق الدوحة" في أيار 2008، الذي رسّخ أقدام "الشيعية السياسية" في لبنان.
وكان لا بد لقطر وقناة "الجزيرة" أن تدليا بدلوهما في زرع الشقاق والإنقسام بين العرب والمسلمين، أثناء حرب "غزة" الأخيرة. ولذلك، دعت قطر لعقد قمة عربية طارئة في الدوحة بتاريخ 16/12/2009، ما أحدث بلبلة في الوسط العربي، نظرًا لموافقة ذلك اليوم موعد اجتماع وزراء الخارجية العرب في الكويت، تحضيرًا للقمة العربية المقرر عقدها منذ مدة في ذلك البلد، والتي لا يفصل بينها وبين موعد القمة القطرية أكثر من يومين اثنين، ما فضح النيات التآمرية لقطر، في محاولتها إنتاج المزيد من الإنقسامات والنكايات بين الدول العربية.
عقدت قمة قطر التآمرية بمن حضر، وخارج إطار الجامعة العربية، وبمشاركة الرئيس الإيراني "محمود أحمدي نجاد"، وحضور رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" وصاحب الولاء للمحور السوري-الإيراني "خالد مشعل"، إمعانًا في شق الصف الفلسطيني. واصدرت قطر قرارًا دعائيًا أثناء الإجتماع التآمري، نصت فيه على "تجميد" علاقتها مع إسرائيل، وأكد وزير خارجيتها أن "مكتب التمثيل التجاري الإسرائيلي" في قطر "سيعاد فتحه إذا تحسن الوضع"، إلا أنه تكتم مستغبيًا الشعب العربي والإسلامي، عن الإشارة الى استضافة بلاده أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط، والتي شهدت حالة تأهب قصوى أثناء ذلك العدوان، وكانت تراقب الأجواء الإسرائيلية وتمد إسرائيل بالإحداثيات المطلوبة للأهداف في "غزة"، فضلا عن تدفق الأسلحة الفوسفورية والذكية من قاعدتي "باغرام" في أفغانستان و"العوديد" في قطر، تماما مثل ما حصل في حرب تموز 2006.
أما قناة "الجزيرة" القطرية، فكانت أثناء العدوان على غزة، تشن حملة دعائية تحريضية ضد الأنظمة العربية ولا سيما مصر، وتحاول توسيع الشرخ بين "فتح" وحماس"، لاعبة على الوتر العاطفي ومستغلة هول العدوان. وقد قامت وكالة "رامتان" التي كانت تستضيف كادر "الجزيرة" في مكاتبها وتوفر له وسائل البث علاوة على خدمة التصوير من مواقع الخطر في "غزة"، قامت بطرد كادر "الجزيرة" من مكاتبها وأوقفت التعامل معه، وقال مدير "رامتان": "ان القرار اتخذ بسبب انحياز الجزيرة ولا موضوعيتها وممارستها المتحيزة لطرف، وما تسبب به من تحريف للوقائع واجتزاء لمكوناتها وتفاصيلها".
وفي 24/1/2011، وفي خضم حملة شعواء تشنها إسرائيل منذ أشهر عدة على السلطة الفلسطينية، ربما لدفعها الى مزيد من الطواعية والتنازلات، إذ بقناة "الجزيرة" تتولى مهمة القضاء على حكومة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بواسطة نشرها وثائق سرية للمفاوضات التي عقدتها السلطة مع الأطرااف الإسرائيلية، ما أدى إلى استقالة الحكومة في 14/2/2011، على وقع ترددات تلك الفضيحة، التي كشفت عن تنازلات مخزية بحق القضية الفلسطينية. لكن ما يدعو للتعجب ليس مضمون الوثائق، بقدر كيفية حصول "الجزيرة" عليها، وسبب اختيارها لنشرها. فمن خلال هذه التسريبات تعلن "الجزيرة" أنها ليست مجرد محطة إخبارية عادية لاستهلاك الخبر و تداوله، بل هي أداة تستخدم كفاعل أساسي في المعادلة السياسية على المستوى الإقليمي. و ليس من السهل أن تحصل وسيلة إعلامية على وثائق من هذا القبيل إلا إذا كان خلفها قرار سياسي نافذ، الذي يمثل الوجه الخفي في لعبة النفوذ القطري في المنطقة.
وليس سرا مثلا أن ما قدمته "الجزيرة" من بث متلاحق منذ أعوام أضاء على الأوضاع في مصر وتونس وليبيا، وهيّأ أو حرّض الناس على التحرك، ثم ما قدمته من مواكبة لهذه الانتفاضات، انما يتقدم على كل ما فعلته الاحزاب المعارضة والمعارضات في هذه البلدان الثلاثة، التي كانت المعارضة مقموعة فيها، وكان الناس في فقر وبؤس واضطهاد ومهانة. ويأتي ذلك في حين لا نكاد نجد اهتمامًا من القناة بالمعارضين السوريين، ولا تسليطًا للضوء على معاناة الشعب السوري من نظامه الديكتاتوري والبوليسي!
وكان دور قناة "الجزيرة" أشده شبهة وأكثره فظاظة في مصر، من خلال تخصيصها كامل ساعات البث (24ساعة) يوميًا وعلى مدى 18 يومًا، لتغطية الثورة المصرية وزيادة التحريض على الرئيس المصري، وذلك من خلال شاشة عملاقة نصبت لهم في "ميدان التحرير" خصيصًا لمتابعة "الجزيرة".
ولعل دور الجزيرة التحريضي وعدم تحليها بالموضوعية والصدقية مع مشاهديها، تجلى بوضوح من خلال تهميشها دور "الإخوان المسلمين" الرئيسي في الثورة المصرية، ومسارعتها الى بث ردود سياسية كأخبار عاجلة في أسفل الشاشة منسوبة الى المتظاهرين بعد بضعة ثوان على انتهاء أي خطاب للرئيس المصري أو نائبه، وهو بلا شك وقت غير كاف لاستطلاع آراء الجماهير ومعرفة ردود أفعالهم، فكانت تظهر على الشاشة فور انتهاء تلك الخطابات عبارات توجيهية تحريضية مثل: "مبارك يحاول الإلتفاف على مطالب المتظاهرين"، أو "المتظاهرون يعلنون رفضهم ما ورد في خطاب سليمان وتمسكهم بالتظاهر حتى التنحي"!
ويبدو أن "موضوعية" قناة "الجزيرة" و"مهنيتها العالية" التي نتحدّث عنها، وشدة حرصها على دعم ومساندة قضايا الشعوب المقموعة التائقة الى استعادة حريتها، هي التي تجعلها تغفل عن مشاهديها تمامًا احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث و"الأهواز العربية"، وهي أيضًا التي منعتها من التحمس للتظاهرات الإيرانية التي اندلعت في حزيران 2009عقب التزوير الذي شاب الإنتخابات الرئاسية الإيرانية التي أعادت الديكتاتور نجاد الى السلطة بمباركة من "الولي الفقيه"، وبملايين الأوراق الانتخابية المزورة التي ألقيت في الصناديق، فلم نجد "الجزيرة" يومها ولا اليوم عندما تجددت هذه التظاهرات في شباط 2011، لم نجدها تحمست لتغطية التظهرات الإيرانية التي عرفت بـ"الثورة الخضراء"، بقدر تحمسها لتغطية التظاهرات المصرية التي أدت إلى إسقاط نظام الرئيس "حسني مبارك"، أو التظاهرات التي تلتها، سواء الليبية التي تحوّلت الى حرب أهلية، أو اليمنية المدعومة من "الحوثيين" الإنثي عشريين، أو حتى البحرينية المنظمة من شيعة "ولاية الفقيه".
باختصار إنها "الجزيرة" القطرية، احدى أهم أدوات المشروع الـ"صهيو-أميركي" في المنطقة.
عبدو شامي في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة، سنبدأ بالتعرف الى المراحل التي قطعها مشروع الشرق الأوسط الجديد في المنطقة، مبتدئين بأفغانستان والعراق.
التعليقات (0)