بقلم : هادي دانيال
تؤكّد رواية " المشرط" التعدّدية الابداعية لمؤلفها التونسي كمال الرياحي , بدءا من غلافها الذي يحمل لوحة زيتية من رسمه و تضمينها صفحات تحمل لوحات لرسّامين عالميين و اعتماد فنّ الكولاج و جعل أحد شخوصها رسّاما وصولا إلى الهاجس الشعري الذي تجلّى في اللغة المجازية تارة و في تضمين المتن السردي مقتطفات من شعر أدونيس خاصة , ناهيك عن تصديرها ببعض شعر االماغوط و شارل بودلير ( و لعلّ في استحضار شاعرين سوريين و غيرهما من تلك الربوع إشارة إلى رحلة ابن خلدون مواطن الكاتب التونسي و أحد شخوص الرواية إلى بلاد الشام في ركاب تيمور لنك)
أما مشرط الناقد كمال الرياحي فقد تخفّى وراء استعراض تطبيقي /غير نظري لوعيه العميق و معرفته الواسعة بتقنيات بناء النص السردي و أساليب كتابته , و لن نسهب في الإشارة إلى انعكاس مهنته كصحفي في مقتطفات الصحف التي أوردها , و لكن الأهم هو سطوع موهبته في مزج ما تراكم في الذاكرة و الوعي الفني من تقنيات و أساليب مزجا كيميائيا دقيقا فبدت اللغة و تقنيات البناء السردي , إلى جانب ابن خلدون و خديجة , بطلين بارزين في هذا العمل الصادر مؤخرا عن دار الجنوب للنشر بتونس , في سلسلة "عيون المعاصرة ".
فالمتأمّل يعترضه الوصف الكلاسيكي متناغما مع السرد التقريري, و التصوير الغرائبي موازيا الواقعي , و الالتماعات الرومانسية تخترق واقعية ميلر السوداء , و تقنية القصّ الأناجيلي تتضافر مع تقنيات التناص و الاقتباس المتعمدين إلى جانب التقنيات البصرية , لكن قوّة موهبة الرياحي و وعيه العالي بأسرار الفن الروائي جعل القارئ مفتونا بتموّج هذه الأساليب و التقنيات و كأنّه إزاء تلقائية تحفر مجراها , و تجبر القارئ على تتبعها لاهثا , مما يؤكّد توفّر هذا العمل على واحد من أهم شروط نجاح العمل الروائي الذي يستخفّ به النقاد المتقعّرون و هو عنصر التشويق .
هذا من حيث المبنى الذي كان ينبض بالمفارقات الساخرة و يزهو بإهاب هو ضرب من تنسيق الأزهار السوداء .
أما من حيث المعنى , إن جاز المصطلح , فإنّ المشرط أو ( من سيرة خديجة و أحزانها ) فهو عمل من تلك الأعمال الروائية المعاصرة التي تأخذ على كاهلها مهمّة إعادة كتابة تاريخ الشعوب و الأوطان القديم و المعاصر من منظور شعبي أو مغاير , لأن هذا التاريخ يكتب عادة من وجهة نظر الطبقات السائدة و الحاكمة , و لذا تكون الكتابة هنا نقدية , و تحرص على الكشف و النسف مستهدفة اليوتوبيا و الأيقونة و المسكوت عنه و كل ما يتعلّق بالثالوث المحرّم باطنه و ظاهره .
و لئن كان يؤخذ على كمال الرياحي في روايته أنه بدا عبثيّا في تعاطيه مع الجانب السياسي من الواقع الذي يؤسطره , و هنا لا أعني اتكاءه إلى الأسطورة في إعادة بناء الواقع , حيث كثيرا ما يساوي بين الضحية و الجلاّد على المستوى الوطني أو على مستوى صراع المجتمع المعني مع قوى خارجية استعمارية تحديدا , واقعا هو و شخوص روايته و مواقعها و دلالاتها تحت جموح سخرية مرّة جارفة , فإنّ ما يغفر له تجرّده من التعاطي النبيل مع الضحايا هو ذلك الحبّ و التعاطف الذي يتبنّاه قارئه مع الشخصيات المهمّشة , التي كأنّ كمال الرياحي يروم أن يكون صوتها الصارخ فنّيا أيضا .
إنّه عمله الروائي الأوّل , لكنّه خطوة واسعة و واثقة على مسار يعد بالمفاجآت المدهشة , و حجر أساس لعالم روائي نرنوه متفرّدا .
عن القدس العربي
- هادي دانيال /شاعر و صحفي سوري
التعليقات (0)