"مشاهد جديدة لم تشهدها مصر منذ برلمان الخديوى. تصويتٌ بطعم الحرية، وتراصٌ للناخبين المصريين، مسلمين ومسيحيين كالنسيج الواحد، والبنيان المرصوص".
(1)
كانت الطوابير التى تراصت أول المشاهد المثيرة فى تلك الانتخابات. هذه الطوابير التى لم يفتتها سوء الأحوال الجوية وهطول المطر، أو حتى تأخر الأوراق والأحبار والقضاة المشرفين على عملية التصويت، فكانت الظاهرة الأبرز؛ مما أعاد إلى أذهان البعض مشاحنات طوابير الخبز وأسطونات الغاز، لكن المصريين أضافوا إلى هذا المشهد مذاقًا آخر، حرموا منه كثيرًا، وهو الحرية، فمنذ بروز شمس الساعات الأولى من صباح المرحلة الأولى للانتخابات تناسل هذا المشهد، واستمرت هذه الطوابير لساعات طويلة أمام اللجان في معظم المحافظات التسع التي تجرى بها المرحلة الأولى، وعلى الرغم من مرور الوقت وتعطل البعض عن مصالحه وأشغاله وطول الطوابير، إلا أن الإصرار علي التصويت كان هو سيد المشهد، فضلاً عن السعادة على اللجان ومراكز الاقتراع؛ فمنذ الصباح الباكر، وقبل فتح لجان الانتخابات أبوابها، اصطف آلاف المصريين في طوابير طويلة للإدلاء بأصواتهم في أول استحقاق برلماني منذ سقوط نظام الرئيس السابق حسنى مبارك، وهم يضحكون وسعداء بالتجربة الديمقراطية. واتسمت طوابير الانتخابات فى المحافظات كافة، بمظهر مميز خاص بها هو اصطحاب الناخبين للمظلات وارتداء الملابس الثقيلة لحمايتهم من الأمطار التي تهطل على المدن الساحلية، وأحالت الكثير من شوارعها إلى برك للمياه، واحتمى الناخبون الذين اصطفوا خارج إحدى مدارس منطقة محرم بك بشريط طويل من النايلون، لوقايتهم من الأمطار التي لم تكف عن الهطول.
(2)
وثاني المشاهد الانتخابية، التي لفتت نظر الكثيرين، هو ارتداء عدد كبير من الناخبين ملابس سوداء، تلبية لدعوة أطلقتها صفحة (كلنا خالد سعيد) على الموقع الاجتماعى الشهير "فيس بوك"، حدادا على شهداء الثورة، خاصةً شهداء الأحداث الأخيرة في شارع "محمد محمود" المؤدي لمبني وزارة الداخلية، كذلك مشهد مشاركة رجال القوات المسلحة في تأمين عملية التصويت، وحملت الصور الوافدة من اللجان الانتخابية في مختلف المحافظات لقطات لرجال الجيش، وهم يحملون سيدة مسنة إلى داخل لجنة التصويت، أو يفتحون ممرا للناخبين وسط مياه الأمطار.
كما لم تخلُّ انتخابات الثورة من "سماسرة الأصوات" الذين أبوا أن يغيبوا في أول انتخابات بعد الثورة؛ إذ ظهروا أمام بعض اللجان وهم يروجون لانتخاب بعض أعضاء الحزب الوطني (المنحل) الذين يخوضون الانتخابات.
لكن المشهد الأكثر تأثيرا، ويدل على وعي المواطن المصري، فهو رفض عدد كبير من الناخبين الاستجابة لدعايتهم؛ الأمر الذي جعلهم يختفون بعدما كانوا يستخدمون "البلطجة" لإجبار الناخبين على التصويت لمرشحي "الوطني" في الانتخابات السابقة، وأيضاً مكبرات الصوت وعربات الدعاية، التي حجزت لها مكانا وسط المشهد الانتخابي المزدحم، ومنذ الصباح الباكر أقلقت هذه المكبرات مضاجع الأهالي في مختلف المناطق عشية يوم الانتخابات، وظلت تتردد الدعاية حتى ساعات متأخرة من الليل؛ متمثلة في أغان مؤيدة لأغلب التيارات، خاصة التيار الديني، واستمرت إلى يوم الانتخابات.
وكعادة المصريين الاخلاقية، حرص الناخبون - في بعض اللجان - على تخصيص صفوف للمسنين؛ بينما في أخرى عانت السيدات المسنات من شدة الزحام والتخبط في التعرف على اللجان، واستغل ذلك بعض أنصار المرشحين في إرشادهن لاختيار أشخاص بأعينهم، وشاركت الكثيرات من الفتيات المحجبات من حزبي "النور" السلفي، و"الحرية والعدالة" الذراع السياسية للأحزاب الإسلامية التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، وكذلك الجماعة السلفية في مساعدة الناخبات في التعرف إلى لجانهن الفرعية عن طريق أجهزة الكمبيوتر المحمولة، والقيام باستخدام الدين فى الدعاية الانتخابية.
(3)
ومن المشاهد المهمة التى جاءت رصد عشرات التجاوزات من مختلف الطوائف والفصائل المشاركة فى العملية الانتخابية، خاصة من جماعة الإخوان المسلمين، وذراعها السياسية حزب "الحرية والعدالة"، وحزب "النور" التابع للجماعة الإسلامية، كما تم رصد مخالفات قانونية من قبل أنصار مرشحي الإخوان والسلفيين في دوائر عدة، مثل نشر شائعة مقتل مرشح حزب التجمع، ومطالبتهم الناخبين بعدم التصويت لصالحه، ودعوتهم إلى التصويت للمرشحين الإسلاميين فى إحدي الدوائر، كذلك حدوث بعض الاشتباكات بين الطرفين انتهت بتدخل رجال القوات المسلحة والأمن المركزي، وتم القبض على عناصر من الطرفيين بعد تبادل الرشق بالحجارة، وأيضا تلك المتمثلة فى قيام بعض المشرفين على اللجان الانتخابية فى بعض لجان القاهرة بتوجيه الناخبين بالتصويت لصالح مرشحى حزبي "الحرية والعدالة" و"النور" السلفي؛ فيما نقلت غرف عمليات الأحزاب التابعة للكنيسة، الأقباط بالأتوبيسات للتصويت للكتلة المصرية، وكذا قيام مرشحي الكتلة المصرية بتوزيع رشاوى انتخابية، خاصة فى شمال القاهرة؛ حيث يقوم مندوبون تابعون بشراء الأصوات أمام اللجان، وفى محافظة أسيوط واصلت الأتوبيسات نقل الناخبين الأقباط من مختلف الكنائس والمطرانيات لانتخاب مرشحى الكتلة المصرية، خاصة من كنائس ومطرانيات ديروط والقوصية ومنفلوط وواصل مرشحو "الحرية والعدالة" توزيع أوراق الدعاية الانتخابية من خلال أكشاك وأماكن تجمع لهم بالقرب من اللجان الانتخابية.
هذا في الوقت الذي وقف فيه رجال الشرطة والقوات المسلحة دون أن يتخذوا أي إجراءات ردا على هذه المخالفات، وكذلك عندما سئل رئيس اللجنة العليا للانتخابات المستشار عبد المعز إبراهيم، سؤالين حول هذا الشأن، لم يجب عنهما، واكتفى بالقول إن هناك العديد من الخروقات والمخالفات في العملية الانتخابية.
(4)
ومهما يكن من مخالفات فى الانتخابات، فإنها تمثل الشرارة الأولى التى تنطلق بها العملية الديمقراطية الحقيقية؛ فقديماً أيام نظام الرئيس السابق مبارك كانت الانتخابات تجرى فى يوم واحد فقط؛ مما كان يخزل العديد من الأصوات لضييق الوقت، فضلاً عن أن الموتى كانوا من أوائل المصوتين فى العملية الانتخابية، مع تسويد الأصوات فى اللجان، ووجود مندوبين عن الحزب الوطنى المنحل داخل اللجان، وكل تلك الممارسات مخالفة للقانون المصرى فى الانتخابات، قياساً علي سلبيات الانتخابات السابقة، التى كان أخطرها وجود أوراق اقتراع بدون الأختام، أو التوقيعات من القضاة المسئولين عن المراكز الانتخابية.. وعلق مراقبون على ذلك بأن ما يجري يفتح الأبواب على مصراعيها لعمليات التزوير واسعة النطاق، إلا أنه قيد السيطرة، وبكل الأحوال ولدت مصر من جديد تحت عباءة انتخابات ديمقراطية جديدة بكل أوصافها وأفعالها وتصرفاتها.
- - - - - - - - - - -
رئيس تحرير وكالة الصحافة بالقاهرة
التعليقات (0)