مواضيع اليوم

مسيحيو مصر.. الهروب إلى الهاوية (3)

محمد الشهابى

2010-11-18 11:24:13

0

مسيحيو مصر.. الهروب إلى الهاوية (3)

 

تقوم العلاقة بين مكونات الجماعة الوطنية، على التعايش والتفاعل الإيجابي، خاصة في المجتمعات ذات الطبيعة الشرقية المتدينة المحافظة، حيث يكون للخبرة الشخصية والاجتماعية دورها البارز في تأسيس العلاقة الإيجابية بين مكونات المجتمع المختلفة، وحيث يكون لشبكات العلاقات الاجتماعية دورها البارز في تنمية قيم المجتمع، وتعميق المبادئ والقواعد المتفق عليها بين الناس. ففي المجتمع المصري، تؤسس قيم العيش المشترك على التفاعل الإيجابي بين مكوناته، وتراكم الخبرات الشخصية والاجتماعية، التي تؤسس للقواعد المنظمة للسلوك الاجتماعي. حيث تصبح الخبرة المباشرة هي أساس تنمية العلاقات الإيجابية، والمصدر الرئيس للتعارف بين الناس. لهذا تصبح خبرة التفاعل بين المسلم والمسيحي على المستوى الشخصي والاجتماعي، هي المصدر الرئيس لصورة كل منهما لدى الآخر، مما يحدد موقف كل منهما تجاه الآخر.

وفي ظل مجتمع تقوم فيه خبرة التعايش بهذا الدور المركزي، تتأثر العلاقة بين المسلم والمسيحي بأي ضعف يلحق بحجم ومدى وعمق خبرات التعايش بينهما. وكلما تعمقت خبرات التفاعل بين المسلم والمسيحي، تراجعت المشكلات التي تحدث بينهما، وكلما ضعفت خبرات التعايش بين المسلم والمسيحي، تزايدت المشكلات المحتملة بينهما، وتزايدت أيضا احتمالات تكون صور سلبية لدى كل طرف عن الآخر.

وما يحدث لخبرات التعايش بين المسلم والمسيحي، يرتبط بموقف كل منهما، ولكن النظر لموقف الجماعة المسيحية له أهمية في حد ذاته، لأنه يمثل موقف الجماعة الأقل عددا، والتي تتأثر بما يحدث من توتر في العلاقة مع الجماعة الأكثر عددا، أكثر من غيرها. والمتابع لما حدث في مسار حركة الجماعة المسيحية منذ بداية مرحلة الإحياء الديني في سبعينات القرن العشرين، يلاحظ أن الإحياء الديني للجماعة المسيحية لم يكن فقط لجوءا للدين، بل كان أيضا لجوءا للكنيسة. فلم تقتصر عملية الإحياء الديني المسيحي، على استعادة دور الدين في حياة الجماعة المسيحية، بل شملت أيضا استعادة لدور الكنيسة في حياة الجماعة المسيحية، وهو أمر طبيعي إذا أقتصر دور الكنيسة على المجال الديني، ولكن ما حدث أن عملية لجوء الجماعة المسيحية للكنيسة أسفرت عن توسع تدريجي في دور الكنيسة في حياة المسيحي، حتى أصبح لجوء الجماعة المسيحية إلى الكنيسة، لا يقتصر فقط على الجانب الديني، بل يشمل العديد من جوانب الحياة الأخرى.

فلقد توسعت أدوار الكنيسة في العديد من المجالات الاجتماعية والتربوية والرياضية والتعليمية، بصورة جعلت أنشطة الكنيسة تشمل العديد من الأنشطة التي تقوم بها مؤسسات اجتماعية أخرى. وأصبحت الكنيسة توفر للمسيحي مجالا ليمارس العديد من أنشطته الحياتية العادية، والتي لا ترتبط بالمجال الديني، داخل الكنيسة. ولم يكن هذا اختيار الكنيسة فقط، بل كان اختيار الكنيسة والجماعة المسيحية معا. فالكنيسة لا تستطيع إجبار المسيحي على ممارسة النشاط الرياضي داخلها، ولكن لأن المسيحي أراد ذلك، والكنيسة وفرت فرصة لمثل هذا النشاط، حدث تقابل بين توجهات الكنيسة وتوجهات الجماعة المسيحية، مما عمق من عملية توسع نشاط الكنيسة خارج المجال الديني.

لم تكن تلك العملية قاصرة على مجرد ممارسة أنشطة داخل الكنيسة، لأنها حولت الكنيسة لمؤسسة قابضة للجماعة المسيحية، توفر لجماعتها العديد من احتياجاتها، بصورة تربط الجماعة المسيحية بها. فأصبحت الكنيسة تتمتع بنفوذ أكبر على الجماعة المسيحية، كما أصبحت الجماعة المسيحية تحتاج للكنيسة لتلبية العديد من الاحتياجات التي لا ترتبط بالمجال الديني. ولم تعد الكنيسة بهذا المعنى مؤسسة المسيحية، التي ترتبط بها الجماعة المسيحية في الشأن الديني، بل أصبحت مؤسسة الجماعة المسيحية التي تمارس من خلالها الجماعة العديد من أنشطتها الحياتية.

وعندما يمارس المسيحي نشاطه الاجتماعي أو الرياضي داخل أسوار الكنيسة، تقل فرص تفاعله مع المسلم، كما تقل خبراته خارج أسوار الكنيسة، ومعها تقل خبراته داخل مؤسسات المجتمع العامة. وبهذا يقضي المسيحي جزءا مهما من حياته في الكنيسة، ليس فقط في فترات العبادة، بل أيضا في فترات ممارسة النشاط الاجتماعي والترفيهي والرياضي، وهو ما يقلل من خبرات المسيحي في المجتمع العام، ويقلل خبراته مع المسلم. ومع الوقت يصبح تلاقي المسيحي مع المسلم مرتبطا بأوقات الدراسة والعمل، وتقل مساحة التفاعل في الحياة الاجتماعية. وتلك مشكلة كبرى، فالتفاعل خارج إطار العمل والدراسة، وفي المجال الاجتماعي، هو الذي ينتج ويؤسس الخبرات الاجتماعية للتعايش، ويعمق قيم العيش المشترك. فالحياة الاجتماعية، وما فيها من تفاعل، تمثل المجال الأهم لتكوين العلاقات الاجتماعية، وتراكم خبرات التعايش والتعارف. ولكن تضاؤل مساحة مشاركة المسيحي في الأنشطة الاجتماعية خارج الكنيسة، حجم من مساحة تفاعله من المسلم خارج إطار الأنشطة الرسمية، أي أنشطة الدراسة والعمل.

ولم يقتصر الأمر على تحجيم خبرات العيش المشترك، بل أيضا ساهم ذلك في تضخيم دور الكنيسة في حياة الجماعة المسيحية، بصورة جعلت للكنيسة دورا مركزيا في حياة المسيحي، خارج إطار المجال الديني. وتوسع دور الكنيسة جعل لها سلطة خارج إطار المجال الديني، وتمددت سلطتها إلى المجال السياسي والثقافي والفكري، فباتت الكنيسة تشكل الاتجاهات العامة لدى المسيحيين. فبعد لجوء الجماعة المسيحية إلى الكنيسة، تحولت الكنيسة إلى الحاضن المدني للجماعة المسيحية، وليس فقط الحاضن الديني. وهنا لم تعد توجهات الجماعة المسيحية تتشكل داخل إطار الحياة المدنية والاجتماعية، بل أصبحت تتشكل داخل إطار الكنيسة، وهذا ما جعل بعض التوجهات تسود بين الجماعة المسيحية بصورة كبيرة، وغير طبيعية، حتى باتت بعض المواقف تسود على أغلبية المسيحيين بنسبة مرتفعة، وهو أمر غير طبيعي، لأن سمة أي جماعة بشرية هو التعدد والتنوع. ولكن ارتباط الجماعة المسيحية بالكنيسة، وحد توجهاتها بصورة غير طبيعة، وجعل الجماعة المسيحية تبدو وكأنها كتلة واحدة، في مواقفها السياسية والثقافية والحضارية.

ولجوء الجماعة المسيحية للكنيسة لم يحدث في ظرف عادي، بل حدث كنتيجة لشعور الجماعة المسيحية بوجود خطر تتعرض له، ففي اللحظة التي نمى داخل الجماعة المسيحية الشعور بالاضطهاد، كانت تلجأ أكثر فأكثر للكنيسة، مما جعل الكنيسة هي الملاذ الآمن. والارتباط بين الفرد الذي يشعر بالخوف، وبين الملاذ الآمن، الذي يتصور أنه يحميه، يصبح ارتباطا عضويا قويا لا يمكن تفكيكه بسهولة. لذا أصبحت الكنيسة تمثل ملاذا آمنا، لجماعة تعيش في حالة خوف، أيا كان مدى واقعية هذا الشعور، لأن تأثير الشعور بالخوف لا ينتج من واقعيته، بل ينتج من سيطرة هذا الشعور على الجماعة أو الفرد. وعندما تتعامل الجماعة المسيحية مع الكنيسة بوصفها ملاذا آمنا، تصبح الكنيسة بالنسبة للجماعة المسيحية بديلا للدولة، ومع توسع دور الكنيسة، تتحول إلى دولة افتراضية، أي مؤسسة شاملة قابضة، معنية بكل شئون الجماعة المسيحية في مصر. وهكذا تجد الجماعة المسيحية نفسها داخل أسوار تحميها، أو تظن أنها تحميها.

هكذا انعزلت الجماعة المسيحية داخل أسوار الكنيسة، كما عزلت نفسها داخل وعي خاص بها، وتصورات خاصة بها، ولم تعد تتفاعل بصورة عميقة مع المجتمع المحيط بها، وهو ما يهدر فرص استعادة قيم العيش المشترك، وتعميق روابط العلاقة بين المسلم والمسيحي. وإذا كانت الجماعة المسيحية ترى أن انعزالها نتاج وجود مشاكل تتعرض لها، أو عدم رغبة الأغلبية في التعامل معها، فإن معالجة أي مشكلات بتعميق العزلة داخل أسوار الكنيسة، والحد من خبرات التفاعل الاجتماعي، يعني أن الجماعة المسيحية تحول ما تشعر به من غربة في المجتمع، إلى حالة انفصال كامل عن المجتمع، مما يجعل الغربة تتحول إلى واقع فعلي، بعد أن كانت شعورا متصورا. فتحول الكنيسة إلى مؤسسة بديلة عن المجتمع والدولة في حياة الجماعة المسيحية، يعرقل فرص استعادة وحدة المجتمع المصري.

د. رفيق حبيب




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !