مواضيع اليوم

مسلك التبرير

نزار يوسف

2010-01-17 20:37:31

0

مسلك التبرير


التعامل مع الأشخاص في الحياة اليومية تحكمه غالباً و عادة عوامل كثر .. كالوضع الاجتماعي أو التحصيل الثقافي و العلمي أو الحالة المادية و الاقتصادية أو حتى القوة المادية و المعنوية .. ذلك كله يندرج تحت ما يعرف بالمظاهر بغض النظر عن مضمون الشخص الذي هو في باطنه ربما يكون مناقضاً لما هو ظاهره . و مع هذا يعامل الشخص وفقاً لسوية موقعه الاجتماعي السابق المحكوم بالعوامل الآنفة الذكر . حيث أنه كلما كانت السوية مرتفعة ، عومل الشخص بكل مظاهر الاحترام و اللباقة و الكياسة و التبجيل و ما يندرج في أطرها من مجاملة و تملق و رياء ، سواء أكان ذاك الشخص مستحقاً لموقعه العالي عن جدارة و حق ، أم لم يكن كذلك .


و ما يستوجب الذكر هنا ، هو أن مناقشة الفكرة المراد طرحها لا يتعلق بعامل المظهر أو المكانة و الصفة المكتسبة التي يتمتع بها الشخص ، بل بالنتائج السلبية التي تترتب عن التعامل المزيف مع الأشخاص ذوي المكانات و المراتب العالية بغض النظر عن ماهيتها و بغض النظر عن حقيقة مصداقيتها ( مزيفة أم أصيلة ) .


عموماً تبقى النتائج السلبية في إطار غير مؤذ مادياً أو معنوياً و ضمن مجانبتها للأخلاق العامة طالما بقيت محصورة في حظيرة التملق و الرياء و المداهنة و المديح الكاذب الخارج عن نطاق المألوف و الفوق ما يستحق الشخص . و تبقى ملازمة لصفة السلبية مادامت قد بقيت في المجال المذكور . لكنها تنحو إلى الخطورة و الإساءة عندما تكون المداهنة و الرياء و التملق فيما يتعلق بالحقوق العامة و حقوق الأشخاص . و هي قضية تأخذ مجراها في معظم ميادين الحياة العامة بدءاً من الأسرة وصولاً إلى حواضر المجتمع الواسعة و أطيافه المختلفة . ذاك ما يدخل في حكم القوي على الضعيف . و ذاك ما هو أيضاً وجه من وجوه شهادة الزور .


القضية هي بكل بساطة .. تبرير الخطأ .. مهما ضعف أو عظم ، لشخص نافذ أو متمتع بمرتبة معينة .. طمعاً في فائدة ترتجى أو اتقاء لضرر يقع .


تصطدم ( فرضاً ) مع شخص ما في قضية ما ، سواء أكانت قانونية أم عرفية أدبية .. و يتسبب لك فيها بضرر ما صغيراً كان أم كبيراً .. و يكون فيها هو المذنب ، و يكون واضح خطأه و افتراؤه و تجنيه عليك و تعديه لقواعد الأصول و التعامل و الأدب و الأخلاق . و مع ذلك و بالرغم من الأضرار التي سببها لك و التي تكون أحياناً فادحة ، تجد من يبرز لك ليبرر تصرف و خطأ هذا الشخص بطريقة ودية مموهة بعامل الخير و حسن النية و الصلح المجرد البحت ، فقط لأن الشخص المفتري عليك أو المخطئ بحقك يتمتع بقيمة اجتماعية معينة لا تمتلكها أنت . و من باب محاولة الإصلاح و فعل الخير ، فينصب نفسه محضراً للخير متنطحاً لإصلاح ذات البين. و في أحسن الأحوال يكون حكمه هو المصالحة فقط و المصافحة ، متجاهلاً موضوع الاعتذار أو رد الحقوق في حال وجدت . و في أسوأ الأحوال يقوم بتحميلك كطرف مظلوم أو معتدى عليه ، كامل المسؤولية و يبرئ ساحة الطرف الآخر المعتدي ، من كل مسؤولية . ذلك كله ضمن تبريرات معسولة واهية . نتيجة لمصلحة معينة أو نتيجة لجهل و سذاجة المتكلف ما ليس هو أهل له . بطرق ملتوية يمرد فيها على النفاق . ذاك ما يعرف بنظرنا بمسلك التبرير .. و المقصود هنا ، تبرير الخطأ اللامبرر له .. تبرير الخطأ المقصود ، وصولاً لإخفاء الحقيقة و تطبيق الحق . و هو الزور بعينه .

إن مسلك التبرير يتخذ وجوه عدة أبرزها أن يبرر شخص لآخر ، انحرافاً معيناً أو خطأ ما . أو يبرر شخص لنفسه انحرافاً أو خطأ قام به هو نفسه . و هو أمر قد درج عليه الآن الكثير من الأشخاص و الجهات . هو يفتح الباب واسعاً عريضاً أمام مفسدة كبيرة تحيق بالمجتمع و أخطار تحدق به و مظالم تصيب أناس فيه . و تصل خطورة مسلك التبرير إلى كونها قد تطال حتى الجرائم الجنائية و الإنسانية . و هو بدوره ما يفتح الباب أيضاً واسعاً عريضاً أمام تمادي الظالم بظلمه و المسيء لسوء خلقه و تصرفه ، و المجرم لإجرامه ، و تعميم ذلك على شريحة كبيرة من أفراد المجتمع . حيث أن تبرير الخطأ ، يؤدي حتماً إلى تثبيت وجوده و إضفاء الشرعية عليه و قوننته و لو من باب اعتباره نوع من المهارة و الحذاقة .


بنظرنا أن الخطأ أو الانحراف المسلكي ، مهما كان نوعه لا يمكن و لا يجوز السكوت عنه و لا يمكن تبريره و لا بأي شكل من الأشكال أو إضفاء مسحة منطق و تجاوز و تبرير ، تمهيداً للقبول به . بل يجب رفضه و محاربته . فالتساهل بشأنه ، مؤداه نهاية المطاف ، ضياع الحقوق و تثبيت المظالم و شيوع الفوضى و الفساد .


طبقاً لما سبق ، أولت الأديان السماوية اهتماماً بالغاً بقضايا العدل و حقوق العباد و المظالم و الخطأ و التعدي على الغير مهما كانت سويته ، أكان مادياً أم جسدياً أم اعتبارياً أم معنوياً . و جعلت ذلك من أساس الدين و لب الشريعة . و في الإسلام ، لا يستقيم دين امرؤ ما لم تتوفر لديه تلك الخصلة و لا يستوف حقه و يستكمل إيمانه إلا بوجود هذا الشرط . و كثيرة هي الآيات القرآنية التي تحدثت عن مفهوم العدل و قول الحق و تجنب الممالأة و الزيغ في توصيف الخطأ . و منها على سبيل المثال لا الحصر :
- ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (المائدة:8) .

- ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (النساء:135) .

توصّف الآيتان السابقتان بدقة مفهوم مسلك التبرير الخاطئ و الزيغ في الحكم مراعاة لأعراف و مقامات اجتماعية . و ما يسترعي الانتباه ، هو أن هاتين الآيتين قد جاءتا بصيغة الأمر المباشر و ليس الحض أو التشجيع فكلمة ( كونوا ) تعني الأمر الواضح المباشر و الصريح .. و عندما يقول الله تعالى ( كونوا ) فذلك يعني : نفذوا هذا الأمر ( نفذ ثم اعترض ) . و عبارة ( هو أقرب للتقوى و اتقوا الله ... ) تعطي الدلالة على الارتباط المباشر بالشريعة و الدين .


- ( ... فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (الحج:30) . 

لاحظوا الربط بين الرجس و الشرك بالله و بين قول الزور .

و الزور يندرج في إطاره تبرير الخطأ المقصود و التساهل فيه ، فهذا نوع من أنواع . الزور جاء في لسان العرب : و قد ازْوَرَّ عنه ازْوِراراً و ازْوارَّ عنه و تَزاوَرَ عنه تَزاوُراً، كله بمعنى: عَدَلَ عنه و انحرفَ. و عَنُقٌ أَزْوَرُ: مائل. و التَّزْوِيرُ: تَزْيين الكذب . و الزُّور: الكذب و الباطل، و هو شهادة الباطل . و قوله تعالى ( تزاور عن كهفهم ) أي تمايل عنه، و لذا قيل للكذوب زور لأنه يميل عن الحق، و يقال تزاور عنه تزاوراً أي عدل عنه و انحرف .


- ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) (الأعراف:29) .


- ( وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) (هود:85) .

و لعل أوضح آية تعبر عن أولئك الأشخاص الذين يسلكون مسلك التبرير و تصفهم بالمنافقين ، هي الآية :

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً ) (النساء 61 -62 ) .


كذا الأمر في التاريخ الإسلامي وردت حوادث عن شخصيات إسلامية رفضت مسلك التبرير ممالأة لأمر معين مهما كبر و عظم شأنه .


جاء في صحيح البخاري " أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي كانت من أشراف قومها وسرقت . قالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة ابن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فاحمر وجه الرسول من الغضب و قال ( أتشفع في حد من حدود الله ؟؟!! ) . ثم قام فاختطب ثم قال ( إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد و أيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) " .


و لعل في قصة الغلام الذي قتل في صنعاء على عهد الخليفة عمر بن الخطاب ، عبرة في ذلك ، كونه شهد واقعة زنا ، خيف منه أن يفشيها و يذيعها . و البعض قال هو تاجر كان عائداًُ من صنعاء بتجارة فتعرض له مجموعة من الشبان ممن هم أبناء لوجهاء قومهم و ذبحوه أمام بناته و سلبوا أمواله . و عندما وصل الأمر إلى الخليفة عمر ، أمر بقتلهم جميعاً و كانوا سبعة . فقيل له أنهم أبناء وجهاء قومهم و حبذا لو قتل بعضهم و عف عن البقية و أن آبائهم مستعدون لدفع الدية و بذل الأموال الطائلة للعفو عن أبنائهم فرفض رفضاً قاطعاً و قال قولته الشهيرة الرائعة :
و الله لو تمالأ عليه أهل صنعاء جميعهم لقتلتهم به جميعاً " .


و في التوراة ورد ما يعبر عن قول الحق و نبذ الزور و اعتباره من الموبقات . و من ذلك :
- ( شاهد زور يفوه بالأكاذيب و زارع خصومات بن الأخوة ) ( سفر الأمثال 19/6 ) .
- ( شاهد الزور يهلك و الرجل السامع للحق يتكلم ) ( الأمثال 28/21 ) .
و من جملة الوصايا الرئيسة في التوراة ( لا تشهد على قريبك شهادة زور ) ( سفر الخروج 16/20 ) .
- ( تسمع لصوت الرب إلهك و تصنع الحق ... ) ( سفر الخروج 26/15 ) .
- ( و اقضوا بالحق بين الإنسان و أخيه و نزيله ) ( سفر التثنية 16/1 ) .


و لعل الآية التالية تعبر عن رفض مبدأ التبرير للأخطاء ( لا ترتكبوا جوراً في القضاء ، لا تأخذوا بوجه مسكين و لا تحترموا وجه كبير . بالعدل تحكم لقريبك ) ( سفر اللاويين 15/19 ) .


كذلك وصايا المسيح التي وردت في الإنجيل ، جاءت إحداها عن قول الزور و الاستنكاف عن الحق و ممالأة الظالم على المظلوم ( قال يسوع : لا تقتل .. لا تزن .. لا تسرق .. لا تشهد بالزور ) ( متى 18/19 ) .

لاحظوا الربط بين مفهوم الزور و بين القتل و السرقة و الموبقات الأخرى . لأن تبرير الخطأ و الجريمة يؤدي حتماً إلى تشريعهما و تشجيع فاعلهما على المضي بهما و استمراءهما .


ما يتعلق بموضوعنا هذا .. لفتت نظري عبارة رائعة للإمام علي بن أبي طالب يقول فيها " إذا أقبلت الدنيا على أحد ، أعارته محاسن غيره .. و إذا أدبرت عنه ، سلبته محاسنه " و معنى ذلك أن ( زيد من الناس ) يمتلك على سبيل المثال أربعة صفات حقيقية متأصلة فيه و ثابتة مهما تغير وضعه ، و هي .. كاتب و ذكي و مثقف و صادق . و لا يمتلك غيرها . فإذا أقبلت الدنيا عليه أي أصبح من الأشخاص ذوي المال و الجاه و السلطان ، يصبح في عرف الناس زيد الكاتب و الذكي و المثقف و الصادق و الكريم و النحات و الرسام و الجميل و الوسيم و القوي و .. و .


أما إذا أدبرت الدنيا عن زيد أي أصبح فقيراً معوزاً ، ذهبت عنه كل تلك الصفات الزائفة التي منحه إياها الناس زوراً و بهتاناً ، و سلبوه أيضاً صفاته الموجودة فيه و التي لا تتغير و التي لم يعطوه إياه من الأساس ، بل كانت ملكه هو كطبيعة فطرية . فيصبح زيد الجحش .. أو زيد أبو دنب .. أو زيد الدب .


نهاية المطاف نقول .. إن تبرير الخطأ و الجرم هو الوجه الآخر للجريمة .. و القائم بهما و فاعلهما ، هو الوجه الآخر للمجرم . و كل تبرير للمخطئ المتعمد القاصد لخطأه و جرمه و المستمر فيه ، تارة بدعوى حسن النية و تارة بدعوى الصلح الغير متضمن رد الحقوق و المظالم ، و تارة بدعاوٍ أخرى ، هو شهادة زور حقيقية واضحة لا جدال فيها و مفسدة في الأرض أي مفسدة .


نزار يوسف .




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !