مواضيع اليوم

مسلك الأدب

نزار يوسف

2010-10-16 19:44:22

0

مسلك الأدب

 

زعموا أن الخليفة هارون الرشيد كان يتمشى ليلاً مع وزيره جعفر البرمكي في حديقة القصر الملكي . و جعفر البرمكي هذا ، كان من أبرع رجالات الدولة و خيرة سائسيها و مدَبّريها ، و رجلاً حكيماً عارفاً مجرِباً . سأله هارون الرشيد : قل لي يا جعفر .. ما خير ما يرزق به المرء ؟؟ تفكر الوزير الحكيم برهة ثم أجاب : عقل يعيش به .. فقال هارون الرشيد : و إن عَدِمه ؟؟ أجاب الوزير الخبير بعد تفكر : فمال يستره .. سأله هارون : فإن عَدِمه ؟؟ فكر الوزير لحظة ثم قال : فأدب يتحلى به . عاود هارون الرشيد السوآل : فإن عَدِمه ؟؟؟ فكر الوزير مرة أخرى و طال تفكيره بعض الوقت ثم نظر إلى الخليفة هارون الرشيد و قال بهدوء : فصاعقة تحرقه و تريح العباد منه . ( انتهى ) .


جواب محكم و لا شك .. يعني شخص لا عقل و لا مال و لا أدب . مثل هكذا إنسان ، شيء طبيعي أن يكون عالة على المجتمعات و على البشرية .. و للأسف الذي من المؤسف أن يؤسف له .. وجود مثل هكذا أشخاص بكثرة اليوم بين ظهرانينا .. حيث أصبحوا زُرافات و أمم أمثالنا في الشوارع و الجادات و الفضائيات .


بالعودة إلى المحاورة ، يُلاحظ أن الوزير قد ابتدأ بالعقل و انتهى بالأدب ، و جاء المال فاصلاً ما بين الاثنين ، و في ذلك عبرة قوية و حكمة معبرة تقع على وجوه عدة منها أن العقل قد جاء في المرتبة الأول ، فهو أساس كل شيء و به يُحكَم على المرء و يحاسَب ، و العقل زينة لصاحبه و هو ملازم للأدب .. قيل أن الله ( عز و جل ) إذا أراد أن يزيل عن عبد ما ، نِعَمه التي أنعم بها عليه ، فإن أول ما يبدأ به هو عقله .. و قيل أن الله عز و جل عندما أهبَطَ آدم إلى الأرض ، أمر جبريل (ع) أن يتبعه و يخيّره بين خِصال ثلاث .. العقل و الدين و الأدب ، فأتى جبريل (ع) آدم و قال له : يا آدم .. إن الله أمرني أن أخيرك بين ثلاث ، فاختر واحدة منها و دع الاثنتين ، قال : و ما هي يا جبريل ؟ قال : العقل و الدين و الحياء ( الأدب ) .. فقال آدم : إني اخترت العقل . فقال جبريل للدين و الحياء : انطلقا و دعاه .. فقالا : يا جبريل إنّا أُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان .. قال جبريل : أنتما و شأنكما .. ثم عرج .هذا دليل على وجوب التزام العقل و الأدب معاً لا انفصام لهما .


العبرة الثانية هي المال الذي جاء في المحل الثاني بين العقل و الأدب .. هذا معناه أن العقل و الأدب هما جناحي المال و ظهيريه الأيمن و الأيسر ، و من دونهما معاً ، يصبح المال عاراً على صاحبه و شينة له و موضع شبهة و احتقار .. من أين اكتسبه و أين و كيف ينفقه . و للأسف .. الأسف الشديد ما أكثر هؤلاء في الحياة العامة و ما أكثر مظاهرهم المتجلية في كل مكان و موضع . و وجود المال في المرتبة الثانية هو تعبير بليغ حول ضرورة أن يكون محكوماً بالعقل و الأدب .


ثالث العِبر .. هو الأدب الذي جاء في المرتبة الأخيرة ، و وجوده في المرتبة الأخيرة ، لعله يكون أقوى العبر و أقوى هذا الأثافي الثلاث . و عبارة ( أدب يتحلى به ) دليل على تغطية الأدب لما سبقه من خصال .. عقل يعيش به ، العقل أساس حياة الإنسان .. مال يستره ، المال سترة للشخص يقيه شر الحاجة للناس .. إذا انتفى العقل ، فالمال قد يعدل الكفة إذا اجتمع مع الأدب .. أدب يتحلى به ، الأدب هو الحصن الأخير للمرء حيث إمكانية العقل و المال محدودة . فيأتي الأدب و يغطي نقص العقل و المال ، بينما العقل و المال لا يستطيعان تغطية نقص الأدب و كل كلام خلاف ذلك ، يدخل في نطاق النفاق و شهادة الزور . إذا فقد الشخص العقل و المال و كان يتحلى بأدب جم سواء بالفطرة و الغريزة أو بالتربية ، فإن أدبه يغطي على نقيصتيه هاتين .


تجد إنسان في أدنى درجات الثقافة و التعليم أو ذو قدرات عقلية بسيطة أو معاق ذهنياً . لكنه يتحلى فطرةً أو تربيةً ، بأدب جم و ذوق رفيع .. و أنا أعرف أشخاص كثر بهذه الصفات .. أشخاص لم يتحصلوا في أعلى مستويات التعليم على الشهادة الابتدائية و منهم أميين لا يفكّون الحرف .. أوضاعهم المالية سيئة و منهم شبه المعدم ، لكنهم قمة في الأدب و الأخلاق و حسن التعامل و الوعي لا يوجد عند البعض من حملة الشهادات العلمية أو المكانة الاجتماعية . قد يقول قائل : ربما هؤلاء يتصنعون الأدب و الأخلاق نتيجة لعوزهم و حاجتهم للناس . لكن لا .. أنا قد راقبت هؤلاء و تأكدت بنفسي أن الأدب و الأخلاق هو طبع متأصل فيهم .. بالتربية أم بالفطرة . فضلاً عن ذلك فإن المتصنع أو المدعي لابد من أن ينكشف و يزول تصنعه إن عاجلاً أم آجلاً . و فضلاً عن ذلك أيضاً فإن تكلّف الأدب و الأخلاق هو خير لصاحبه من تكلف أمر آخر و قديماً قيل : ( تكلّف الأدب خير من تكلّف العقل ).. لأن تكلف العقل هو جهل مُرْدٍ لصاحبه و مُزْرٍ له ، بينما تكلف الأدب مجمِّل له و إن كان تكلفاً .. و ربما هو اعتاد الأدب و ألفه فأصبح من طباعه .
الأدب أنواع .. أدب المعاملة .. أدب الحوار .. أدب التخاطب و المخاطبة ( حتى على مستوى البريد الالكتروني ) .


تجلس أو تتخاطب مع أناس يفترض أن يكونوا بحكم موقعهم العلمي أو الاجتماعي أو المالي .. الخ ، يمتلكون ناصية الأدب و الذوق العام ، و لكن تكتشف بعد حين من الوقت أو الزمن أن هؤلاء يفتقرون إلى أدنى قواعد الأدب و الأخلاق العامة و أنهم مغرورن متكبرون .. عبارة عن طبول فارغة اعتمدوا مواقعهم العلمية و المالية كواجهة يتعالون فيها على الناس . و عندما تدخل معهم في نقاش فكري أو علمي أو حتى ثقافي عام لا بل حتى مجال تخصصهم العلمي ، تكتشف أن مخزونهم الثقافي و الفكري و العلمي شبه معدوم و ينتابك الشّك في الطريقة التي تحصلوا فيها على شهاداتهم العلمية و مراتبهم المالية .


للأدب و الأخلاق قواعد و أصول ثابتة على مر الزمن و لا تتغير .. فمن أدب الحوار و الكلام ، أن تستمع إلى الشخص المتكلم حتى ينهي كلامه و أن يكون كلامك هادئاً رزيناً و أن تُقْبِل على المتكلم بوجهك و تعبر له عن تفهمك لكلامه و ليس بالضرورة قبوله ( التفهّم غير القبول ) وأن تجلس أمامه بطريقة مؤدبة متواضعة .

الأدب هو التعبير عن احترامك للشخص الذي تتعامل معه بطريقة من الطرق . فمثلاً من أدب المخاطبة عبر الرسائل العادية أم الالكترونية و سواء أكنت مرسِلاً أم مرسَل إليه .. أن تحيي المخاطب بتحية رسمية أو خاصة ، و أن تذكر اسمك ( أنا فلان الفلاني ) و عنوانك و رقم هاتفك ( حسب العلاقة و طبيعة الرسالة ).. و تذكره هو بالاسم ، و أن تشكره على رسالته .. و في حال وصلك منه طرد أو ملف مرفق ، أن تعبر له عن امتنانك و تشعره باستلامك الطرد أو الملف المرفق .. و إجمالاً .. أن تخاطبه بطريقة تشعره فيها باحترامك له حتى و إن كنت لا تعرفه لأن احترامك له هو من احترامك لنفسك . و في حال كنت تخاطب جهات رسمية أو ذات طبيعة مهنية معينة ، أن ترفق ملفات تعريف عن نفسك ( شهادات خبرة – وثائق رسمية أو غير رسمية – استطلاعات صحف – أعمالك .. الخ ) . ليتأكد الشخص من هويتك و مصداقيتك .


في هذا السياق أورد حادثتان حصلتا معي على سبيل المثال لا الحصر ، حول أدب التخاطب :


1) ـ أذكر أيام المراهقة و كنت يومها في السابعة عشر من العمر أني كنت أتصفح مجلة عن عالم السيارات و كان فيها موضوع عن سيارة المرسيدس و صناعتها و في نهاية المقال عنوان شركة مرسيدس و مصانعها في شتوتغارت في ألمانيا الغربية آنذاك .. أنا كشاب مراهق ، استهواني الموضوع ، فقمت من باب التسلية بإرسال رسالة إلى مصانع مرسيدس في شتوتغارت أطلب فيها معلومات عنها و في داخلي أنه لن يتم الرد على رسالتي و سيتم أهمالها ، وبعدها بأيام عدة نسيت الموضوع ...
مرت فترة ثلاث أشهر تقريباً عندما نزلت إلى مبنى البريد لأتفقد صندوق البريد ، فعثرت فيه على ورقة من إدارة البريد تخطرني بوجود طرد لي ، استغربت الموضوع و كنت قد نسيت أمر رسالة ألمانيا تماماً . صعدت إلى الطابق الثاني حيث قسم الطرود و أنا مستغرب تماماً و متسائل عن طبيعة و ماهية محتوياته و مرسله .. كان الطرد من شركة مرسيدس العالمية ، و هو عبارة عن كاتالوك مصور عن تاريخ شركة مرسيدس و منتجاتها ، من السيارات مروراً بالشاحنات وصولا إلى البولمانات ، و مرفق برسالة من مدير شركة مرسيدس بالذات يخاطبني فيها باسمي بكل أدب و احترام و يشكرني جزيل الشكر على رسالتي و امتنانه الكبير على اهتمامي و يختمها بأمنيته أن يكون قد لبى طلبي و أن أكون مسروراً بالكتاب المصور . و قد أنهى رسالته بكتابة اسمه ( المخلص لكم فلان .. مع الاحترام ) .


2 ) ـ أذكر أيضاً أنه بعد سنوات عدة من هذه الرسالة ( و بطلب من صديق لي ) قمت بمخاطبة شركة ( كاتربلر ) للآليات الثقيلة ، و قد جاءتني بعد شهرين رسالة من مديرها أيضاً يشكرني على رسالتي و يخاطبني بكل أدب و احترام و يعتذر عن إمكانية بيع الآليات و قطع غيارها إلا عن طريق الفرع الإقليمي و يقول أنه يوجد فرع إقليمي لمنطقة الشرق الأوسط بعنوان كذا .. و قد أنهى الرسالة متمنياً لي أطيب الأمنيات و ختمها بكتابة اسمه مع تقديم الاحترام . بعدها بشهرين وصلني كاتالوك هدية من شركة ( كاتربلر ) العالمية .


إن احترام هذين الشخصين لي ( وغيرهما كثر ) نابع حقيقة ، من باب احترامهما لنفسهما و موقعهما بالدرجة الأولى ، علماً أنهما لا يعرفاني .. هذا الشخص احترمني في مخاطبتي بالرسالة لأنه شخص يحترم نفسه و موقعه و كذا الآخر فعل ذلك لأنه شخص يحترم نفسه و يحترم موقعه .. لأنه شخص يعرف أصول الأدب و أصول التعامل مع الناس . و الكثير من الرسائل التي تردني تتفق و آداب المراسلة و أصولها .


بالمقابل تتعامل مع أشخاص يفترض بهم أصول التعامل و المخاطبة ، فتجد أنهم يفتقرون إلى أدنى أصول التخاطب و أدب الحوار .. شخص يرسل لك رسالة باسم مستعار ..  شخص ترسل له رسالة فيتجاهلها تماماً و لا يرد عليك .. شخص تخاطبه برسالة وترفق معها ملفات التعريف خاصتك ، فيقول عنك هذا رجل مغرور و يريد أن يظهر نفسه ( ملفات التعريف هي ليتأكد المرسل إليه من شخصية و مصداقية المرسل و جديته ) .. شخص تخاطبه برسالة لتكتشف بعد فترة أنه يسأل عنك أوباش الناس بعد أن يرد بطريقة غير لائقة .. شخص تخاطبه برسالة فيرد عليك بكلمتين فقط و أحياناً بكلمة واحدة ( نعم – شكراً – لا بأس ) و لا يذكرك بالاسم . و آخر رسالة وصلتني من أشخاص من هذا النوع مسؤول في إحدى دور النشر قال فيها كلمة واحدة فقط هي ( نعم ) .. يعني هو مشغول جداً بحل قضايا الشرق الأوسط و القضايا العالمية السياسية و الاقتصادية و لهذا هو يرد بسرعة و اختصار . فبعثت له برسالة قلت فيها : سيدي الكريم رسائلكم التي ترسلونها طويلة جداً و آخر رسالة استلمتها منكم كانت طويلة بحيث أنني بقيت ثلاثة أيام حتى انتهيت منها و قد انتهيت من قراءتها الساعة الثالثة فجراً ، و لذلك أرجو منكم عدم إرسال أية رسائل بعد الآن لأن عيوني تتعب من قراءتها و قد أصاب بالعمى . و من يومها لم يرسل أية رسالة ، من غير شر .


شخص آخر من إحدى المجلات الثقافية العربية راسلني لفترة طالباً بعض من مؤلفاتي لدراستها و خلال تبادل الرسائل لم أستطع أن أعرف لا اسمه و لا منصبه و لا جنسه و في آخر رسالة سألته : سيدي الكريم ممكن أن أعرف من يخاطبني ؟؟!!! فأرسل لي رسالة تحتوي على بطاقة تعريف للمجلة التي يعمل بها .. فأرسلت له : سيدي الكريم أنت دَكَرْ أم إنتى ؟؟؟!!!! .. و عندما ولدتك أمك .. أما أسمتك باسم أم أنك بلا أسم ؟؟؟!!! .. و أيضاً من غير شر .. هذا يوم و ذاك يوم .


إن مسلك الأدب في التعامل و المخاطبة و الحوار ، هو مسلك إنساني بالدرجة الأولى و تعبير عن علم و ثقافة و إدراك حامله و المتصف بصفاته . و إن تكلف و اصطناع الأدب لهو خير من تكلف و اصطناع العلم و الغنى و القوة و الشهرة . فتكلف العلم ، جهل مُزرٍ لصاحبه .. و تكلف المال جهل مفقِر .. و تكلف القوة جهل مُرْدٍ . إلا الأدب فإن تكّلفه ستر لصاحبه و كما ذكرنا من قبل ، ربما ألفه و استأنسه و اعتاد عليه فأصبح شيمة من شيمه و صفة من صفاته .


قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .. تعلموا أدب الدين قبل الدين ، و من لا أدب له لا دين له .. و نحن نضيف .. تعلموا أدب العلم قبل العلم و أدب الفكر قبل الفكر و أدب الثقافة قبل الثقافة و أدب الفن قبل الفن .. فمن لا أدب له لا علم له ولا فن و لا فكر و ثقافة  .


نهاية نقول .. ما دَخَلَ الأدب في شيء إلا زانه ، و ما خرج من شيء إلا شانه .


و نقول أيضاً .. المزايا الخُلقية تغطي العيوب الخَلقية و العيوب الخُلقية تغطي المزايا الخَلقية .


نزار يوسف




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !