مسكينة الكتائب، لأنها لا تملك ترسانة صاروخية تستطيع من خلالها فرض ما تريده في الحكومة الجديدة على الدولة اللبنانية والاكثرية والرئيس الحريري.
مسكينة الكتائب، لأنها لا تشكل واجهة سياسية مسيحية لمشروع حزب مسلح خارجي الولاء والانتماء، تستقوي به لترفع سقف مطاليبها اثناء عملية تشكيل الحكومة بغرض نيلها الحد الادنى من مبتغاها، في بلد بات لا صوت فيه يعلو فوق صوت السلاح واصحاب ذلك السلاح.
مسكينة الكتائب، لانها لا تعبث بالسلم الاهلي والعيش المشترك، كلما رُفِض لها طلب او جرى تجاهل ارادتها.
مسكينة الكتائب، لانها غير قادرة على محاصرة المرفأ والمطار، واحتلال العاصمة العزلاء وانتهاك حرمات أهلها وشوارعها، لارغام الحكومة على التراجع عن قرارات لم تعجبها.
مسكينة الكتائب، لانها اكتفت بتسجيل ملاحظات على طريقة تشكيل الحكومة وإعلانها، ولم تحتل الساحات وتنظم الاعتصامات، حين لم تقدّر المشاورات التي رافقت تشكيل الحكومة مسيحيي الاكثرية وبالأخص حزب الكتائب، فيما نال الطرف المسيحي في الاقلية جل مطاليبه لا سيما ما يتعلق منها بوزارة الاتصالات وتوزير الراسبين في الانتخابات، بل نجح في ابقاء القديم على قدمه رغم تراجع تمثيله بنسبة 23%، باحتفاظه بخمسة وزراء.
مسكينة الكتائب، لانها التزمت باتفاق الطائف فقبلت تسليم سلاحها للشرعية اللبنانية، ولم تعمل على بناء جيش مذهبي صرف، معاد للصيغة التعددية الديمقراطية اللبنانية بدعم اقليمي في مواجهة كل الطوائف اللبنانية المسالمة، تفرض بواسطته هيبتها وتنفذ بقوته مشاريعها.
مسكينة الكتائب، لانها عاجزة عن تعطيل حكومة بلد بأمه وابيه كرمى لعيون وزيرها ووزارة التربية التي طمحت للحصول عليها ولم توفق.
مسكينة الكتائب، لانها تفكر بالمصلحة العامة وتقدمها على مصالحها الخاصة وان كانت ظالمة ومجحفة في حقها، كما حصل حين جرى التنكّرٌ لتمثيلها الواسع على الصعيدين الشعبي والنيابي في الحكومة الجديدة، وما قدمته من تضحيات وشهداء في سبيل ثورة الارز، وفي مقدمتهم الوزير والقائد الشاب بيار الجميل، قبل ايام من الذكرى الثالثة لاستشهاده.
لقد وقع الكتائبيون ضحية تسرّع الرئيس المكلف في تقديم تشكيلته الحكومية الى رئيس الجمهورية من جهة اولى، ومن جهة ثانية ضحية التعطيل الذي دام قرابة اربعة اشهر ونصف الشهر، مارسته الاقلية قبل ان تعود وتقرر التسهيل بعدما حصلت على معظم مطاليبها وبلغها الضوء الاخضر السوري-الايراني للموافقة على التشكيل، ما جعل الرئيس المكلف في سباق لاهث مع عقد اللحظات الاخيرة التي انحصرت في فريق الاكثرية؛ اذ عُلم ان اتفاقا بينه وبين رئيس الجمهورية ميشال سليمان، قضى ببذل كل الجهود لاعلان الحكومة في مهلة اقصاها مساء الاثنين 9تشرين الثاني 2009.
وكان من غير اللائق ان يعامل بهذه الطريقة حزب جسّد عبر مسيرته التاريخية ثوابت حركة 14 آذار قبل ولادتها، ثم شكل محور ثورة الارز التي استنبطت من مبادئه مبادئها ومن شعاراته شعاراتها ومن دم شهدائه مشعلها... ففي حين كان اعضاء المكتب السياسي الكتائبي يعقدون اجتماعهم للتأكيد على تمسكهم بحقيبة التربية في الحكومة الجديدة، ويتلون بيانهم الذي شدد على هذا المطلب واعتبر مجلسهم في حالة انعقاد دائم لمتابعة تطورات عملية التأليف، كان الرئيس المكلف سعد الحريري في القصر الجمهوري يقدم للرئيس سليمان تشكيلته الوزارية التي اسند فيها اليهم حقيبة الشؤون الاجتماعية عوضا عن التربية، لكي يوقع عليها ويصدر مراسيم تشكيلها!
وقد ادى هذا التصرف الذي ينم عن سوء تنسيق بين قوى الاكثرية على اقل وصف وتقدير، الى امتعاض وخيبة امل لدى جمهور الكتائب ومن ورائه جمهور ثورة الارز، الامر الذي جعل حزب الكتائب يعتبر ان تجمع 14 آذار بهيكليته الحالية وطريقة تعاطيه مع الفرص التاريخية والتحديات المختلفة "يترنح"، و"يفقد تدريجيا وحدته وروحيته امام الرأي العام".
وحُقَ للكتائب ان تطلق هذا الانذار، وتقترح انطلاقا من حرصها على مسيرة ثورة الارز اعادة النظر بوضعية تجمع 14 آذار، ثم تطرح على قادته وشخصياته مشروعا اصلاحيا واضح المعالم والخطوط العريضة.
فإذا سلمنا ان ما حال دون تمكّن قوى 14 آذار من اسقاط الرئيس اميل لحود الممددة ولايته قسرا في الشارع ما بين عامي 2005 و2007 هو الخوف من استعمال السلاح غير الشرعي في الداخل، وان ذلك السلاح نفسه هو ما حال دون وفائها لجمهورها بالوعود الكثيرة التي قطعتها على نفسها، سواء ما يتعلق منها بانتخاب رئيس من فريقها بالنصف زائدا واحدا عندما اعتلى الفراغ سدة الرئاسة الاولى من اواخر عام 2007 الى منتصف عام 2008، او فيما خص ممانعتها انتخاب عسكري لرئاسة الجمهورية تحت شعار: "الامر لك في الامن لا في السياسة"، او لناحية رفضها تشكيل حكومة ملغومة بالثلث المعطل... ثم قبولها بذلك كله بعد تسوية الدوحة وتكراره اليوم بعدما فُرِض ذلك الثلث القاتل بشكل مضمر او مموه في حكومة ما بعد الانتخابات فضلا عن توزيرالراسبين الذي عارضته...، فإذا سلمنا ان ما فرض كل ذلك هو السلاح الميليشيوي عينه، فبالتأكيد لا يمكن تحميله مسؤولية ما حصل مع الكتائب في تشكيل الحكومة الجديدة، كما لا دخل له بتلك البلبلة داخل الفريق الواحد المتزايدة منذ فترة، وان كان ذلك السلاح قد نجح في اخضاع النائب وليد جنبلاط للواقع السياسي الجديد بعد حوادث 7ايار الارهابية في بيروت والجبل، وفصله بطريقة او بأخرى عن قوى 14 آذار وان ادعى بقاءه في الاكثرية.
لقد قدمت الكتائب لقوى 14 آذار بطرحها مشروعا اصلاحيا لذلك التجمع، فرصة انقاذية في مرحلة غاية في الدقة من تاريخ لبنان ومسيرة ثورة الارز، تلك الثورة التي جسدت انتفاضة شعب خرج من "سجنه الكبير" الى رحاب وطن يناضل من أجل حريته وسيادته واستقلاله... وذلك في محاولة من الكتائبيين لإعادة "شد عصب" ثورة الارز وجمهورها، والمحافظة على حقيقة روحية تلك الثورة التي يجب ان تبقى راسخة وعابرة لحواجز الطائفية والحزبية.
واليوم، بات التقدم بأي مشروع اصلاحي حاجة ملحة، بعدما خسرت الاكثرية النيابية فرصة تطبيق الديموقراطية في لبنان، ولم تحسن استثمار الربح الذي منحها اياه الشعب اللبناني في الانتخابات، بالتزامها للمرة الثانية باتفاق الدوحة و"دَوْحَنَتها" دستور الطائف من خلال الاصرار على التوافق في عملية تشكيل الحكومة (وهو التوافق عينه الذي فرض عليها في انتخاب رئيس للجمهورية ولمجلس النواب)، واعتمادها صيغة 15-10-5 التي استعمل السلاح لفرضها وكخلفية لفرض توزير الراسبين، ما نسف قيمة الانتخابات، واطاح بنتائجها، وبدّد انتصار 7 حزيران، حيث باتت سلطة السلاح هي التي تفرض الأمور كلها، وعاد لبنان يُحكم من سوريا وايران عبر الثلث المدمر المملوك من حلفائهما...
بعد كل ذلك، لعل الخطوة الانقاذية التصحيحية التي دعت اليها الكتائب اقل ما يمكن تقديمه تجاه ثورة الارز والشهداء الذين ضحوا بأنفسهم لبقاء لبنان، والذين تجلت شهادتهم بأبهى حلة لها في انتفاضة الاستقلال عام 2005 وفي ذكرى 14 شباط من كل عام، فمن حقهم علينا أن لا نفرط بشهادتهم ودمائهم، عبر اطلاق مسار جديد يحافظ على ما تبقى من وجه لبنان ونظامه ودستوره المتغير تدريجيا يوما بعد يوم واستحقاقا بعد استحقاق تحت شعار "التوافق" الذي يتناقض والنظام البرلماني الديمقراطي، مسار جديد متجدد بروحية متوقدة كما عهدناها، تعيدنا الى اصالة الحدث التاريخي الذي صنعناه وشهدناه في 14 آذار 2005، روحية تؤكد نبض الشعلة الاستقلالية وتوهجها في الثبات على المشروع الأساسي، وفي التضامن السياسي المتجرد عن المصالح الخاصة والفئوية والحزبية والمناطقية، وفي اعتماد العدالة في الحياة السياسية، فلا استئثار ولا استبعاد ولا تهميش لبعضنا البعض، لأن لا انتصار بدون حس المشاركة ومبدأ الشراكة، فالمهم أن ننتصر معاً لنكمل مسيرة بناء الدولة اللبنانية القوية والجامعة والمستقلة عن كل تدخل أو وجود لقوى خارجية على أراضيها، دولة ذات نظام ديموقراطي حيث إرادة الشعب هي الأعلى وحيث ممثلو الشعب المنتخبون بكل حرية يقررون الحرب والسلم، واخيراً دولة سيدة تحصر السلاح بمؤسستها العسكرية وتبسط سلطتها الوحيدة على كامل أراضيها.
عبدو شامي
التعليقات (0)