( ليلة شتائية باردة جدا .. الساعة الثانية بعد منتصف الليل ..
اضاءة خافتة ، سرعان ما تشتد مع صوت موسيقى مختلطة بآهات ..
المكان قاعة لغسل الموتى ، يتوسط المسرح ( دكة غسل الموتى ) ، ترقد على الدكة جثة مغطاة بملاءة بيضاء . الى جانب الدكة حوضين صغيرين ممتلئين بالماء .
تتوزع قطع قماش بيضاء ، واكفان متسخة ، وتنتشر في المكان ايضا ملابس مختلفة وقديمة .. وأوراق رسمية .. محفظات نقود .. اقلام .. خواتم زواج .. نظارات ..
مع تبدل الموسيقى .. يدخل غاسل الموتى .. رجل في منتصف الاربعين من العمر .. )
غاسل الموتى : ( متذمرا ) دعوة اخرى لغسل الموتى .. دعوة لا تعرف كيف تباشر فعلها وسط هذه الليلة الباردة جدا ، فعلها المغمس بنكهة لا تنتهي من الموت ، وقد جاءت في غير موعدها ، حيث انتصفت هذه الليلة ، ودافني فراشي بين اغطيته مثل طفل ، فكورتني مفاصل جسدي ككرة راودتني فيها نشوة السكون والدفء ، وروحي تتلذذ بفاكهة ذاك الدفء .. وسط عالم متجمد خارج فراشي.. ولكن من أين للموت أن يموت في هذه الارض ، لعنة سكنتها الحروب والحصارات والجلادين الكبار .. سكنتها ارتال من جنود عزرائيل ، تقبض اهلها أفرادا وجماعات , نساء واطفالا .. في الليل والنهار .. فلا الموت يمل من هذا التكرار المرير ، ولا أهل هذه الارض ينقرضون ، أو يتغيرون .. وكلهم يمرون عليّ هنا .. في هذا المكان كي أغسل جثثهم الهامدة.
( يبدأ بخلع سترته وتعليقها .. يدخل الشبح من بين مجموعة من الملابس المعلقة .. والشبح كائن متحول يظهر بهيئات لشخصيات مختلفة تحاصر غاسل الموتى في هذا المكان )
الشبح : اراك منزعجا هذا المساء ..
غاسل الموتى : ( يتحدث مع الشبح ) شبح آخر ..
الشبح : شبح.. لا شيء آخر ..
غاسل الموتى : تعودت عليكم ..
الشبح : أرى أنك تشترط على زوار دكتك ساعات موتهم ؟
غاسل الموتى : ( يتحرك ) أنا أعرف .. ليس بأيدهم هذا الموت ، لكن ماذا لو اختاروا ساعات افضل للموت ، وللتغسيل ، توقيتات ضمن ساعات العمل الانساني الممكن ، لا موتا في ساعات الدفء والسكينة في مثل هذه الليلة الباردة .
الشبح : ( ينظر في المرآة ) ذكّرني بالحياة خارج هذا المغتسل .. ؟
( يتحدث وهو يرتدي معطف العمل ، معطف ابيض اللون .. طويل .. يبدأ بغلق ازراره )
غاسل الموتى : كان يومي هذا يوما مميزا للغاية .. نعم .. يختلف عن كل سنيني الثلاث والاربعون التي عشتها . مع شروق الشمس ليوم غد سيصبح الحلم ممكنا ، والضحك له طعم آخر ، وتلبس هذه الارض ثوبا آخر .. نعم .. لم اصدق اذني حين سمعت الخبر .. كيف حدث هذا الامر سريعا ، كان اسرع مما توقعت .. ففي لحظة ما .. تغير كل شيء .. سقطت التماثيل .. كل التماثيل .. وسط صراخ الحشود وهتافهم ..
الشبح : هل فعلا .. سقطت التماثيل .. !
غاسل الموتى : ( يتحدث مع الشبح بانفعال ) هل تشك في ذلك ؟ ( يتحرك )كنت دائما اشك أنهم سيفعلون شيئا تجاه هذا الغول ، ظننت أن الجميع قد تحولوا الى حجر أصم لن ينطق يوما .. آه .. كم صمتوا .. كانوا يجيئون هنا ، الى مغتسل الموتى ( يمسك الشبح من كتفيه ويدور به الى منتصف المسرح ) ، وبين يدي هاتين كانوا صامتين .. شفاههم تيبست لطول الصمت ، فغدت زرقاء متحجرة ( يفر الشبح بوجهه بعيدا .. ثم يتحرك مبتعدا عن غاسل الموتى .. ثم يخرج ) لم يتكلموا بما كان يجول في خاطرهم ، آه .. كم كانت عيونهم تصرخ .. تبكي .. تتوسل .. تنادي من شدة ما جرى عليهم .. كنت امددهم هنا .. نعم .. على هذه الدكة القديمة ,, أغسل وجوههم الحزينة ، الذليلة .. أغسل ايديهم القصيرة .. وبطونهم الخمص ، من جوع الحصارات ، والمرارات ، وحزن الإهانة الأبدية .. نعم .. وأمرر يدي على أقدامهم التي طالما حلموا أن تحملهم بعيدا ، بعيدا عن هذه الأرض .. خلف الحدود .. باحثين عن عشبة تمنحهم الحياة بعيدا .. بعيدا عن هذا المكان الذي اغتالته سنوات الزعيم ورجالاته لعقود طويله … نعم .. أمسكهم هكذا .. ( يتحرك وكأن جثة بين يديه ) وأقلبهم على دكة غسل الموتى ، صامتين بين يدي هاتين .. وأنا صامت مثلهم … ادعكهم بين يدي هكذا ، بماء نقع فيه ورق السدر ، باحثا لهم عن لحظة طهر ، من هذا العمر ، الذي لوثته المرارات والاوساخ الروحية ، مع بقايا الجلادين وايديهم التي ، لوثت هذه الاجساد البريئة ..( يتحرك ) آه كم كنت أسمع صمتهم على هذه الدكة .. آه كم كنت أحدق في عيون بعضهم المفتوحة .. تنظر صوبي بحزن عميق .. عميق جدا .. ( يتحرك ) كنت اطيل النظر الى عيونهم .. ثم .. أمد يدي .. كي أغمض عيونهم المفتوحة .. نعم .. اغمضها بيدي هاتين .. أمنحهم لحظة لائقة للرحيل ، عن كل تلك الوجوه التي عبّست فيهم .. حاصرتهم بالأوامر .. والصراخ .. والعقوبات المختلفة .. ( يتحرك .. صوت موسيقى من بعيد ) ..
( يدخل الشبح .. ينظر غاسل الموتى للشبح )
غاسل الموتى : شبح آخر ..
الشبح : شبح .. لا شيء آخر ..
غاسل الموتى : ( يتحدث مع الشبح ) لا تخف .. سترتاح أرواحكم .. ستشرق غدا شمسا اخرى ، لا ترى الزعيم واعوانه .. سيهب نسيم الصبح متنفسا لعمر جديد ، سنعرف فيه طعم الامان . والسعادة .. والأمل .. نعم .. لقد سقطت التماثيل .. كل التماثيل .. لقد كانت كلها من ورق .. تآكل سريعا صرحهم الكارتوني ، وسط الهتاف الغاضب .. تمزقت تماثيلهم وكياناتهم .. اليوم مات الزعيم بيد الثوار ..
الشبح : هل حدث ذلك حقا .. ؟
غاسل الموتى : نعم .. هذا ما حدث ..
الشبح : (في شك ) تـ .. ما .. ثيل .. سـ .. قـ ( يصمت .. ثم ينظر حوله .. ثم يخرج )
غاسل الموتى : ( يتحرك باحثا عن بعض الاشياء ) لقد كان فراشي هذه الليلة أكثر دفئا وطمأنينة .. لأول مرة أشعر بأني سأغفو على أرض لا يملكها الزعيم .. ولا تهددني بطاناته المتوحشة .. آه كم كنت سعيدا هذه الليلة .. ( يتحرك ) حينما غفوت وبدأت أغط في نوم لذيذ .. حالما بشمس الغد ، ايقظتني رنة جهازي النقال ، في الساعة الواحدة ليلا ..
( صوت رنين الجهاز النقال .. يدخل الشبح وهو يرتدي زي أسود اللون وبيده جهاز نقال يتصل منه )
الشبح : الو ..
غاسل الموتى : سمعت في الجانب الآخر صوتا لم أتوقع أن اسمع مثله في مثل هذه الليلة السعيدة .. صوتا أجش .. صوت رجل ثقيل .. يتكلم بطريقة الأمر .. لا أدري كيف تذكرت في هذه الليلة ضابط الصف العدواني الذي كان يأمر عليّ بقسوة حين كنا نخدم في الجيش ..
الشبح : ( يصرخ بصوت مرتفع ) قشمر .. قف حين اتحدث معك .. حتى وإن كنتُ على الهاتف ..
غاسل الموتى : ( يقف مستعدا في مكانه .. وهو يرتجف .. والنقال على اذنه ) نعم سيدي .. أنا تحت أمرك ..
الشبح : متخاذل .. جبان ..
غاسل الموتى : ( خائفا) أنا .. أنا ؟
الشبح : سأنفذ بك حكم الاعدام في ساحة المعركة .. ( يصرخ ) خائن ..
غاسل الموتى : آه .. كم كنت أكره صوته الأجش البغيض .. لقد كان يذكرني بصوت الزعيم .. بالمدافع .. بالخنادق التي رسمتها حروب متواصلة ولا منتهية .. لقد خفت من الصوت القادم في النقال .. لم أجبه سوى بجملة واحدة .. نعم سيدي .. أنا تحت أمرك سيدي ..( يتحرك ) أنا لم أنسى أن عصر الزعيم قد انتهى قبل ساعات .. فأنتهى معه عصر الأوامر .. وعصر الضباط .. والعرفاء .. ووكلاء الأمن .. لكنني .. لكنني كنت خائفا .. تذكرت ضابط الصف ..
الشبح : ( وهو يتكلم في النقال ) اسمع يا غاسل الموتى .. هناك جثة في مغتسل الموتى نريد منك أن تغسلها وتكفنها في هذه الساعة ، نريد أن ندفنها قبل طلوع الفجر .. هل هذا واضح ؟ ( يخرج )
غاسل الموتى : ( وهو يقف بحالة استعداد تام ) نعم .. نعم يا سيدي .. أنا تحت أمرك .. ( يتحرك باتجاه الدكة.. وقد غير لهجته ) لا يهم .. لا يهم .. سيكون هذا آخر ميت في هذه الأرض .. أما عزرائيل فسيبحث عن أرض اخرى ، مدن أخرى
( ينهض ليلبس قفازاته .. ويجهز السدر والكافور .. ويرتب بعض الاشياء .. وهو يتحدث )
غاسل الموتى : خواء أصاب الزعيم .. بدا من عينيه ضعيفا حين ظهر على شاشة التلفاز آخر مرة .. لقد شعر الجميع بهذا الضعف .. تعرفوا على هذه اللحظة الحاسمة .. خرجوا من بيوتهم .. كنت أنا معهم .. نعم .. قد أكون .. ترددت في الساعات الأولى .. لكنني بعد الظهر كنت أهتف بينهم .. ( يتحرك ) لقد كرهت يديّ هاتين لكثرة الاجساد الميتة التي مرت عليها .. لقد كرهت اصابعي وقد مرت بين خصلات شعرهم الندية .. ( يدخل الشبح ) تصورت أنني سأكون هذه الليلة هنا .. على دكة غسل الموتى ( يستلقي على ظهره .. ويقترب منه الشبح ) .. يغسلني عليها غاسل موتى لا يتقن المهنة ( يبدأ الشبح بسكب تراب كان في اناء بيده على غاسل الموتى .. فيفلت منه ) فيهين بذلك جثتي الشهيدة بيد رجال الأمن ..
( يتحرك وهو يضحك بصوت عال .. ويضحك معه الشبح )
غاسل الموتى : لكنني عشت .. ومات الزعيم .. وفي هذه الليلة سأغسل جثة آخر مقتول على هذه الأرض .. نعم .. ( يتحرك راقصا مع الشبح .. وهما يضحكان معا ) مات الزعيم .. وعشنا نحن .. نعم .. لن نموت بعد اليوم .. سوف نتذوق طعما آخر للحياة .. أقل ما فيه أنه سيكون غير مغمس بنكهة الزعيم المرّ كالحنظل ، سأغسل الآن آخر موتى هذا الوطن .. وسأقفل هذا المغتسل الى الأبد .. ولن أعود اليه مرة اخرى .. والى الأبد .. لن أغسل موتى بعد اليوم .. لأنه ببساطة لن يكون هناك موتى .. ( يخرج الشبح وهو يرقص )
( يتحرك باتجاه الدكة .. يمسك بالملاءة التي تغطي الجثة .. )
غاسل الموتى : ( يكلم الجثة ) لا شك أنك لا تملك كثيرا من الحظ أيها الميت التعيس ، فلو أنك أجلت موتك ساعة أو ساعتين .. مسكين انت .. ترى كم طفل وامرأة ينتظرون قدومك كي تملأ سلالهم بالأماني والفرح .. ها .. كم .. ولكنك هذه الليلة ستملأ أيامهم وما تبقى منها بالدمع والفراق .. مسكين انت ايها الموسد على دكتي هذه الليلة ..
( يرفع الملاءة عن وجه صاحب الجثة .. فيصاب بالهلع ، ويرجع مذعورا الى الخلف )
غاسل الموتى : يا الهي .. ماذا ارى ؟ .. آه .. أرى .. أرى أمامي .. جثة .. جثة الزعيم !
( يدخل الشبح مسرعا )
الشبح : ماذا تقول ؟
غاسل الموتى : ( يذهب ليلوذ بالشبح ) جثة الزعيم هنا .. ( ثم يأخذ الشبح باتجاه الدكة )
غاسل الموتى : تعال وانظر .. جثة الزعيم هنا .. على دكتي !! لا أخال أنني في كابوس رهيب .. كابوس مفزع .. جثة الزعيم بين يدي هاتين .. يا الهي لم أكن اتصور أن يحدث ذلك يوما .. على دكة الموتى ينام الزعيم .. آه .. مربك ما أنا فيه .. يخيل إليّ أنه سيغمى عليّ .. لا .. بل سأصاب بالغثيان .. لا .. لا .. سأقيئ معدتي..
( يقترب الشبح من جثة الزعيم .. يحدق في الجثة )
الشبح : الزعيم .. !!
غاسل الموتى : نعم .. إنه الزعيم .. بشحمه ولحمه .. وعيناه مفتوحتان .. قلبي يرتجف من الخوف .. لا أستطيع السيطرة على قدمي .. انهما لا يحملان جسدي .. آه .. سأقع على الأرض مغشيا عليّ .. إن عينا الزعيم تحدقان فيّ .. ( يقف هو والشبح باستعداد أم الجثة ) نعم سيدي .. أنا تحت أمرك .. نعم سيدي .. أنا تحت أمرك .. بماذا تأمرني .. هل أتركك تنام بهدوء ؟ . ها .. نعم .. نعم سأتركك تنام .. ماذا .. لا اسمع ما تقول ؟ تأمرني أن أغسلك وأكفنك ؟ .. ولكنك .. لكنك الزعيم .. والزعماء في هذه الأرض لا نتصور أنهم سيموتون أبدا .. ماذا تقول ؟ أنت ميت الآن .. ؟ نعم سيدي .. أنا تحت أمرك ..
( يمد الشبح وغاسل الموتى أيديهما خائفين باتجاه جثة الزعيم .. وقبل أن تصلا .. يسحباها )
غاسل الموتى : لا .. لا ..
الشبح : ( يتراجع خائفا ) لا .. لا .. لا
غاسل الموتى : ( يبتعد عن جثة الزعيم ) لا أستطيع .. إنه الزعيم .. بكامل قيافته العسكرية .. وبكل نياشينه وأوسمته التي وضعها هو لنفسه ، وقلدها هو على صدره ..
الشبح : (يسحب غاسل الموتى من ياقته ويطرحه ارضا ) بالنظر للموقف البطولي والشجاعة الفائقة ، التي ابديتها أنا في كل معارك الشرف قررت أنا ما يلي .. أمنح نفسي وسام الشعب ووسام الوطن ووسام الابطال ، وكلها من الدرجة الاولى ومن النوعين العسكري والمدني .. عاش الشعب . ..
( يضحك الشبح ويخرج )
غاسل الموتى : ( يضحك وهو ملقى على الارض ) أظنه لا يعني .. عاش الشعب .. فلقد قتل الزعيم عشرة من كل مائة انسان من هذا الشعب ، قتلهم بعد كل وسام ونوط شجاعة وضعه على صدره ..
( يتحرك باتجاه الجثة )
غاسل الموتى : نعم سيدي الزعيم .. هذه قيافتك العسكرية .. وهذا مسدسك .. ( يمد يده ويسحب مسدس الزعيم ) هذا هو مسدسك .. يشبه تماما شكله في كل التماثيل التي تجسدك بقيافتك العسكرية .. ( يتفحص المسدس ) كالعادة .. ومثل كل الزعماء ، مسدسك من الذهب الخالص .. ( ينظر الى عتاد المسدس ) نعم .. وعتاده أيضا سيكون من الفضة ككل الزعماء .. ومثلهم عدد رصاصاتك كاملة .. يا الهي كم تتشابهون انتم .. كأنكم ممثلون تؤدون الشخصية نفسها في مسرحية واحدة .. لا تعرفون كيف تغيرون النص فيها .. ولا كيف تتعاملون مع الجمهور .. حسنا سيدي .. أنا حقا آسف لأنني سأصادر هذا المسدس منك .. صدقني سيدي الزعيم لن ابيعه ابدا .. لا .. لا .. بل سأحتفظ به للذكرى .. نعم للذكرى فقط .. سأعلقه على جدار غرفة الضيوف .. سأخبر كل ضيوفي أنني التقيتك في آخر ليلة لك على دكة غسل الموتى ..
( يضع المسدس في جيبه .. ثم يقترب من جثة الزعيم )
غاسل الموتى : آسف سيدي الزعيم .. ولكن لدي أوامر بأن اغسل جثتك وأكفنك قبل طلوع الفجر .. ( يحاول أن يمد يده الى جثة الزعيم ) يدي لا تطاوعني أن أمدها على جثة الزعيم .. ( يشد على نفسه .. ويمد يده .. على الجثة .. يلمسها ) يدي تمر على جسده .. آه .. جسد لا يختلف عن جسد غيره .. .. ( ينظر في عيني جثة الزعيم .. فيخاف ويسحب يده عنها ) عيناه تلاحقانني أينما تحركت ..
( يدخل الشبح .. من بين الملابس المعلقة )
الشبح : ( بصوت عال ) ايها الجندي الغبي ..
غاسل الموتى : ( يقف مستعدا ) نعم سيدي ..
الشبح : ما لذي تفعله ايها الخائن .. خائن .. ( يخرج )
غاسل الموتى : نعم سيدي .. أنا تحت أمرك .. ولكن ! هذا هو عمل غاسل الموتى .. يجب عليّ أن .. أن أجرده من ملابسه .. عذرا سيدي.. ولكن هذه هي قواعد العمل .. ( يستجمع قواه .. ثم .. تبدو عليه الجدية .. يتحدث مع نفسه ) هل جننت أنا .. إنه الآن مجرد جثة .. جثة هامدة .. أنا الزعيم هنا أمام هذه الدكة .. وكلهم هنا موتى .. حتى الزعيم .. سيتعفن ككل الموتى بعد ساعات .. سيصبح مجرد جيفة تدفن بعيدا في قبر لا يعرف مكانه احد ..
( يتقدم الى جثة الزعيم .. يمسك بأحد النياشين المعلقة على صدره )
غاسل الموتى : نعم .. أذكر يوم قلدت نفسك هذا النوط .. سأرى ما كتب الزعيم على هذا النوط .. ( ينظر الى النيشان ) الفارس .. المقدام .. الاوحد .. القوي .. الـ .. الـ .. ( ينظر الى الجثة ) كم كنت تحب الالقاب والمسميات سيدي .. آه لو كنت أحببت شواطئ بلادك ، وطيور النورس فيها .. لا أشك أبدا أنك ستكون حينها بحال أفضل من هذا الحال .
(يقوم بأخذ كل النياشين والاوسمة التي على صدر جثة الزعيم ويضعها على صدره هو )
غاسل الموتى : هكذا سيدي الزعيم .. سأكون هذه الليلة أنا الزعيم هنا .. وأنت .. أنت لست سوى ميت على دكتي .. أعطني غطاء الرأس ( ينزع غطاء الرأس العسكري ويلبسه هو ) بهذا يكتمل كل شيء .. أنا الزعيم لهذه الليلة .. ( يذهب باتجاه المرآة ) آوه .. أبدو أكبر من حجمي كثيرا .. كأنني ارتدي جسدا كبير .. أكبر مني .. مثل تماثيل الساحات .. حتى رأسي ، أشعر وكأنه أكبر .. وشواربي أكثر كثافة .. وحتى أعضائي الداخلية.. احسها أكثر حيوية .. و أكبر حجما ..
( يدخل الشبح وهو يضحك )
غاسل الموتى : شبح آخر ..
الشبح : شبح .. لا شيء آخر ..
( غاسل الموتى يُجلس جثة الزعيم قبالة الجمهور .. ويمسكها الشبح من الخلف كي لا تقع )
الشبح : شبح .. لا شيء آخر ..
غاسل الموتى : ( يتكلم مع الجثة ) كم انت صغير يا سيدي بلا نياشين واوسمة .. وبلا غطاء الرأس العسكري .. ولكن تحاصرني الاسئلة .. كيف ستكون وانت عاري تماما اثناء غسلك وتكفينك سيدي الزعيم ..؟
( الشبح يفتش في شعر الزعيم ..وهو يتحدث )
الشبح : لا شيء .. (يفتش ) لا شيء .. (يفتش ) لا شيء .. (يفتش )
( يبدأ غاسل الموتى بفتح ازرار سترة الزعيم العسكرية .. ويتحدث اثناء ذلك .. )
غاسل الموتى : ( يحدق في احد الازرار ) هذا الزر مرصع بماء الذهب .. كم يبدو جميلا .. وهذا الزر ايضا .. انها فعلا ازرار متميزة تليق بك كزعيم حي .. لكنك الان زعيم ميت .. فعذرا سيدي الزعيم ..
( يخلع سترة الزعيم .. فيبقى الزعيم عار من الاعلى .. ثم يتراجع غاسل الموتى الى الخلف وهو يحدق في جسد الزعيم الذي تجلس جثته عارية من الاعلى على دكة غسل الموتى )
غاسل الموتى : سيدي الزعيم الراحل .. عذرا .. عذرا لسوء النعت .. ولكنك تبدو ضئيلا جدا .. وبلا قيافتك العسكرية .. هيئتك بلا طعم .. .. انك تذكرني بجثة ضابط الصف الذي كنت اخاف من صوته .. حين مات بسبب طعام فاسد في ارض المعركة .. كان جسده يشبه القنفذ وهو عار بلا أبر ..
الشبح : ( يصرخ ) قشمر .. خائن .. قشمر .. خائن ..
غاسل الموتى : ( خائفا ) نعم سيدي .. سأخلعها لك .. سأخلعها حالا .. نعم سيدي ..
( يقوم غاسل الموتى بخلع حذاء الزعيم وجواربه وبنطاله )
غاسل الموتى : ( يتحدث مع نفسه ) لم يخطر في بالي ابدا ، أن يجيء يوم اُنزع الزعيم ملابسه قطعة .. قطعة .. حتى يصبح هذا الجبار عار تماما ، مثل حمامة مسكينة تناوشها الصقور .. فقدت كل ريش الجمال .. وظهرت عورتها .. ( يصبح الزعيم عارٍ تماما .. فيحدق فيه غاسل الموتى طويلا ) يجول في خاطري سؤال سيقتلني .. ينهش في ذاكرتي .. سيدي الزعيم .. هل كان حاكمنا ورمزنا وقدوتنا وقائدنا الهمام .. شخصا مثليا بالسلب .. أهذا الذي سمعته حقيقة ؟
الشبح : (يمد جثة الزعيم على الدكة .. يتحدث مع نفسه ) نعم .. نعم .. لا شيء آخر .. لا شيء آخر .. ( يخرج الشبح )
غاسل الموتى : ( ينظر في ساعة يده ) بدأ الوقت يمر سريعا .. لا يمكنني أن أتأخر أكثر .. سأغسله وأكفنه .. رغم موقفي منه .. سواء كان دكتاتورا أم عادلا .. صالحا ام سيئا .. رجلا سويا أم منحرفا .. هذه هي مهمتي ، أن اغسل أجسادهم وبقاياهم من ادران ما فعلوه ، وما حصدوه في ايامهم ولياليهم ..
(يبدأ بصب ماء السدر على جثة الزعيم )
غاسل الموتى : سأسكب عليه ماء السدر .. اسكبه كثيرا .. فقد فاقت قذاراته التي صنعها كل الحدود ، وكل المسميات .. سيدي الزعيم .. ها انا ذا اسكب عليك ماء السدر .. كي يجعل كل اعصابك ترخو .. فلقد كانت متشنجة .. فارتبكت معها عجلة هذي الارض واختل ميزانها .. وتشنجت كل مواقفنا ورؤانا بسبب تشنج أعصابك الدائم .
( يأخذ غاسل الموتى قطعة من الاسفنج يغطسها في الماء .. ثم يضع الصابون السائل على جسد الزعيم ثم يدعكه بالإسفنجة .. فتكثر الرغوة على جسده )
غاسل الموتى : هل ستسمح لي أن أبدأ بغسل وجهك في البداية .. يجب أن يكون وجهك أول ما أغسله بالصابون .. فوجهك كان أقبح ما تملك .. كان حين يظهر لنا في التلفاز ، ترتجف كل قلوب الرجال والنساء .. ( يدعك وجهه ) ويبكي كل اطفال بلادي .. يبكون طويلا .. يعرف الجنود من وجهك هذا ، أن معركة جديدة ستحدث .. ( يزيد غاسل الموتى من شدة دعك الوجه ) وجهك بوابة للجحيم سيدي الزعيم .. سأطفأ لهيبها بالماء والسدر على دكتي هذه ( يدعك .. ويدعك وهو يردد نفس الجملة .. ثم يتوقف .. يصمت قليلا .. ثم يبدأ بدعك صدر الزعيم بالرغوة ) وهذا صدرك .. وفيه قلبك .. ( يدعك الصدر وهو يهز كل جسمه .. ) سأنظف قلبك ..
( يدخل الشبح وبيديه دلوين يفرغ ما بهما من ماء في إناءي غاسل الموتى ويخرج )
غاسل الموتى : ( يتحدث مع الجثة ) أما يديك هاتين يا سيدي .. يداك التي قتلت .. وانتهكت .. واقترفت .. وسلبت .. وقطعت .. وكتبت .. واكلت فيها .. ارواح الأخوة والأصحاب والوطن .. انها بحاجة الى رغوة أكثر كي تطهر ( يسكب الصابون السائل على يد الزعيم اليمنى ويبدأ بدعكها بهستيريا مفرطة ) يدك تحتاج الى صابون أكثر .. رغوة أكثر .. ودعك أشد .. واشد .. ( يتوقف وهو ينظر الى كل جسد الزعيم .. ثم يبدأ بدعك قدمي الزعيم ) وهذه قدماك هي الأخرى بحاجه الى أن ادعكها .. أدعكها .. حتى تتبخر كل الاماكن المظلمة والقاسية التي قدت أبناء هذه الأرض لها .. حيث الحروب والحصارات والمغامرات الخاسرة ، أقدامك التي حملتنا جميعا الى الضياع وفقدان الأمل ، ( يدعك أقدام الزعيم بالرغوة حتى تغدو بيضاء اللون ثم يقلب غاسل الموتى جثة الزعيم على جنبه الأيمن ، ويواصل دعك الزعيم من الاعلى الى الاسفل ) بهذا الجسد الضئيل .. الضئيل جدا .. ألّهت نفسك .. صنعت من نفسك نبيا أخطأته الرسالات .. فكل فعلك كان صوابا .. وكل مقالاتك كانت حكمة .. وكل حركاتك وهمساتك ولفتاتك كان لها ألف معنى ومعنى ..
الشبح : ( ينادي من الخارج ) يعيش ..
غاسل الموتى ( يصرخ بهستريا ) قشمر ..
الشبح : ( ينادي من الخارج ) يعيش ..
غاسل الموتى ( يصرخ بهستريا ) قشمر ..
الشبح : ( ينادي من الخارج ) يعيش ..
غاسل الموتى ( يصرخ بهستريا ) قشمر .. قشمر .. قشمر.. ( يتحدث مع الزعيم ) سأدعكك … سأدعكك .. أضعاف دعكي لمن ماتوا بسببك .. لأنه لا يمكن أن تنظف بسهولة .. وهذه مؤخرتك .. وهذه اجهزتك التناسلية .. كم اغتصبت بها عذرية هذه السماوات والارض .. سأدعك اجهزتك التناسلية .. لأنها تركت عمدا نطفها المشوهة في باطن هذه الارض ، والتي ستبقى تلد الحزن والالم والمعاناة لعشرات السنين بعد رحيلك ..
( يقلب غاسل الموتى جثة الزعيم على جانبها الأيسر )
غاسل الموتى : كيف فررت سريعا من قصرك سيدي الزعيم .. ثم اختبأت في الحفر .. ؟! كيف انك لم تتعلم أن كل الحجر ، والشجر ، والطيور ، والسماء ، والهواء سيدلهم على مكانك ؟ لانهم جميعا كانوا يكرهون بقاءك .. سيدي الزعيم لم تحتمل أن ترى الثوار ، وقد دخلوا عليك فأصابتك سكتة قلبية .. فمتّ ميتة الجبناء من الخوف والفزع .. لم توسم نفسك برصاصة في صدرك .. أو في رأسك .. لم تقاتل ايها المدّعي .. لم تطلق رصاصة واحدة ..
( يدخل الشبح من بين الملابس المعلقة )
الشبح : ستكون منفعلا هذا المساء ..
غاسل الموتى : شبح آخر ..
الشبح : شبح .. ولكن ..
غاسل الموتى : ماذا هناك .. تكلم .. ماذا حدث ؟
الشبح : أشباح أخرى .. ( يبحث بين الملابس ) أشباح اخرى .. ( يرتدي ملابس عسكر ) اشباح .. واشباح .. ( يرتدي خوذة عسكرية ثم يخرج وهو يصرخ ) أشباح .
( غاسل الموتى يقلب جثة الزعيم على ظهرها .. ثم يسكب الماء عليها )
غاسل الموتى : ماء السدر بارد كالثلج .. في هذه الليلة الباردة .. تحمل ذلك يا سيدي ..
( يسكب ماء السدر كثيرا على كل جسده .. ثم يسكب على رأسه .. عند ذاك يعطس الزعيم .. ثم يعطس مرة ثانية .. يلقي غاسل الموتى الاناء الذي في يده .. يتراجع فزعا الى الخلف .. فيفتح الزعيم عينيه .. ثم يعتدل جالسا على الدكة )
غاسل الموتى : ( وهو يتراجع الى الخلف ) يا الهي ما لذي يحدث !
الزعيم : منحة أخرى لهذه الارض ..
غاسل الموتى : من منحها ؟
الزعيم : السماء ..
غاسل الموتى : منحتك لنا مرة أخرى !
الزعيم : منحتني لكم ..
غاسل الموتى : كيف ؟
الزعيم : البستني ثوبا جديدا ..
غاسل الموتى : أي لون من الاثواب تعني ؟
الزعيم : سأبدل وجهي .. بوجه آخر جديد .. وجه بلحى وشوارب .. وخشوع ..
غاسل الموتى : وهيئتك ؟
الزعيم : سأبدل زي العسكر ببدلة لها شكل آخر .. تزينها ربطة عنق حمراء اللون .
غاسل الموتى : وكلامك ..
الزعيم : سأخطب فيكم كل يوم جمعة ظهرا .. واقبل شبابيك الاضرحة ..
غاسل الموتى : وطريقتك ..
الزعيم : سأبني دور العبادة .. واسمعكم في الاذاعات الحانا سماوية بدل الاناشيد الوطنية .. وأغير الاغاني بنكبات تطرب ارواحكم وتنعشها ..
وطريقتك : ونحن ماذا ستفعل بنا ؟
الزعيم : ستصومون سنينا اخرى .. ولكن من أجل الرب .. وتقاتلون معارك اخرى .. ولكن من أجل الرب .. وستبكون عصورا اخرى .. ولكن من أجل الرب .. وستسكتون وتعاقبون وتقطعون وتسحقون وتقيدون .. ولكن هذه المرة باسم الرب ..
( يقوم الزعيم اثناء هذا الكلام ليبحث بين الملابس المعلقة .. فيرتدي ملابسا مختلفة .. وغطاء رأس .. ونظارة شمسية .. ويأخذ محفظة نقود واوراق رسمية لاحد الموتى ويضعها في جيبه .. ثم يتحرك حتى يقف قبالة غاسل الموتى المندهش بكل ما رأى وسمع )
الزعيم : ( يمد يده لغاسل الموتى ) أعطني مسدسي الذهبي .. وخذ انت كل النياشين والاوسمة وغطاء الرأس العسكري ..
غاسل الموتى : المسدس الذهبي .. ؟!
الزعيم : لم أعد بحاجة الى الاوسمة والنياشين والقيافة العسكرية .. لم أعد بحاجة لها بعد اليوم .. تبدل دوري في هذه الارض .. اعطني المسدس الذهبي ..
غاسل الموتى : ( مفزوعا ) نعم .. نعم سيدي .. أنا تحت أمرك .. نعم سيدي .. أنا تحت أمرك .. تحت أمرك .. تحت أمرك .. نحن تحت أمرك .. نحن تحت أمرك ..
( يأخذ الزعيم المسدس .. يخبأه تحت ملابسه .. ويخرج .. يجلس غاسل الموتى على دكة غسل الموتى .. ثم يبدأ بالاستلقاء على الدكة بشكل بطيء جدا .. معها تبدأ الاضاءة بالخفوت بشكل تدريجي .. ويرتفع اثناء ذلك صوت موسيقى ممتزج بآهات بشرية متألمة ) ..
الشبح : ( يصرخ وسط الظلام ) قشمر .. قشمر .. خائن .. خائن ..
ستار
الناصرية
11 / 11 / 2011 مرأ
التعليقات (0)