مواضيع اليوم

مستقبل مصر كما أحلم به!

Oslo 21.09.2006

لماذا لا تقدم لنا حلولا لقضايانا من واقع تجربتك في النرويج؟
لماذا تنتقد زعيم الدولة، وتسهب في كشف سوءاته وفضح جرائمه، ولا تقدم لنا بديلا عنه أو تظهر حسن نواياك برسم خطوط عريضة للخروج من عنق الزجاجة؟
لقد سئمنا الكتابات المُرّة، وضقنا ذرعا بالنقد والتجريح وكشف الجرائم والكتابة عن السلبيات، فلماذا لا تكتب عن الجانب المليء من الكوب؟
تلك خلاصة رسائل كثيرة تصلني، خاصة لدى الحديث عن الوضع الداخلي في مصر، وعلى الرغم من النية الطيبة، وأحيانا الساذجة، في طرح تلك التساؤلات، فإنها تشبه عمل لجنة لكشف جريمة تنتهي بوضع الملف في درج أحد مكاتب الكبار، أو في أرشيف لا يعرف مكانه إلا واضعه وزوجته!
إنه الفخ غير المقصود،والهروب غير المتعمد من مواجهة مجرمين إلى البحث عن شرفاء ليحلوا محلهم!
ليس المطلوب من الكاتب أن يكون مصلحا، وقد تنقطع حبال صوته وهو يصرخ طالبا الافراج عن المعتقلين ، لكنه لا يعرف كيفية سير قوانين الاعتقال والمحاكمة وشروط زيارة السجين ودور النائب العام والقاضي والمحقق والسجان والادارة ووزير الداخلية ورئيس الدولة!
مهمة الكاتب المهموم بوطنه وقضايا حقوق الانسان والكرامة والعلاقة بين الطاغية وشعبه والدور الوطني والاصلاحات وغيرها هي التحريض ضد الظلم والفساد في كل الصور، فإذا كانت له رؤية خاصة في رسم سياسة بديلة ويريد أن يقدمها في ثنايا نقده فهذا لا يقلل من شأن انتقاداته لو اكتفى بها.
ما اسهل تقديم مشروع أو برنامج اصلاحي لتحقيق حلم المدينة الفاضلة، وكل البرامج والاطروحات والمداخلات التي تقدمها الأحزاب الوطنية والقومية والمعارضة واليمين واليسار والاسلامي والقبطي والمستقل والناصري والوفدي واللامنتمي يستطيع طارحوها الدفاع عنها، وتزيينها، وجعلها عنوانا صارخا وصريحا لحل كل المشاكل المعلقة.
المشروع النازي الذي تجمع حوله الألمان في الثلث الأول من ثلاثينيات القرن الماضي كان نابعا من مشاعر الاذلال التي عانى منها الشعب الألماني جراء هزيمته المنكرة في الحرب العالمية الأولى.
وجاء أدولف هتلر من شوارع النمسا وهو مبهور بالجنس النقي الآري فانفجرت طاقات كامنة في الشعب ليصبح الحلم هوسا، ومشاعر المهانة السابقة كراهية شديدة لكل ما هو غير ألماني.
تقديم برنامج اصلاحي يلتف حوله حزب أو مجموعة من الأفراد تكبر .. ثم تحشد حولها جماهير غفيرة مغيبة أو مؤمنة بهذا البرنامج أحيانا يختلط الايمان بالفكرة مع غياب الوعي ليس أمرا صعبا، وأي فكرة في العالم ولو كانت عبادة الشياطين ستجد لها مناصرين ومؤمنين بها، ثم يبدأ عمل الايديولوجية التبريرية لاعادة تقديمها على طبق جديد، وبصورة شهية، ولأناس جائعين فيظنون أنها ألذ ما مرّ على ألسنتهم من طعام.
تحدث مع بهائي أو بابي أو قادياني أو مورموري أو يميني متطرف أو اسلامي أو كاثوليكي أو أرثوذوكسي أو قبطي أو نوبي أو بربري أو طوارقي أو كردي أو تركماني أو أرمني أو عضو ناشط في أي حزب في العالم وستجد لديه برنامجا دفاعيا محصنا ضد هجمات الآخرين، بل إن المؤمنين ببرنامج جان ماري لوبان الفرنسي المتطرف ، والمناصرين لكارل إي هاجن النرويجي الأكثر تطرفا، يستطيعون تقديم برامج إصلاحية لا تخاطب كل العقول، لكنها ستعثر حتما على مؤمنين بها، ومنظرين لايديولوجيتها.
بعد دقائق قليلة سيخرج عشرات الآلاف من المهووسين ببرنامج اصلاحي قدمه العقيد معمر القذافي، يبدو ظاهريا أنه وحي على رسول الصحراء يبشر الشعب والسلطة بيده والثروة بين أفراده ومساواة الجميع ، لكن الحقيقة أن العقيد قدم لشعبه كارثة استمرت منذ عام 1969، ولا يزال البرنامج النظري يستحث الجماهير المغيبة على الدفاع عنه بالروح والدم حتى لو سففهم القائد تراب ليبيا كله من غدامس إلى طبرق.
أعود إلى من يسألونني عن الحل في مصر رغم أن الحزب الوطني الحاكم الذي دمر الوطن، وأعاد مصر إلى نقطة الصفر في معظم مجالات الحياة يستطيع أن يقدم عشرات الآلاف من المنظرين المدافعين عن برنامجه في مواجهة برنامج قدمه التجمع الوطني الوحدوي، وآخر جذب أكثر من مليوني مصر وقدمه الدكتور أيمن نور منافس الرئيس في الانتخابات والذي يدفع الآن ثمن تحديه الطاغية خلف القضبان.
والاخوان المسلمون والوفديون والناصريون والأقباط لديهم أيضا رؤى وطنية ودينية وقومية ويغوصون في الأحلام، ويقدمون بدائل للأزمات، وكل طائفة أو حزب أو تجمع في أي مكان وتحت أي شعار يستطيع تأمين مناصرين له قادرين على سد الثغرات في أي برنامج اصلاحي يتم تقديمه.

إذن ما هو الحل الذي أراه مَخْرَجا آمنا لبلدي ولشعبنا بعد القضاء بإذن الله على أسرة مبارك وهي المسبب الأول لكل الخراب الذي لحق بمصرنا؟
في الواقع أنا لم أنتم طوال عمري لأي حزب أو تجمع ديني أو سياسي أو عقائدي أو يميني أو يساري أو مستقل أو ناصري أو اسلامي أو ...
إنني ضد كل هؤلاء ومع كل هؤلاء!
أبحث عن مخرج لا يحمل اسما غير الحرية والاصلاح والادارة السليمة والمواطنة الكاملة وحق كل مصري في المشاركة.
ابحث عن العدالة في الشرق والغرب، وعن قانون مرور من سنغافورة، وانتخابات البرلمان على الطريقة النرويجية، وطرق التدريس في الجامعة كما في بريطانيا، وفتح مدارس لتعليم الخط كما في تركيا، وتدريس التسامح كالماليزيين، ومناقصات الهاتف مثلما يفعل السويديون، واهتمام الحاكم بالمحليات قبل الاستقبالات الرسمية والصورة الخارجية كما تفعل سلطنة عمان، والاهتمام بالمكتبات المدرسية على الطريقة الهولندية، وبناء جيش قوي ما بين نظامي وتجنيد سنوي كما يفعل السويسريون، والتمسك بفضائل الدين، والمساواة بين كل المواطنين، وآلاف .. آلاف أخرى من الابداعات التي صنعها الانسان وهي ملك له أينما كان ولا يستطيع أحد أن يدعي نقاء حزبه وبرنامجه وطائفته وأيديولوجيته.
سيقول قائل بأنه نظام سمك لبن تمر هندي، ويخلط البهارات الهندية مع الفول المصري واللحم الاسترالي والشاورما اللبنانية والزيت اليوناني والزيتون التونسي والتمر الجزائري والكسكس المغربي!
في عالم الاصلاحات ليست هناك ملكية خاصة، وقد يبدع بلد في نظام البريد الآلي، وتوزيعه مرتين في اليوم بطريقة سهلة وسريعة فيصبح من حقك كاصلاحي أن تسرق الفكرة إن سمحت لك امكانيات بلدك بنسخها. وقد تجد بلدا آخر وقع على حل عبقري للانتهاء في أقصى درجات العدالة من مئات الآلاف من القضايا المؤجلة في المحاكم، فلا تتردد في امتلاك الفكرة لأنك اصلاحي فهي تصبح بالتالي ملكا خالصا لك ولشعبك.
لن تتأثر القومية والوطنية الخالصة سلبا بتلك الصورة الاصلاحية، بل ستزيدها اشراقا ونجاحا واستقامة إن اعوج بها بعض المتطرفين.
الفكرة الاصلاحية التي أعتنقها أنا ولعلي أصرح بها لأول مرة منذ بدأت الكتابة المنتظمة لثلاثين عاما خلت هي أن الكون ملكي، وأن الابداع من حق شعبي في كل المجالات ولو خرجت للنور تطبيقات رائعة لنظام الضرائب في بلد ما، فإنه يصبح بالتالي جزءا من البرنامج الاصلاحي غير المكتوب الذي أراه حقا خالصا لأبناء بلدي.
كل شيء وأي شيء، في التعليم والطب والسينما ومعرض الكتاب والمطابع ودور الحضانة ومخصصات البحث العلمي من ميزانية الدولة وحرية السفر والعودة وحقوق المغترب ومفهوم الاهانة في قسم الشرطة وتعويضات المعتقلين والحد الأقصى لتأجيل قضية في المحاكم ومكاتب المحاماة المجانية لذوي الدخل البسيط والجنسية المصرية وحقوق المستهلك والانتخابات وتحريم الأمية، بل واعتبارها جنحة في خلال أربع سنوات من تطبيق نظام صارم، واقتطاع ربع دخل قناة السويس كميزانية خالصة وخاصة للعلاج المجاني للمواطنين غير القادرين على تحمل النفقات.
كل شيء وأي شيء، في المقابر والدفن وتأسيس المنازل وشرطة الآداب والمخدرات وصناعة الدواء ودور رجل الدين الاسلامي والمسيحي ومصانع الأسلحة ووضع الحد الأقصى لسعر أي سلعة والبطالة المقنعة والدروس الخصوصية وسلطة رجل الدين ورقابة الأزهر الشريف والمساواة الكاملة تماما بين المسلمين وشركاء الوطن أقباط مصر، والعقد الاجتماعي المكتوب بين كل أصحاب مهنة و بين أفراد الشعب.
كل صغيرة وكبيرة في البرنامج الاصلاحي لا تخضع مسبقا لفكر حزب أو طائفة أو أيديولوجية أو استعلاء فردي أو سلطة كهنوتية أو رقيب يمسك سيفا مسلطا على الرقاب.
كل ابداعات الدنيا ينبغي أن تصب في مصر، حتى الأفلام السينمائية التي يتم استيرادها لدور العرض تخضع لهذا المنطق، أي شراء الأفلام العالمية الجيدة والحاصلة على جوائز تقديرية في مهرجانات دولية مادامت غير مصطدمة مع الجانب الأخلاقي المتعارف عليه في الدولة.
قل لي أين تنفق ميزانية الدولة لأعرف إن كنتَ صالحا لحُكم مصر أم تفتح لها باب الجحيم!
قل لي كيف تزيد احتياطي الدخل العام من العملة الصعبة لأعرف من أنت!
الدستور يتغير ليواكب العصر والتطور والعدالة. كل القوانين المتخلفة والحمقاء والمقيدة للحريات يتم استبدالها. الغاء دوائر الانتخابات لمجلس الشعب وتصبح مصر كلها دائرة واحدة، ويقدم المرشح برنامجه تلفزيونيا والكترونيا ولا يمثل دائرة ، ولكن المواطنة المصرية والكفاءة مع شهادات حسن سير وسلوك، واقرارات من البنوك. لا أستطيع في هذه العجالة الطويلة أن أمر على عشرات الآلاف من الأشياء التي انهكت ذهني لثلاثة عقود، وجعلتني أحلم لبلدي بمستقبل لا ينافسها فيه أحد في المنطقة كلها.سيُغضب حديثي كل الذين يعتنقون مباديء حزبية وطائفية وتجمعات ولديهم برامج ويميلون يسارا أو يمينا أو دينيا ، ويتناحرون من أجل فكر رجل أو زعيم أو قائد أو مؤسس للحزب الذي ينتمون إليه.
مشاعر الاستعلاء والفوقية والنقاء التي يقدمها الفرقاء والحزبيون بحجة قدرتهم بمفردهم على طرح رؤية مستقبلية في برنامج خالص للحزب أو التجمع أو الفرقة أو الفئة ستجعل مصر تسير كالسلحفاة في طريق الاصلاح، ويتربص المناهضون بالتجربة، وتتم صناعة المستبد الذي يكبر فيصبح طاغية.
أكرر بأنني ضد كل هؤلاء، ومع كل هؤلاء. وأحلامي في برنامج اصلاحي لا تنتقص من قدر الدين والوطنية والاستقلالية والقومية.
وحلمي المستمر منذ ثلاثة عقود لا يتوقف عند خطوط حمراء، فهو يهتف للفكرة الناجحة، ويصفق للتجربة التي حققت نتائج ملموسة، ويحلق فوق كل مكان في العالم بنفس القدر، ويأخذ في الاعتبار الخصوصية المصرية بكل ما فيها من عروبة واسلام وأقباط وعبقرية المكان والزمان.
أعود للسؤال الذي تم توجيهه إلى صاحب هذه السطور مرات لا حصر لها: أين أنت من كل القوى الدينية والوطنية والقومية؟
إنني هنا أخاف من كل حزب بمفرده، وأخشى على مصر من كل طائفة تظن أنها الأفضل، ولا أثق في أي برنامج يزيح الآخرين بعيدا عن هموم الوطن، وأنا عضو في الناصري واليساري والشيوعي والاخواني والقبطي والوفدي والمستقل والاسلامي والعلماني والحكومي والمعارض عندما يكونون تحت سقف واحد، حتى لو احتفظ كل فريق بخصوصيته، إنني أختلف مع أي حزب بمفرده، وقد أتعاطف مع كثير من طروحاته، لكنني لازلت مؤمنا ايمانا يقينيا خالصا برؤيتي الاصلاحية التي تختصر طريقا طويلا أمام مصر، وينصهر المصريون كلهم في وطن واحد يلحق بركب الحضارة والتقدم والقوة والرفاهية، ويضمن الأمن والسلام والتسامح والتعايش والكرامة والاستقرار والاستقلال.
من يطبق هذه الرؤية؟
إنها تحتاج لزعامة وإيمان بها وحياد السلطة واعتبار كل مواطن كتلة متحركة من الكرامة والعزة والحرية والمواطنة الكاملة لا تَُفرّقه عن آخر سمة أو خانة الدين في الهوية الشخصية أو الادعاء بأن الله تعالى منحاز إليه فقط في معركة التطور.
زعامة تلهب ديناميكية العمل لدى المصري، وتدفع كل مواطن للاحساس بأنها أخيرا بلده وهو مسؤول عنها مسؤولية تامة.
زعيم فوق برامج الأحزاب لكنه يأخذ من كل فرقة أو حزب أو جماعة أفضل ما لديها وأكثرها تناغما مع تلك الثورة الجديدة للحاق بركب الحضارة، وصناعة السلام والأمن والرفاهية.
ليس هناك متسع من الوقت، فإما أن ننقذ مصر من الموت المحقق، والتراجع إلى ذيل ركب الأمم، أو أن نتصارع على الكعكة، ونتقاسم وراثة مريض يحتضر، وتظن كل واحدة من القوى الوطنية والدينية والقومية والمستقلة أنها تملك مصباح علاء الدين فتفركه بمفردها، لكن المارد يقتلها ويقتلنا.
يجب أن نبدأ من القبض على القاتل، ومحاكمته علنا على جرائم ربع قرن، وانهاء أي سلطة لأسرة مبارك، ومصادرة أموال الشعب التي هي في حوزة لصوص عهدهم الأسود.
الخطوة الأولى أن يجلس مبارك وابناه وزوجته خلف قفص الاتهام في محكمة شعبية عادلة وعلنية ليسمع العالم كله تفاصيل جرائم تقشعر منها الأبدان.
الخطوة الثانية أن يعترف كل حزب وجماعة وفرقة وطائفة وتجمع أن لدى الآخرين أيضا مهما كانت توجهاتهم أفكارا في الاصلاح تصب في صالح الوطن.
الخطوة الثالثة: أن يظهر الزعيم القادر على تحويل الكابوس إلى حلم وردي، والتطرف إلى تسامح، والمهانة إلى كرامة محفوظة، والفوضى إلى إدارة ذكية ومبدعة وحديثة تتفرع منها إدارات في كل مناحي الحياة، ولا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا احتوتها.
إنه المشهد المصري كما أحلم به وأتمناه ويترسب إيمانا في أعماق يقيني.
حلم ظل معي طوال نصف عمري.
حلم طال كثيرا، فهل يتحقق؟




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات