عَلِقَتْ بذاكرتي مسابحُ قديمة كانتْ جدّتي رحمة الله عليها تحْرِصُ على أن تُعطيها حَقَّها من الذّكر والتهليل والتكبير والصلاة على النبي الكريم عليه أفضل صلواتِ الله وسلامُه،وكنتُ حينِها إبّانَ تعرِّضٍ لقَصْفٍ شديد جوّاً وبحراً وبرّاً فكراً وتربيةً وسلوكاً جرّاءَ معهدٍ أصوليّ عالٍ في همّته وقويٍّ في منهجِه الذي يطرَحهُ مجالاً لدراسةٍ نظامية لأطفالٍ لم يبلغوا الحلُمَ بعْد ..
شعرْتُ بغيظٍ شديدٍ ووالدةُ أبي لا تنفكُّ مُمْسكةً بتلكمُ المِسبحَة بعدَ كلّ صلاة وآخرِ كلّ ليلٍ،ولم أعرِف الطريقة التي أنكر عليها هذا الفعلِ الذي تعلّمتُ في المرحلة المتوسطة بأنّه "بدعةٌ" وكلّ بدعةٍ ضلالة وكلّ ضلالةٍ في النّار،وقيلَ لي بأنّ إنكار المنكر واجبٌ بل فرضُ عين وأنّ أقلّ درجاته القلب الذي باتَ بالنّسبة لي قطعةً تتفطّرُ ألماً على جدّةٍ حبيبةٍ غارقةٍ في بدعةٍ ناريّة كما تصوَّرْت ..
لكنّ العاطفة الربّانيّة انتصرْت على هذا العراك الداخلي في نفسي ولم أتجرّأ على مفاتحةِ جدّتي في موضوعٍ أرّقني كثيراً حتى انتقلت إلى رحمة ربّها وأنا مازلتُ في مرمى أهداف المرحلة الثانويّة من ذلك المعهد الجليل،واستغفرتُ لها كثيراً والتمسْتُ لاستغفاري كثيراً من الأعذار الأصوليّة الفقهيّة العقديّة بأنّها ـ على الأقل ـ لم تتلقّ تعليماً أكاديميّاً دينياً وحسبُها أنّها ماتتْ وهي تلهجُ بـ/ لا إله إلا الله ..
انتّهَت الدراسةُ التأصيليّة للبنية التحتيّة الأساسيّة لأكونَ من حملةِ العلم الشّرعي الذين ينظرونَ للكتاب والسنّة مصدرين مُتاحيْنِ لطالبٍ في الثامنة عشرة من عمره أن يستقي منهما فتوى وذكراً وإجاباتٍ شافيةٍ كافية على عَوِيصَات الأمور ومُشكلاتِ الأحداث،فلبسْتُ حينها عِمامةَ الإفتاءِ المنزلي وحمَلتُ وقتَها أبواقَ الشرح والتعليق على اجتهاداتِ أئمّة مثل "الشافعي،والأوزاعي،والجصّاص" وسوّلَتْ لي نفسي ارتجالَ قولٍ أتوب إلى الله من وقتٍ قلتُه فيه وهو "أنا رجلٌ وهُمْ رِجال" وبقيِتْ المِسْبَحَةُ في نظري "علامةً" فارقةً تدلّ على أن حاملها صاحبُ بدعة ..
اليوم وقد مضى على هذه الذكريات أكثرُ من ثلاثٍ وعشرين سنة أصبحتُ أنتقي من المسابحِ أقربَها إلى سلاسةِ التّسبيح وسُرعةِ الاستجابة وأختارُ من حبّاتِ السُّبحة ألينَها على الأصابع وأطراها على الحركة، بل وأُجرّبُ المِسبَحةَ قبلَ شرائها بعشرٍ أو عشرينَ من الصلاة على النبي الكريم،وربّما جمَعتُ أطرافها إلى رأسها في كفّي وقرّبْتُها من أنفي وأنا أبحثُ عن رائحةٍ للحُجرةِ النبويّة الشريفة أو الكعبة المشرّفة،وأحزَنُ على مسابحَ جرّبْتُها واشتريتُ غيرَها ..
إنّ الخُطورةَ في دربٍ مشيَتُه سنواتِ تعليمي العام قبلَ المرحلة الجامعيّة كانت في غايةِ الحساسيّة والتأثير لدرجةِ أنّها كانتْ تجعلُ منّي صيداً ثميناً لهمومٍ ثقيلة وأنا أرى كلّ بني جنسي وقرابتي يحملون من المَسابحِ ما يستعصي على الإنكار أو النّصح أو التوضيح،ولم أجدْ ملاذاً سوى قولِ أحد المعلّمين لي بأنّني في جهادٍ إن صبرْتُ وتماسكتُ وأنّني قابضٌ على جمرةٍ بقبضي على دينٍ يمنعُ من أن يكونَ للسُّبحةِ مكانٌ في يدِ طالبِ العلم الشّرعي ..
هذه الأمور الصّغيرة في حجمها هيَ التي يخرُجُ منها التلاميذُ قبلَ استواءِ عودهم ناقمينَ على مجتمعاتهم حاقدين على آبائهم وعائلاتهم متّهمين كلّ من يعرفونه وتربطهم به صلاتُ قرابة بأنّهم لا يعلمونَ ما يعرفونَ هم،ولو علموا لبكوا كثيراً وضحكوا نزْراً يسيراً،وهذه القوّة المتواصلة والكيل العظيم لعلومٍ فهمَ منها طلابُ المرحلة المتوسطة والثانويّة بدايةَ قواعدها أعقَبَ في قلوب جماعاتِ طلبة العلم الشرعي وآحادهم غطرسةَ الوصاية ومفسدةَ الكِبْر واستسهالِ القول بلا علم ..
لم يُخبرْنا مدّرسُ العقدية إلا بالحقّ الذي يعرفُه ولم يُفتينا معلّمُ الفقه إلا بالصّوابِ الذي سمعهُ من شيخه ولم يعطينا مدرّسُ الحديث إلا صحيحَ الأحاديث من البخاري ومسلم وما اتفقا عليه ولم يدعونا مُعلّمُ الفكر الإسلامي إلا إلى فضائل الأعمال حسبَ ما استلهمَه من توجّهاتِ كليّةٍ تخرّجَ منها ومراجع يعتقدُ بأنّها ليست بالهيّنة في هذا الخصوص،لكنّ مُعلّمَ الجُغرافيا قالَ لنا بأنّ أغلبَ من في الأرض من المسلمين ليسوا بالمسلمين وقرأ لنا آخر الآية قائلا "ويتَّبعْ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ نُوَلِّهِ ما توَلّى ونُصْلِهِ جَهنَّمَ وساءَتْ مصيراً" فخُفْنا واتّبعْنا سبيلَه ..
كيفَ تبدَّلَتْ الأمور وتغيّرَتْ الرؤى واستفاقَ النائمون وصرَخَ الأخرسُ؟ لا أدري ولا أعلم،ولكنّي أجزُمُ بأنّ الحكمةَ التي أُوتيتْ لذاتِ القابضين على مسابحهم رغمَ أنّهم قيلَ لهم صغاراً بأنّها بدعة هي ذاتُ الحِكمةِ التي أُوتيَتْ لجدّتي رحمةُ الله عليها رغمَ قلّةِ معلوماتها وجعلَتْها لا تستغني عن مسبحةٍ تجعلها بإذن الله من الذاكرينَ الله كثيراً والذَّاكرات،وإلا فالأصول لا تتغيّر والثوابتُ لا تتبدّل،إنما الذي يتغيّرُ ويتحوّل هوَ نظرةُ الفاحصِ لما يفحصُه وزاويةُ الرؤية لمن يرى بعيْنٍ الباحث عن الحقّ ..
وإنْ لم تكُنِ المِسبَحةُ على عهدِ المصطفى صلى الله عليه وسلّم أو كانتْ ولكن بشكلٍ آخر أو أنّها استحداثٌ جديد أو استعارةٌ من قومٍ آخرين أو أنّها تجديدٌ أو أنّها صدفةُ مبتكرٍ أو تسويقُ تجارةٍ أو علامةُ عابدٍ أو محاولةُ جاهلٍ فالقضيّةُ أيسرُ من أن نقطعَ خيطَها وننثرَ حبّاتِها ونهزِمَ اصطفافها بجانبِ بعضها ونهمِها لأيدي حاملها،والقضيّة أبسطُ من أن نعتدي على جلالٍ منحَهُ لها من خلَقَها وهدى الإنسانَ لكي يجعلها طريقةً يُحصي فيها ذكرَ من يعلمُ خائنَةَ الأعينِ وما تُخفي الصُّدور ..
في كلّ الأمور يستعينُ الإنسانُ ملتزماً كانَ أو مُفرّطاً أو مُقصّراً بوسائل تُعينه على أداءِ ما يصبو إليه،وفي كلّ قنواتِ التعليم ومناهج التدريس يحثُّ أهل الفنّ الأجيالَ على الاستفادةِ من صناعةِ الغير لتوحيدِ الخالق والأخذِ بتجاربِ الإنسانيّة أيّاً كانت بُغيةَ الوصولِ لرضا الله تعالى،وفي كلّ الميادينِ احترامٌ لعقلٍ ابتَكرَ جهازاً يعينُ المتديّنين على أداءِ شعائرِ دينهم ولو خالفَهم الصّانع في الاعتقاد،فهلِ المِسبَحةُ إلا خرزاتٌ جُمَعَتْ ليُكثَرَ حاملُها من ذكرِ ربّه؟
إنّ الحبَّةَ التي استَجابَتْ للخَرْقِ وفتَحَتْ أحشائها ليَدخلَ في طرفها خيطٌ يخرُجُ من جهتها الأخرى ويربِطُها بأُختٍ لها عمَلَتْ مثلَ عملِها منتظرةً ثالثةً تؤنسُ أُختَيها ورابعةً تشدُّ من أزرهم وستّاً وتسعينَ أُخرياتٍ يُكملونَ عقدَ المائة التي قالَ عنها النبي الكريمُ في أكثرِ من موضعٍ بأنّها جالبةٌ لرضا الرحمن مُثقلَةٌ كفّةَ الميزان خفيفةٌ على اللسان لا ريبَ أنّها وقدْ أصبَحتْ مِسبَحةً تستحقّ التّكريم ..
والله تعالى يقول "وإنْ مِنْ شيءٍ إلا يُسبّحُ بحمدِهِ ولكنْ لا تفقهونَ تسبيحَهم" ..
التعليقات (0)