مواضيع اليوم

مساواة على طائرة بوينغ

محمد الغامدي

2009-03-06 06:32:06

0

كان صديقي السوداني يحدثني أن في السودان هناك شخصية عاشت قبل مائتي سنة أو أكثر كانت تقول للناس: إنكم ستركبون البيوت لتسافروا عبرها، وتتحدثون بالخيوط إلى بعضكم البعض، ارتطمت في ذهني هذه العبارة وأنا على متن طائرة بوينغ 777 ، ووجدت أن مشكلة هذا البيت المتنقل بين الرياض وجدة أنه غير منظم فغرفتي في هذا البيت الطائر كان رقمها 42 A وإلى جوارها غرفتان B  و C  كان المكتوب على الورقة المربعة الصغيرة التي أحملها ذلك الرقم السابق ولكنني عندما وصلت إلى هذه الغرفة وجدت أن إحداهن كانت تجلس فيها؛ كانت سمينة تميل إلى لون رملي مشوبٍ بقليل من خل التفاح ـ الله.. أول تشبيه يكتب هكذا، اذكروا ذلك ـ ، تأملتها قليلاً ورمقتني من تحت نظارتها الوردية اللون، إطارها كان أسودا، وكانت نظرتها توحي بأنها ستفترسني لو تحدثت إليها، ومع نظرتها الموحية بقوة العين (حرامي وقوي عين)،  ركزت نظري أكثر وبدأت أعيد صياغة هذه النظرة بحيث أنها لو لكمتني فما هي الجهة التي لو وجهت إليها لكمة ستضعفها، ومع إطالة نظري رمقتني المضيفة وأنا على هذه الحالة فقالت، بعد أن شاهدت الغترة والعقال: فيه مسكله! كانت فلبينية. قلت: YES ، دائماً أضع نفسي في مواقف محرجة.. لماذا قلت ” يس “؟ لماذا لم أقل نعم. وبعدها انطلقت بالإنجليزية لتسألني عن المشكلة، استوعبت سؤالها  وفهمت ما قالت لكنني لا أستطيع الإجابة، وقطعاً تعون السبب وهو أن هناك حاجزاً نفسياً لم أكسره بعد بيني وبين هذه اللغة ( مثلي مثلكم أيها السعوديون)، والمفاجأة في هذا الموقف هي السيدة خل التفاح التي تفضلت وردت عليها، فوجهت نظري لخل التفاح وقلت: وضحي لها أنني لن أتنازل عن غرفتي.. فترجمت لها كلامي وهي تضحك، مما حدا بالمضيفة أن تضحك مثلها فضحكت معهن بخجل وعرق يتصبب من جبيني.. أين سعوديتي وشهامة العربان من هذا الموقف؟ وما موقفي من قبيلتي عندما يقولون لها إن فلان الفلاني لم يترك مكانه لعابرة سبيل؟ ولكني رميت بهذه الأسئلة عرض الحائط وصممت على موقفي.. وبعد مجموعة التداولات بين المضيفة وخل التفاح، قالت لي الأخيرة: ماني قايمة من مكاني، وما أبغى اجلس على الممر وأكون ممسحة للي رايح واللي جاي!! كانت لهجتها جداوية، فقلت، بصوت منخفض وفيه أدب: لماذا لم تقولي هذا لمن قص لك البوردينق ـ اعرف انطقها ولا أعرف اكتبها ـ كي يضعك إلى جوار النافذة؟

فقالت: أول مرة يمر علي هذا الموقف؟

 ـ كيف يعني؟

ـ يعني.. أول مرة واحد يقول لي هذا مكاني ولازم اجلس عليه!

ضحكت.. ثم قلت:

ـ اجلس عليه تجلسي عليه هذه مسألة محسومة!

كان الحديث يدور والمضيفة عينها كالبوصلة تتحرك باتجاهي وباتجاهها، إلى أن أصابها اليأس وذهبت لتعود وإلى جوارها مضيف من أولاد البلد.. فوجه كلامه لي وقال: اش المشكلة؟ لم أرد عليه وأعطيته الورقة المربعة الصغيرة التي فيها رقم المقعد.. وشاهدها.. ثم قال لخل التفاح: أعطيني البوردينق حقك. فناولته.. ثم توجه نحوي وقال: يا أخي اجلس هنا. قلت: آسف.. مقعدي لن أتنازل عنه. قال، بعد أن التفت إلى خل التفاح: ليه ما تجلسي هنا. قالت، بابتسامة: ما تشوف. ( انتم استوعبوا المعنى). وبعدها ردد المضيف كلمات لم استوعبها مع تقطيب في وجهه واضح.. فقلت له: أنا أحل لك المشكلة.. ارتاح من هذه الكلمة وانفرجت أساريره وذهب ذلك التقطيب في الوجه.. وواصلت حديثي: عليك أن تنزل من في الطائرة وتعيد إركابهم كل واحد حسب رقم مقعده! ابتسم بامتعاض، وقال: تنكّت! قلت: والله هذي مشكلتكم في الخطوط وعليكم حلها.

ليأتي بعد ذلك مضيفة ومضيف.. في الحقيقة أحسست، وأنا أشاهد وجوه من في الطائرة، أنهم يشاهدون مسرحية يريدون أن تستمر.. كي يستمتعوا قليلاً قبل الإقلاع.. المسرحية الآن تسير بشكل جيد ولكن بقي طرف ثالث لم يصل بعد، حيث أن الغرف ثلاث بجوار بعض وصاحب أو صاحبة الغرفة الثالثة لابد أن يدخل/ تدخل في المسرحية حسب المتفق عليه، أو حسب مزاجه هو، وفكرت أن هذه الغرفة ستكون لواحدة وبالتالي ستتعقد المشكلة لأن هذه الواحدة لا شك أنها تريد الجلوس إلى جوار النافذة، وبالتالي من سيفك هذه الإشكالية.. ومن سيعطيني حقي. وكما توقعت ظهرت إحداهن ( معصعصة )، أي نحيفة، تسحب حقيبة وراءها وكيساً في يدها، لتقف خلف التربيعة المضيافة.. فقالت: لو سمحتم فين اجلس. من نباهتي قلت: هناك. وأشرت إلى المقعد الذي تجلس عليه خل التفاح. لم تعرني اهتماماً.. بل أعطت مضيفاً ورقتها المربعة.. وقال لها: إن مقعدك هنا، وأشار على الأوسط. وناولته الحقيبة فرفعها ووضعها في الدرج.. وتحركت تريد الجلوس على مقعدها.. فقلت لها: ألا تريدين أن تجلسي في مقعدي، فنظرت إليّ بعين فيها شرر، لم أكن أرى سوى عيونها، وقالت: أنت قليل أدب! قلت: لا تفهميني خطأ.. ترى هذي الأخت تجلس على مقعدي ومن حقك أن تطالبي به أيضاً.. فأنت امرأة أيضاً ولابد أن أراعي مشاعرك.. قالت: طيب اجلس هنا.. ما فرقت.. يعني هي بتوصل قبلك لو جلست هنا! عجيبة، فين العين الحمراء التي رأيتها قبل قليل؟ قلت: عارف.. لكن.. لماذا تجلس هي على مقعدي.. هل لأنها وصلت قبلي؟ قالت ( لم أجد لها صفة بعد): طبعاً.. ما تعرف إن هذي الخطوط ” كل من إيده إيله”.. اجلس ووسع صدرك! كل هذا وخل التفاح ماليه مقعدي ولا هي ضاربة حساب. قالت المضيفة الثانية ( لبنانية): شو خيي اقعد ( ما عرفت اكتب اقعد حسب نطقها) هُون.

ولكن دماغي رفض كل اللهجات، وصمم على لهجة الورقة المربعة.. فقلت: لن أجلس إلا على المقعد المخصص لي.. وتصرفوا.

فتوجهوا أربعتهم بنظرهم إلى خل التفاح.. وقال المضيف ابن البلد: بنشوف لك مقعد ثاني.. قالت خل التفاح: ماني متحركة من هنا.

الشيء غير المتوقع في هذه المسرحية هي أن أحدهم وقف، كان ذا لحية كثيفة، وقال: قدّر الحرمة يا ابن الحلال؟

والتفت ناحيته وقلت: ليش هي ما تقدر الرجال يا ابن الحلال! فقال: والله ما فيك خير! قلت: والله إن هذا الخير الذي تتحدث عنه لم ولن يأتي منك. ( قلتها بلغة عربية فصحى)

التفت ناحية المضيف وقلت له: حل هذه المشكلة لأنني لن أتنازل عن مقعدي حتى لو اضطررت إلى استدعاء المدير العام وليس كابتن الطائرة فقط.

وعادوا مرة أخرى إلى خل التفاح وقال لها واحد من المضيفين سنضعك في الدرجة الأولى إن كان هناك مقعد شاغر. ( ارتجل المسألة دون أن ينظر إلى النظام الذي يقف إلى جواري) قالت وهي تبتسم: روح شوف!

وراحت المضيفة اللبنانية وبعد دقيقة عادت وهي تهز رأسها بعلامة السلب.. فعاد ذلك المضيف ليقول لها مرة أخرى: سنبحث لك عن مقعد آخر غير هذا المقعد. فقالت: لن تجد أفضل من هذا. يعجبني هذا الإصرار من خل التفاح، طالما أنها تعي أنه لا نظام يقف أمام المرأة، وطالما أنها تعي أن مجتمعنا سهل، ودائماً يضع المرأة فوق رأسه، ويفسح لها الطريق أينما كانت.. فلماذا تتنازل وهي تعي أن للمرأة حق تجاوز النظام بحكم أنها خلقت ضعيفة، والرجال من حولها لابد أن يساندوها لتكون قوية.

وهنا جاء دور الكرم العربي ودور القبلية حين قالت جارتي على المقعد الأوسط: اجلس هنا عشان خاطري. فقلت لها: ما عندي مانع لو أنت تجلسي على هذا المقعد الجانبي وأنا اجلس في الوسط. قالت: موافقة. وهل أفضل من الجلوس بين خل تفاح وعيون بومة تتحرك في كل اتجاه ( وجدت للمعصعصة صفة أخيراً).

بعد ذلك بزمن وأنا على السرير تذكرت أن أفضل لكمة يمكن توجيهها لتضعف خل التفاح هي أسفل البطن!

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !