مسافر بلا تذكرة سفر
قصة قصيرة لسعيف علي الظريف
كان القطار يزيد سرعته شيئا فشيئا و هو يغادر المحطة الرئيسية للمدينة....ضل صوت صفارته يمتزج مع دخان محركه الكريه.... كان يزمجر مزهوا بقوته رغم أن تقادمه لا يمكن أن يخفى على احد .... فقد كان يعود تقريبا إلى الفترة الأولى للاستقلال .... كان على ما يبدو مصرا على الاستمرار في التشبث بالسكة المتقادمة.
لم تكن العربة مزدحمة كعادتها في هذا الوقت الباكر وكان هذا يجعلني أكثر راحة....كنت أحمل كل أمتعتي، وكل ما استطعت أن أنقذه من كتبي وأنا اشرح لبائع الكتب القديمة أهميتها، غير انه كان غير عابئ بتفسيري ولا بحسرتي ....وضع الدنانير القليلة في يدي وأخذها ظافرا بغنيمته.لم أكن قادرا على أن أضعها عند احد اعرفه بعد أن توليت عن الجميع وابتعدت عنهم بإرادتي . .
لم أكن احمل معي سوى بعض النقود المتبقية من هذه الصفقة الصغيرة الخاسرة ولم أكن مستعدا لتبديدها في اقتناء التذكرة، زيادة إلى أن ثمن المخالفة يقارب ثمن التذكرة . بحثت عن مراقب التذاكر قبل أن يضبطني بلا تذكرة .بادرته" أرجو تعذرني لكني لا احمل تذكرة .يبدو أني أضعتها .لم أتفقدها إلا بعد أن غادر القطار المحطة .إن شئت أن تحرر مخالفة فاني لن ألومك...هذا عملك... .هذه بطاقة هويتي .تفضل. ...
كان المراقب رجلا أربعينيا .جاف الملامح يبدو عليه الانضباط،رمقني من وراء نظارته....سحب مني البطاقة ،...تمعن فيها قليلا بوجه صامت ثم قال لي "ما هذا الصباح. سأضطر لتحرير مخالفة فالمسافة بعيدة... .سكت قليلا ثم أضاف "دع بطاقة التعريف عندي لن أحرر مخالفة لكنها ستبقى في الكنش حتى استطيع أن أبرر وجودك دون تذكرة، وحتى أتمكن من تبرير عدم اقتنائك التذكرة .إذا صعد احد أعرافي فسأكون مضطرا لتسليمه البطاقة ......ذكرني فقط قبل أن تنزل المحطة لتستردها.... أرجو لك حضا سعيدا "....تبسم متبرما ثم انصرف إلى العربة الأخرى.
عدت إلى مقعدي تصحبني ابتسامة المراقب وتبرمه، ويصحبني أسفي . ما الذي يدفعني لأن أكون بهذه الصفاقة وهذا الجبن و اللؤم .ما الذي يجعلني معطوبا ويجعلني اخرقا .أي مصيبة حلت بي، و أي طاعون ترصدني .كيف اضطر لفعل هذا و أين أضع ميزاني وتوازني . وماذا تبقى في هذه الكتلة من لحم نخره الجوع وأكله الأمل المتبدد .... كان الألم يعتصرني بحق وضل القطار طوال الرحلة يهرسني .
مازال القطار على سكته يتشبث بالحياة و يعاقرها و لا أزال أنا أتسكع في وهم السفه. كنت انظر إلى الأشجار و الدور المتناثرة و الأبقار و الأنعام.... و كل ما على البسيط من الأرض التي يشطرها القطار وأنا ألهوا برؤيتها عن الحرج الذي يمسكني كلما مر المراقب ببسمته الصفراء.
مسافر بلا تذكرة سفر ....رن المعنى في دماغي و اختلج فؤادي وأنا أحاول أن أجد مواربة و أجد توليفا لهذه الفكرة كانت تسعى في جسمي كالحية و كنت أراها تأكلني في مجاز .وكنت أرى نصا أمامي يتدحرج نحوي و يطلبني إلى ملكوته لكي اكتب عن مسافر بلا تذاكر سفر.
أخرجت كراستي، و بدأت اكتب .لم أكن ادري فعلا ما كنت أقذفه في الصفحات لكني كتبت حتى أنهى القطار الممسك بسكته الرحلة .و انتهت بسمة المراقب الصفراء.
كان السفر على الورق سفرا بلا تذكرة لذلك أمسكت عن المسير إلا علي الورق، ابتدع فيه القول وأسير بلا رقيب. لان الورق سفر بلا تذكرة. انتسمت مرة اخرى انتسامة ظفر. التفت إلى المراقب، و هو يعيد لي بطاقة الهوية.إبتسمت لكنه لم يفهم لماذا .ابتسم وهو يغادر مع القطار المحطة و غادرت أنا إلى الورق بلا تذكرة سفر....
.......
سعيف علي الظريف
كاتب من تونس
التعليقات (0)