مسار حزب "الميزان"
هل هي بداية أفول "الحزب – الدولة
الذي استحوذ على الركح السياسي بالمغرب؟
ورقة أنجزت قبل فوز حميد شباط
عندما أقدم المغرب على خطوة غير مسبوقة في الإصلاح الدستوري ، وأعلن عن الدخول في أجندة الإصلاحات السياسية، ابتداء بإقرار القوانين التنظيمية ذات الصلة، وانتهاء بتجديد هياكل كل المؤسسات المنتخبة، انكشف أمر وواقع حال الأحزاب السياسية المغربية، وضمنها حزب الاستقلال الذي ظل الحزب الأغلبي بالمغرب منذ الحصول على الاستقلال.
يعيش المغرب اليوم لحظة سياسية مفصلية، وضعته في سياق ابتكار طرق اجتياز هذه المرحلة الصعبة ، والأحزاب السياسية المغربية توجد في قلب هذه اللحظة، سيما من حيث استشراف الأفق المستقبلي والتهيؤ للمساهمة في صناعته. في واقع الأمر، إنها لحظة تسائل ومساءلة هذه الأحزاب بل محاكمتها.
لقد بدأ أمر حزب الاستقلال ينكشف منذ أن برز التساؤل القائل: هل ستكون الأحزاب في مستوى المنظور الإصلاحي لدستور 2011، سواء على مستوى التنظيم أو التأطير أو التمثيل، وتكون في مستوى ممارسة التنشئة السياسية، من حيث التصريف القيمي والتمكين من الفهم والتفاعل مع الوقائع السياسية بما يخدم مسار التطور المجتمعي؟ وفي هذا النطاق قال قائل هل سبق أن وضع حزب الاستقلال نفسه مرة على الميزان الذي اختاره رمزا؟
ويعيش الحزب هذه الأيام على إيقاع تحول تاريخي، بفعل نجاح المنهجية الديمقراطية في اختراق جدرانه الحديدية الصلبة، فهل هذا الاختراق من شأنه أن يقذف به إلى منحدر أفول نجمه؟
وهل ما يحصل داخله الآن هي بداية النهاية لكيان حزبي "عتيد" تنظّم وتهيكل ومارس كحزب – دولة؟
في التاريخ و التأسيس
يختزن مسار حزب الاستقلال سنوات طويلة من الممارسة السياسية – بما لها وما عليها – بدأت منذ انطلاقة الشرارة الأولى للكفاح من أجل الحرية والاستقلال. وسبر أغوار دروب هذا المسار الطويل يعود بنا إلى ثلاثينات القرن الماضي.
يعتبر حزب الاستقلال امتدادا لحركات التحرر الوطني التي عمت العالم العربي، خلال مرحلة مواجهة المد الاستعماري. فقد ارتبط تأسيسه، في البداية، بــ " كتلة العمل الوطني" التي انتخبت لجنتها علال الفاسي رئيسا لها سنة 1937. لكن التأسيس الفعلي للحزب تم بعد حل كتلة العمل الوطني من طرف السلطات الاستعمارية في شهر مارس من نفس سنة التأسيس، ليتأجل ظهور الحزب إلى 11 يناير من سنة 1944 ، تاريخ تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال .
ففي سنة 1934، بمبادرة من نخبة من الوطنيين تأسست كتلة العمل الوطني التي ستحمل اسم "الحزب الوطني" سنة 1937 والذي تعرض قادته للاعتقال ولكافة أنواع المضايقة والتنكيل من طرف سلطات الحماية. وتتوجّ صبر وتضحيات هذه الثلة من الوطنيين المخلصين بميلاد حزب الاستقلال سنة 1944، وذلك على يد أحمد بلفريج وجماعة من رفاقه بمعية أعضاء الحزب الوطني المنحل. وقد قامت ثلة من أعضائه بالتوقيع على وثيقة المطالبة بالاستقلال بالتنسيق مع الملك الراحل محمد الخامس.
وظل حزب الاستقلال يلعب دور المحرك للمقاومة الوطنية التي تُوّجت برجوع الملك الراحل محمد الخامس من منفاه والدخول في مفاوضات "إيكس ليبان" التي شارك فيها الحزب بست شخصيات بارزة.
لقد اقترن بروز حزب الميزان بالوعي الوطني، وكان ميلاده استجابة لحاجة ملحة شعر بها الشعب المغربي بقوّة وقتئذ، وهي ضرورة التحرر من الاستعمار وظلمه المستطير.
التصنيف المذهبي والأيديولوجي
ظل حزب الاستقلال، في نظر الكثير من المغاربة، حزبا يمينيا محافظا نخبويا، يمثل ويدافع على مصالح عائلات أرستقراطية، ويعتمد مرجعية دينية مستندة على منطلقات سلفية.
لقد تأسس حزب الاستقلال ضمن سياقين: السياق الأول تحرري، حيث ارتبط تأسيسه بتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، و منذ ذلك التاريخ سيخوض الحزب معارك ضارية ضد التواجد الاستعماري، تُوّجت بحصول المغرب على الاستقلال سنة 1956 . أما السياق الثاني فهو استقلالي سياسي ضمنه دشّن الحزب معاركه السياسية من أجل ترسيخ المنهجية الديمقراطية.
و قد تميز حزب الميزان عند تأسيسه بتداخل توجهين إيديولوجيين وحدتهما الفكرة الوطنية خلال السياق التحرري، لكن السياق السياسي سيفجر التناقضات الكامنة بخصوص تصور مغرب المستقبل. هكذا ارتبط التوجه الأول بالإيديولوجية الاشتراكية، التي قادها المهدي بنبركة وجسدها خير تجسيد . في حين ارتبط التوجه الثاني بالإيديولوجية السلفية المنفتحة، التي قادها وجسدها علال الفاسي فكريا و سياسيا . وسوف يؤدي انفجار التناقضات بين التوجهين إلى انشقاق الجناح اليساري عبر تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959، بينما استمر الجناح السلفي بزعامة علال الفاسي تحت مظلة حزب الاستقلال .
ارتبط حزب الاستقلال، منذ تأسيسه، بزعيمه التاريخي علال الفاسي، الذي تجاوز حضوره، صفة السياسي إلى صفة المفكر الحديث و العالم الأصولي. و بالنظر إلى قوة و كاريزما الزعيم المؤسس، فقد ظل الحزب، على طول مساره السياسي، ملتزما بالتراث الفكري و السياسي للزعيم . وقد تجلى هذا الحضور القوي، عند وفاة الزعيم علال الفاسي المفاجئ في بوخارست عاصمة رومانيا ، و هو في مهمة دبلوماسية، لحشد دعم الدول الاشتراكية للقضية الوطنية الأولى (الصحراء المغربية ) . فرغم الإعلان عن وفاة الزعيم المؤسس، فإن صفة رئيس الحزب لم تنتقل إلى خلفه، بل تم استحداث مؤسسة الأمانة العامة التي انتقلت رئاستها إلى امحمد بوستة.
يُعتبر حزب الميزان من الأحزاب القليلة التي حاولت، منذ البداية، أن تبلور تصورا خاصا بها. لقد تمكن حزب الاستقلال مبكرا من بلورة تصورا في التعاطي مع قضايا المجتمع المغربي، إنه تصور يغرف من معين الايديولوجية التعادلية، التي حاولت أن ترسم المداخل العامة لإيجاد حلول المشاكل التي تعاني منها المنظومة المجتمعية.
وإذا كان المتتبعون يُصنّفون حزب الاستقلال ضمن خانة الأحزاب المحافظة، فإن الاستقلاليين ظلوا يعتبرون حزبهم حزبا اشتراكيا إسلاميا ينتمي إلى وسط اليسار.
وفي هذا الصدد يقول عبد الله البقالي، القيادي بحزب الاستقلالي: " يقع حزبنا في موقع يمين اليسار وفي ذات الوقت في موقع يسار اليمين، أي في منطقة مشتركة بين التوجهين. إن حزب الاستقلال يتموقع في وسط هذه المنطقة المشتركة".
حزب الاستقلال، الحزب الدولة
لقد استطاع حزب الاستقلال الحفاظ على مركزه في الدولة إلى حد أن الكثيرين رأوا فيه أنه يشكل "حزب دولة"، أي دولة في قلب دولة.
ففي فجر الاستقلال برز حزب الميزان كقوّة سياسية، شارك في الحكومة الأولى بعشرة وزراء، واضطلع بثمان حقائب وزارية في الحكومة الثانية،واحتل موقع رئاستها. وجاءت الرابعة برئاسة الراحل عبد الله إبراهيم سنة 1960 وتحمّل حزب الاستقلال ضمنها مسؤولية ست وزارات هامة. وقبل هذا كان حزب الميزان قد تعرض لأول انشقاق سنة 1959، ليتم الإعلان عن ميلاد حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كما ظهرت أحزاب أخرى. آنذاك كان على حزب الاستقلال أن يبلور خطه الأيديولوجي، حيث أعلن زعيمه الراحل علال الفاسي في 11 يناير 1963 عن بيان التعادلية الذي يجسد مذهب حزب الميزان الاقتصادي والاجتماعي، محاولا استياق أهم ما تضمنته زمنئذ الاشتراكية والليبرالية لمفهوم الديمقراطية والعدل والاجتماعي.
بعد وفاة علال الفاسي في 14 مايو 1974، عقد حزب الاستقلال مؤتمره التاسع في غضون شهر شتنبر من نفس السنة تحت شعار:"تحرير التراب الوطني وتحقيق الديمقراطية والتعادلية"، وأسفرت أعماله عن انتخاب امحمد بوستة أمينا عاما.
وكانت مساهمة الحزب في الركح السياسي بعد سبعينات القرن الماضي مساهمة باوزة هي حجم الحزب الدولة. فقد استطاع في انتخابات 1977 التشريعية الحصول على 51 مقعدا بالبرلمان تمكّن بفضلها أن يدخل في تجربة حكومة ائتلافية، اضطلع فيها بمسؤولية بعض الحقائب الوزارية على رأسها وزارة الشؤون الخارجية قادها أمينه العام، امحمد بوستة.
وفي الفترة النيابية حصل حزب الميزان على 43 مقعدا بالبرلمان واختار أن يظل سنوات عديدة في المعارضة لاعتبارات سياسية، لكنه رفض التحالف مع أحزاب المعارضة الأخرى ضمن تكتل سياسي، إلا أنه سرعان ما سيتم التوصل إلى اتفاق بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي يرمي إلى الدخول في غمار الانتخابات التشريعية بقائمة ترشيحات موحدة. وقد ساهم حزب الميزان الكتلة الوطنية سنة 1972 وشارك في أحداث الكتلة الديمقراطية سنة 1992.
وفي 2007 قاد حزب الميزان حكومة ائتلافية مكوّنة من خمسة أحزاب، اثنين منها محسوبة على اليسار. وذلك بعد أن قرّر الملك محمد السادس ،في سابقة مهمة، تكريس المنهجية الديمقراطية واختيار الوزير الأول من القوى السياسية ومن الحزب الذي احتل المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية.
ويُعتبر حزب الاستقلال الحزب السياسي الأول بالمغرب الذي حظي برئاسة الحكومة عن طريق صناديق الاقتراع.
فخلال مرحلة مهمة من مساره الطويل، شكل حزب الاستقلال "حزب دولة"، وذلك بالنظر إلى كون أغلب الفاعلين السياسيين والموظفين السامين والمسؤولين الإداريين الكبار ورجال السلطة والفقهاء والعلماء والمثقفين خرجوا من أحضانه أو على صلة وثيقة به بشكل أو بآخر.
وعلى المستوى التنظيمي تمكّن حزب الميزان من هيكلة نفسه مبكرا هيكلة صلبة ومتينة حسّنها وطوّرها مع مرور الوقت. وتتوزع المسؤوليات بهذا الحزب بين الهيئات المركزية : المؤتمر العام الذي يمثل أعلى سلطة، واللجنة التنفيذية التي تقرّر السياسة العامة، ثم المجلس الوطني وهو منبثق من قواعد الحزب وينتخب أعضاء اللجنة التنفيذية واللجنة المركزية التي تُنتخب من المجلس الوطني. وللحزب هيئات ومنظمات، منها الشبيبة الاستقلالية ومنظمة المرأة الاستقلالية ةالاتحاد العام لطلبة المغرب والاتحاد العام للشغالين بالمغرب.
كما تأكد حزب الاستقلال كــ "حزب دولة" عبر دوره الرائد في المجال الصحفي. بالحديث عن مسار حزب الميزان لن يكتمل دون التطرق لمساهمته في الصحافة الوطنية، والذي كان من روادها عبر العديد من الصحف أدار شؤونها استقلاليون. وتظل دريدة "العلم" أسهرها، وهي التي تأسست في غضون سهر شتنبر 1946، ثم جريدة "الرأي" الناطقة بالفرنسية والتي عرفت النور في مارس 1965.
هيمنة آل الفاسي
بعد هذه المرحلة ظل منصب الأمين العام للحزب يتم باعتماد الإجماع دون الخضوع للمنهجية الديمقراطية التي أعلن الحزب اعتمادها عبر أدبياته، في الترشيح و الانتخاب، الأمر الذي ساهم في ترسيخ صورة سلبية عن الحزب، خصوصا بعد أن بدأ يتسلل النسب العائلي لقيادة الحزب باعتباره عرفا بدأ يرقى إلى مرتبة القانون . وإذا كان الأمر مقبولا؛ و لو على مضض من طرف أغلب المناضلين، في السابق بدعوى تجنب ضرب وحدة الحزب، فإن رياح الربيع العربي ، التي أسقطت أحزابا عتيدة كنتيجة لغياب المنهجية الديمقراطية، هذا الوضع الجديد هو الذي أصبح يهدد، ليس وحدة الحزب و حسب، و لكن أصبح يشكل تهديدا لوجوده. وفي هذا السياق اعتبرت الشبيبة الاستقلالية أن حزبهم لا يمكنه أن يمثل "مخزنا داخل المخزن"، علما أن المخزن نفسه، أصبح يعي القواعد الجديدة للعبة الديمقراطية المفروضة وسارع إلى تجديد آليات اشتغاله .
إن حزب الاستقلال؛ باعتباره امتدادا لحركة تحرر وطني ضد الاستعمار، و حزبا مناضلا من أجل ترسيخ المنهجية الديمقراطية في المغرب الحديث، لا يليق به أن يستمر حزبا عائليا يؤمن بالإجماع بدل المنهجية الديمقراطية. إنه حزب جميع القوى المؤمنة بروح الفكر الإصلاحي؛ الذي جسده الزعيم علال الفاسي، تفكيرا و ممارسة. هذا الزعيم الذي عبّر، منذ البدايات الأولى لتأسيس حزب الاستقلال، عن نزوعه الديمقراطي/الليبرالي، وفتح أبواب الحزب في وجه جميع فئات الشعب المؤمنة بالنضال من أجل الاستقلال أولا، و من أجل ترسيخ مبادئ الديمقراطية ثانيا . و لذلك، فإن حزب الاستقلال، من المفروض يمثل فئات عريضة و متنوعة من المجتمع المغربي، شملت أعضاء (الحزب الوطني) السابق و رؤساء و أعضاء المجالس الإدارية لجمعيات قدماء تلاميذ مدن الرباط و مكناس و فاس و سلا و مراكش و أزرو و وجدة و أسفي، كما انضمت إليه شخصيات بارزة من (الحركة القومية) بالإضافة إلى العديد من الشخصيات البارزة كالمفتين و القضاة الشرعيين و المدنيين و كبار الموظفين المخزنيين و أساتذة جامعة القرويين و المدارس الثانوية .
ويرى الكثيرون أن حزب الاستقلال، قد يكون قد ورث المغرب مع حلول الاستقلال وهيمن على مقدورات ومصير البلاد، لذا لن يروق آل الفاسي إلا الإرث والتوريث. فعديدون هم المغاربة الذين ظلوا يرون في حزب الاستقلال حزب آل الفاسي، الذين سبقوا إلى الانفراد بالسلطة والعلم والمناصب السامية. وفي جزء كبير من الذاكرة الجماعية المغربية، ظل مسار حزب الاستقلال موسوما بمقولة الزعيم الفاسي حين كان يقول في البادية "علموا لولادكم لفلاحة"، في حين يقول في فاس " قرّوا اولادكم".
وسبق أن كشفت حملة إعلامية وسياسية أن عائلة الفاسي الفهري أصبحت تهيمن على مناصب سياسية واقتصادية مهمة، منذ تولي عباس الفاسي رئاسة الوزراء عقب الانتخابات التشريعية التي جرت عام 2007، واحتل فيها حزب الاستقلال المرتبة الأولى.
وكانت حملة إعلامية وسياسية بدأت قبل أشهر في المغرب تشير إلى أن عائلة الفاسي الفهري أصبحت تهيمن على مناصب سياسية واقتصادية مهمة، منذ تولي عباس الفاسي رئاسة الوزراء عقب الانتخابات التشريعية التي جرت عام 2007، واحتل فيها حزب الاستقلال المرتبة الأولى. و قد دافعت الوزيرة السابقة بادو بشراسة عن المناصب التي شغلها أفراد عائلة الفاسي الفهري، وقالت إن منصب الوزير الأول الذي يشغله عباس الفاسي حصل عليه بمنهجية ديمقراطية وبفعل الأصوات التي حصل عليها حزب الاستقلال، أما منصب وزير الخارجية الذي شغله الطيب الفاسي الفهري ( شقيق زوجها)، فحصل عليه نتيجة الثقة التي حظي بها من طرف الملك محمد السادس. كما دافعت بادو عن زوجها علي الفاسي الفهري (رئيس مؤسسة الماء والكهرباء، ورئيس الجامعة الملكية لكرة القدم) وقالت إن زوجها حقق نتائج مهمة في القطاع الذي يشرف عليه، وإن لديه كفاءات عالية .
وقد تم إحداث على "فايسبوك " مجموعة " جميعا ضد استغلال النفوذ السياسي لعائلة آل الفاسي الفهري " تندد بتوسع نفوذ عائلة الفاسي الفهري في المغرب، لكن تمّ حدفه، وهي نفس المجموعة التي دعت سابقا تنظيم وقفة أمام البرلمان في غضون شهر فبراير الماضي.
وفي نفس السياق أكد حميد شباط أن عباس الفاسي اقترح صهره محمد الوفا في الوزارة وهو ما خلق مشكل داخل الحزب، كما أن قضية تدبير الاستوزار خلقت مشاكل داخل الحزب وخارجه لأنه وقعت أخطاء قاتلة في طريقة اختيار الوزراء، وتبعتها أخطاء أكثر منها خطورة في طريقة تعيين أعضاء الدواويين، إذ كل دوواين الوزراء التي يشرف عليها الحزب وظفت لصالح عائلة "آل الفاسي و 90 في المائة من هذه المناصب كانت لترضية العائلة، كما تم استغلال ذلك حتى داخل المؤتمر حيث تم توزيع وعود على عدد من المؤتمرين لتوظيفيهم في دواوين الوزراء والمناصب السامية. مضيفا أنه لو كان الاستقلاليون في المؤتمر السابق الذي أهدى للفاسي ولاية ثالثة قد ساروا في اتجاه انتخاب أمين عام جديد لكان من نفس العائلة "آل الفاسي".
في حزب الاستقلال هناك مسلك واحد، لا ثاني له لبلوغ المناصب وتسلقها والاضطلاع بالمسؤولية داخل الحزب وخارجه ،إنهمسلك الانتماء إلى لوبي "آل الفاسي" أو الولاء له. فالأكيد أن هيمنة آل الفاسي على الاضطلاع بالمسؤوليات داخل الحزب والحكومة اعتمدت بشكل كبير، سيما خلال السنوات الأخيرة، على معايير المصاهرة والقرب من اللوبي القوي، وهذا ما أساء إلى صورة حزب وطني كبير دبرت شؤونه منذ زمن رموز تاريخية من العيار الثقيل. وقد أكدت الكثير من الأصوات من عقر الحزب على أن هيمنة الدائرة الضيقة للعائلة على مركز القرار جعلته عرضة لجمود تنظيمي ورهينة بين آيادي لوبي المصالح المالية والسياسية، بعيدا عن حس الانتماء إلى قناعات الحزب ومبادئه.
وقد أقرّ الناشط الحقوقي الريفي، إلياس العماري (حزب البام) أن أخطر ما يواجهه المغرب، هو حزب العائلات. فحزب آل الفاسي استولوا على المغرب وثورة المغرب وثروة المغرب لعقود من الزمن من عهد إدريس الثاني إلى الآن. وقد استحال على المواطن المغربي التمييز بين الفاسي في الخارجية وابنه في التعاون والعلاقات الدولية وبين الفاسي في رئاسة الحكومة والأبناء والأحفاد والأصهار والإخوان والأخوات في كل مناحي الحياة.
خلاصة القول أن عباس الفاسي نجح في توريث حزب الميزان لأفراد عائلته. فقد تمكن عدد من أفراد عائلة عباس الفاسي من حجز مقاعد متقدمة في اللجنة المركزية بكل سهولة حيث صعود إليها أبنائه "فهر" وعبد المجيد وسميرة قريش زوجة هاني الفاسي - ابن عباس الفاسي- في وقت لم تقدم فيه راضية الفاسي ابنته الأخرى، التي هي في نفس الوقت زوجة نزار بركة وزير الشؤون الاقتصادية والعامة، ترشيحها. وقد استفاد أبناء زملاء عباس الفاسي في اللجنة التنفيذية من مكانة آبائهم لبلوغ اللجنة المركزية أيضا حيث تمكن كل من أسامة الأنصاري،ابن محمد الأنصاري وأخ هذا الأخير،من بلوغ اللجنة المركزية رفقة ياسر السوسي الموساوي ابن محمد السوسي الموساوي عضو اللجنة التنفيذية والمفتش العام في حزب الاستقلال. ورغم أن اللجنة المركزية لا تملك قيمة في حد ذاتها ذلك أنها ليست جهازا تقريريا،وإنما يحتدم الصراع حول عضويتها لكونها تضمن مقاعد داخل المؤتمر بشكل مباشر لأولئك الذين لا يستطيعون الصعود عبر الأجهزة الأخرى . هكذا يتضح زحف الأبناء والأحفاد على مقاليد الحزب بحكم منطق الوراثة الذي يعتبر قاعدة ساري به العمل في حزب الاستقلال منذ القدم وبشكل مستمر.
فشل ذريع في تدبير الشأن العام
غالبا ما ظل حزب "الميزان"، الحزب الدولة، معنيا بالمشاركة في تدبير السياسات العمومية في أغلب الحكومات التي عرفها المغرب، لذا صار معنيا بالفشل الذريع لهذه السياسة العمومية، سيما في ظل حكومة عباس الفاسي، التي وصفها الكثيرون بأضعف حكومة عرفتها بلادنا.
ففي نظر الكثير من المغاربة، يتحمل حزب الاستقلال قسطا وافرا من المسؤولية بخصوص المآسي التي يتكبدها الشعب المغربي وبخصوص مسؤوليته عن السياسات العمومية المجحفة لعقود طويلة ، علما أنه حزب ارتبط مساره بملاحم الشعب ومحطاته التاريخية النيّرة. وظل رصيد الحزب موسوما بالإخفاقات واستغلال النفوذ والاستفادة من كل أشكال وصيغ الريع الموجودة و الالتفاف على العديد من المناصب والمواقع الحساسة في أجهزة الدولة لفائدة العائلات الأرستقراطية التي ظل يرعاها الحزب. وقد أصاب "مارثن لوثر" حين قال: "إذا أردت أن تفضح شخصا ما فامنحه سلطة".
حسب الباحث منار السليمي إن حكومة عباس الفاسي أوصلت المغرب للوضع المتأزم اقتصاديا وماليا وإلى فشل كبير على المستوى التنموي. فعباس الفاسي قدم في برنامجه الحكومي إجراءات كبرى واعدة، أكد أنها ستخرج المغرب من حالة الاقتصاد الناشئ إلى الاقتصاد المنتج والمثمر للقيمة المضافة التنموية، وقدم في تصريحه الحكومي منظومة من المحاور التي ستكون ذات أولوية في عمل القطاعات الوزارية، وحاول وضع إجراءات تهم التنمية المندمجة والبنيات التحية والأوراش الكبرى، والإصلاح الضريبي وإنعاش الشغل وتوفير السكن والتنمية البشرية...لكن سرعان ما تبين الفرق الشاسع بين ما تضمنه البرنامج الحكومي من إجراءات تدبيرية واستراتيجية، وبين ما اشتغلت عليه الحكومة فعلا وما نفذته من سياسات عمومية على أرض الواقع.
فالمغرب خلال سنوات هذه الحكومة عرف تفشيا غير مسبوق للرشوة وللفساد المالي على مستوى القطاعات الحكومية الرئيسية (العدل والصحة والمالية والإدارة العمومية...). كما أن الإدارة في ظل هذه الحكومة بقيت تعاني من الاختلالات الكبرى التي تعمقت بشكل غير مسبوق، ولم تتم مراجعة الأنظمة الأساسية للوظيفة العمومية ولم يتم إصلاح منظومة الأجور كما وعدت الحكومة بذلك. ولمواجهة الخصاص في السكن واختناق المدن الكبرى، وعدت حكومة عباس الفاسي باعتماد مخطط وطني للمدن الجديدة، لكن لم ير هذا المخطط النور، والمدينة الجديدة الوحيدة التي أحدثت (تامسنا)، عرفت خروقات مالية وتدبيرية أدت إلى تجميدها وإقالة مدير العمران بسببها.
وأعادت هذه الحكومة إنتاج نفس كوارث التدبير المالي العمومي، وركزت على الدين الخارجي لتمويل عجز الميزانية وحاولت الاستنجاد بالخوصصة لمواجهة فشلها في ترشيد المال العام وفي اعتماد قاعدة الأهداف والنتائج الفعلية كأساس للنفقات العمومية. وفيما يخص الإصلاح الجبائي، قامت بتخفيض الضريبة على الدخل التي شملت 30 في المائة فقط من الموظفين العموميين وتم إقصاء ملايين العمال والأعوان والموظفين من هذا الإجراء، وحتى المعنيين من التخفيض الضريبي لم يستفيدوا إلا بمبالغ هزيلة تصل إلى أقل من 50 درها في الشهر. ولم تجرؤ الحكومة على إصلاح نظام الضريبة على القيمة المضافة رغم أنها أكدت على ذلك ووعدت بتخفيضها لسعر 18 في المائة عوض 20 في المائة ، لكن الحكومة لم تفي بوعدها الذي قطعته على نفسها ولم تقم بإصلاح هذه الضريبة التي ظلت تثقل كاهل المغاربة.
كما عجزت الحكومة عن إتمام الأوراش الكبرى التي كانت مبرمجة فعلا، فأحرى أن تقوم ببرمجة أوراش جديدة وتنفيذها ( منها على سبيل المثال إتمام المدار الطرقي طنجة السعيدية، ربط بني ملال شبكة الطرق السيارة ...). والتزمت الحكومة بإعطاء انطلاق أشغال القطار فائق السرعة TGV من طنجة إلى مراكش أوائل سنة 2009، وبغض النظر عن الجدل الدائر حول جدوى هذا المشروع، لم تقم الحكومة بوضع تصور دقيق للخط الذي سيقطعه عبر مختلف المدن. والتزمت أيضا ببناء عشرة سدود كبيرة وستين سدا متوسطا وصغيرا قبل 2012، ولم يحدث ذلك. كما أن البرنامج الوطني للبيئة و البرنامج المندمج للتطهير السائل ومحاربة التلوث وحماية الغابات والساحل ظلا مجرد أضغاث أحلام. أما بخصوص الإسكان والتعمير، فقد التزمت الحكومة بالرفع من وتيرة الولوج إلى السكن لبلوغ 150 ألف وحدة سكنية جديدة سنويا، وتطبيق برنامج متكامل لمعالجة السكن المهدد بالانهيار والتعاقد مع الجماعات لتنفيذ برنامج مدن بدون صفيح، لكن لا شيء من هذا أنجز. وقس على ذلك فشلات حكومة عباس الفاسي في مختلف القطاعات الاجتماعية الأخرى.
واعتبارا لفداحة هذا الفشل العام البيّن أصبحت السياسات العمومية تدبَّر خارج إطار حكومة عباس الفاسي ومن قبل وكالات ومؤسسات عمومية لا تخضع للحكومة ولا تنفذ السياسة والبرنامج الحكومي ولا تخضع لأية رقابة.
وقد طالبت جميع مسيرات 20 فبراير بإقالة حكومة عباس الفاسي، كما حكم عليها الشارع المغربي بكونها اضعف حكومة عرفها المغرب ، وأنها لم تستطع مسايرة السرعة الملكية ، بل إنها فشلت في تدبير العديد من الملفات الطارئة منها ملف نازلة مخيم "أكديم ازيك" بالعيون، وتبعاته الإعلامية ، حيث كان المراقبون لحظتئذ يتوقعون إقالتها.
كما حفل مشوار عباس الفاسي كأمين عام للحزب، بجملة من الأخطاء وسوء التدبير، وكان آخرها سوء تدبير المشاورات مع عبد الإله بنكيران، بعد تعيينه رئيسيا للحكومة من طرف الملك، بخصوص تشكيل الحكومة.
إن هذه الفشلات المدوية وغيرها ساهمت بشكل كبير في إزاحة الستار عن واقع الحزب- الدولة العتيد المتهاري.
امحمد الخليفة والحل الثالث
كسّر امحمد الخليفة صمته وقال : "(...) لستُ الحل الثالث أو الحل البديل أو الحل السحري أو الحل المعجزة لمعضلة حزبنا اليوم، لأن الأمر في جوهره وعمقه يتجاوز معضلة الأمانة العامة التي أشعلت حربا قذرة، بأساليب دنيئة ومدانة، في صفوف الحزب، إلى مصير الحزب نفسه بكل قيمه ومبادئه ومناضليه وتاريخه.
وبهذا الفعل، فالحزب مهدد إن لم نضع اليد في اليد بإخلاص، لنقف أجمعين سدا مرصوصا منيعا، لوقف التيارات الجارفة والضاغطة والمتربصة بحياة الحزب ومستقبله.
لتتظافر كل الإرادات الخيرة لأبناء حزبنا، لا من أجل تنصيب أمين عام جديد للحزب، وبأي ثمن، ولكن لإنقاذ مستقبل حزبنا، بسمو الفكر ويقظته، وبالأخلاق العالية والوطنية الصادقة للوصول إلى تحليل أمين صادق ينظر في الواقع المزري والتراكمات الخطيرة التي شابت مسيرة تنظيماتنا الحزبية في السنوات الأخيرة. وفي هذا الإصلاح الهادف الذي لا يتحقق إلا بفضيلة التواضع ونكران الذات، ووضع مصلحة الحزب فوق كل اعتبار. فخلود المبادئ لا يكون إلا بخلود القيم. ومن رفيع القيم تحمل المسؤوليات باقتدار وكفاءة وعدل.
إن الجرأة والشجاعة الأدبية على الاعتراف، باسم الوطنية الصادقة، بالمسؤولية الجماعية على كل الأخطاء التي ارتكبت في مسار الحزب إلى الآن، لهو بداية الطريق، ووضع قاطرة الحزب على السكة السليمة والقوية.
لنتغلب على أنانيتنا، ولننس كل مواقفنا، ونعلن جميعا بكل أخوة وطنية صادقة، أننا جميعا أخطأنا...
لنتحمل المسؤولية بصفة جماعية إنقاذا لحزب الاستقلال. فكلنا مسؤول سلبا وإيجابا، عن تغيير بنود قوانين الحزب وإخضاعها لمصالح فئوية أو شخصية أو أنانية، أدت في النهاية إلى ما وصلنا إليه من هلهلة في التنظيم، وتفسخ في صيانة التدرج في كل المسؤوليات داخل الحزب ترسيخا لقدسية قيم النضال وحرمته واحترامه.
وكلنا مسؤولون، عما وقع في المؤتمر الخامس عشر، من انتهاك القانون، بالسماح بولاية ثالثة للأمين العام للحزب، بدعوى كونه وزيرا أولا! وأغلقنا آنذاك أذاننا وأوقفنا تفكيرنا عن كل توجه آخر قد يكون هو مصلحة الحزب، وحتى لا يتعرض لأية رجات أو اهتزازات في مستقبله. ونسينا مكر التاريخ، وفاجأنا الربيع العربي، فلا الرئاسة دامت إلى نهاية الولاية التشريعية، ولا الحزب احترم قوانينه وحصن نفسه من المأساة التي تكاد تعصف بنا اليوم.
(...)وكلنا مسؤولون، عن قبولنا بأن يصبح الحزب حاضنة لأشخاص لا علاقة لهم بالحزب أبدا، من أجل الاستوزار فقط، في مشاهد مفضوحة يندى لها الجبين، نظير تهميش الكفاءات المناضلة الصادقة والمقتدرة من أبناء الحزب.
وكلنا مسؤولون، عن تقديس الشخص والولاء له، والتصويت عليه، لينفرد بالحوار والتفاوض منذ سنة 1998، وكل ما حل موسم الاستوزار، بعيدين عن معايير الرشد والترشيد ومعرفة أقدار الناس، والاحتكام إلى منظومة نضالية وفكرية وثقافية وأخلاقية. لقد أخرجتنا طموحاتنا الخرقاء، من الإيمان بالمبادئ والتشبث بالقيم، إلى عبادة الأشخاص - والعياذ بالله- وما الانفجار الذي عرفته قيادة الحزب أثناء وبعد تشكيل الحكومة الأخيرة، والذي يؤدي الحزب اليوم ثمنه المباشر غاليا، إلا الوجه البارز في عمق المأساة المؤلمة التي نتردى في حمأتها."
كما أعلن امحمد الخليفة موضحا :"إن نجح حميد شباط سيجرّ عبد الواحد الراضي العديد من المناضلين، أما إذا نجح هذا الأخير فإن شباط ومن يدور في فلكه سيفعلون بالحزب الغرائب والعجائب، ولن يتمكن عبد الواحد الراضي من الاضطلاع بمهامه كأمين عام".
وجاء رد عبد الواحد الفاسي باهتا جدا إذ اقتصر بقوله: " أعتقد أن نداء امحمد الخليفة جاء في وقت متأخر شيئا ما. كما أعتقد أنه لا داعي لمناقشة فحواه، ومن يرى في نفسه القدرة على تقديم شيء للحزب، فعليه أن يترشح وعلى المناضلين أن يختاروا من يشاؤون."
وقد رأى بعض المتتبعين المحسوبين على "أهل مكة أدرى بشعابها" أن امحمد الخليفة بعد أن تمّ استبعاده من الاستوزار أخذ يصب غضبه على قيادات الحزب، وبعد صمت وغياب عن جملة من المحطات التي عاشها الحزب سعى لـ "تفجير الرمانة" كما يُقال.
هل هي بداية أفول نجم الحزب- الدولة؟
إن التصدع الذي يعيشه حزب الاستقلال اليوم، يتعدى كل ما تعرض له من قبل على امتداد تاريخه الطويل، لأن أزمة اليوم، تنبعث من داخل صفوفه.
كانت البشائر الأولى مع حلول صباح 30 يونيو الماضي عندما غادر القيادي في حزب الاستقلال محمد الوافا أشغال المؤتمر السادس عشر معللا قراره بعدم التزام بعض الأطراف المتصارعة على الأمانة العامة من أجل تجنب حزب الاستقلال الكارثة حين تبيّن تشبّت حميد شباط رئيس نقابة حزب الاستقلال و القيادي عبد الواحد الفاسي نجل الزعيم التاريخي للحزب علال الفاسي بترشيحهما لقيادة سفينة الاستقلاليين، بعد أن غيّرت لجنة القوانين بند الترشح للأمين العام لتعود ولاية واحدة تكفي للترشح عكس ما كان في السابق (ولاتين) . وقد كان الملك الراحل الحسن الثاني يعين – من وراء الحجاب - كل قيادات حزب الميزان بعد وفاة علال الفاسي، وتمنى محمد الوافا تكرار نفس المشهد دون أن ينجح، لأن الشروط تغيرت.
فلأول مرة في تاريخ حزب الاستقلال، مند تأسيسه سنة 1944، انعقد مؤتمر دون التوافق على من يخلف عباس الفاسي ،الأمين العام منذ 1998. هذا في وقت ارتفعت أصوات كثيرة رافضة لاحتكار قلعة أل الفاسي بالأدوار القيادية منذ عرف الحزب النور، وهو واقع حال لم يعد يطيقه العديد من الاستقلاليين عبر مختلف مدن المملكة، وعلى رأسها مدينة فاس، وهذه مفارقة صعب على أل الفاسي هضمها. هذا ما فرض على النواة الصلبة داخل القيادة الحزبية التفكير في تفعيل استراتيجية غير معلنة واستكمالها باستراتيجية المساومات، إنها استراتيجية تضمن عدم خروج الرئاسة عن قلعة آلفاسي. وكل هذا تحت اليافطة المعلنة : "إن الاستقلاليين أكدوا دائما عبر تاريخ حزبهم العتيد على ضرورة التوافق في المواجهة بين المرشحين حول منصب القيادة "، وموازاة مع تفعيل هذه الاستراتيجية غير المعلنة يتم اللعب على وثر ضرورة صيانة الحزب بأي ثمن وحفظه من الانشقاق. علما أن أي انقسام مهما كانت طبيعته هو بمثابة صك نهاية سيطرة قلعة آل الفاسي حراس المعبد القديم.
إن مكمن الصدمة عند جملة من قياديي حزب الاستقلال يقع بالضبط في هذه الثقافة السياسية الجديدة التي بدأت تخترق قواعد الحزب وبعض هياكله و تهدم ما يسمى الثوابت داخله. فهل الاستناد إلى المرجعية الديمقراطية لحسم هذا الصراع من شأنها العصف بالحزب العتيق؟ خصوصا و أن مسار الحزب كله دفاع عن الثوابت الديمقراطية للدولة، و لأجل ذلك كان طرفا أساسيا و فاعلا في لم شمل الأحزاب الوطنية ضمن الكتلة الديمقراطية سنة 1992 ؟ وهل التخلي عن الارتهان إلى ثقافة الإجماع - التي تعتبر مصدر الداء السياسي – ستكون الضربة القاضية؟
ولعل هذه الثقافة هي الذي طبعت مواقف حزب الاستقلال بالمهادنة طوال العقود الأخيرة، و خصوصا بعد انطفاء جذوة الكتلة الديمقراطية التي تشكلت أوائل التسعينيات، مما مهد موتها ، علما أنها كانت تبشر بمستقبل سياسي مغاير لوضعية التأزم التي يعيشها المغرب. وكل أحزاب الكتلة الديمقراطية مرت بنفس المسار. إن الرهان الذي يفرض نفسه اليوم- أكثر من أي وقت مضى - على النخب الحزبية، يرتبط بالقطيعة مع كل أنواع الشرعيات المزيفة والمفبركة التي سادت لعقود، سواء تعلق الأمر بالشرعية التاريخية أو العائلية أو رضا المخزن ومباركته،لأنها بكل بساطة، شرعيات مناهضة، بالتمام والكمال، لقواعد المنهجية الديمقراطية وتقتل روح التجدد و التقدم في المسار الحزبي وفي الركح السياسي . إن نفس الرجال ونفس المشارب لا يصلحون لجميع المراحل. لكن حزب الميزان تحول إلى حزب عائلي تحكمه الروابط والقواسم العائلية المشتركة، وهي الروابط التي مكنت نزار بركة، من الحصول على حقيبة وزارة المالية والاقتصاد، وهو الذي بحث له صهره عباس الفاسي سنة 2006 عن منصب مدير مديرية التوقعات الاقتصادية، وكذا استوزار الوفا وغيره من آل الفاسي الذين ظلوا يحتلون مواقع بارزة كأن الحزب و البلاد خالية من ذوي الكفاءات غير هؤلاء.
فقبل المطالبة بأن تكون الديمقراطية خيار الدولة، وجب المطالبة بأن تكون خيار الأحزاب السياسية المطالبة بها، لأنه لا ديمقراطية دون ديمقراطيين.
ومن جهة أخرى ينبهر المرء عندما يطلع على أدبيات حزب الميزان وبرامجه وتنظيراته وتصوراته لمستقبل المغرب، وما يسعى لتحقيقه للمواطن المغربي، وما تضمنته أهم شعاراته الواعدة بالأمن والعيش الرغيد، وتوزيع خيرات الوطن بالعدل على المواطنين ، وأن أسمى ما يسعى إليه ويناضل من اجله، هو الوصول إلى السلطة لتطبيق أهدافه و ترجمة شعاراته تلك على أرض الواقع. لكن فماذا حصل بعد أن تمكن الحزب من استلام السلطة - مرات ولحقب طويلة- بفضل نضال وتضحيات مناضليه الذين آمنوا بأفكاره ودافعوا عن أيديولوجياته، وضحوا أحيانا بحرياتهم وحياتهم، من اجل إيصال قيادتهم الى سدة الحكم؟ فهل تحققت الوعود، أو جزء منها على الأقل؟ لم يحقق شيء، وبقيت جميع القوانين والقرارات والشعارات التي صادقت عليها مؤتمراته حبرا على ورق. لم يتحقق إلا شيء واحد وبامتياز، إنه فضح هشاشة مستوى النخب الحزبية وفرقعاتها الإعلامية التي تناسلت في الحياة السياسية، فلا عيش كريم عاينه الحزبيون وغيرهم من المواطنين ، ولا ثروات وزعت على أبناء الوطن بالعدل، بل ساء حال الجميع وتدهورت أمور المواطنين كلها، بعدما أن استحوذت القيادات الحزبية على كل المغانم ووزعت المكتسبات على الأهل والمقربين، كنتيجة حتمية لنظام حزب العائلة.
ويرى الكثيرون في التصدع الذي يخترق حزب الاستقلال حاليا مؤشرا على بداية نهاية حزب الميزان كــ "حزب دولة"، سيما وأنه أضحى بمثابة "روبوت متأكسد" فاقدا للحركية التي ظل يتمتع بها منذ اكتساحه للركح السياسي. والحالة هذه، إن أغلبية شباب الحزب ظلت تتمنى أن ينفرط عقده ليعيدوا نظمه من جديد دون دناصير تقفل الأبواب على الجميع وبقرّ "المطر والجو الصحو" داخل الحزب، حسب التعبير الفرنسي.
ظل حزب الاستقلال حبيس الزعامات، لذلك اقتصر على تقديم مرشح قائد واحد يحظى بالإجماع، إلى أن بدأ شباب الحزب يطالب بشدة بالخروج من عهد الزعامات وولوج عهد الشفافية والوضوح.
وبشهادة الكثيرين وصل حزب الميزان التاريخي إلى مستوى من التصدع قد يعصف به بشكل أو بآخر.
حصيلة الانتخابات التشريعية
(عدد المقاعد- الرتبة- المشاركة في الحكومة)
1963: 41 (144) – الثاني – شارك في الحكومة
1970: 8 (248) – الثالث – لم يشارك
1977: 51 (264) – الثاني – شارك
1984: 41 (306) – الرابع – لم يشارك
1993: 52 (333) – الرابع – شارك
1997: 32 (325) – الثاني – شارك
2002: 48 (325) – الثاني – شارك
2007: 52 (325) – الأول – ترأس الحكومة
2011: 60 (395) – الثاني – شارك
الأمناء العامون
1) أحمد بلفريج: من 1943 إلى 1960 (17 سنة)
2) علال الفاسي: من 1960 إلى 1974 (14 سنة)
3) امحمد بوستة: من 1974 إلى 1998 ( 24 سنة)
4) عباس الفاسي: منذ 1998
التعليقات (0)