جولة مسائية في مدينة الرماد،الرأس طبعا عامر،بالكوارث وبأشياء أخرى، مصروف الجيب على المقاس كالعادة.المساء بارد والسماء كما في كتابات العبثيين غائمة ومكفهرة،كل ذلك يغري المعدة بالإنحشار داخل محل لبيع المأكولات الخفيفة ولو تطلب الأمر الإنتظار في طابور طويل.هنا بمكن للمرء أن يسمع الأخبار والتعاليق وأشياء أخرى،بعد ذلك لا يتنازع داخلك اثنان حول وجوب اقتحام شارع بئر انزران،هناك تصادف وجوها تعرفها وابتسامة مغرية من إحداهن لكنك تشيح ببصرك عنها كأي مغفل فقط لأنك لا تملك ما يكفي من نقود لدعوتها للنزهة في أقرب مقهى،في الأخير تنهال بجسدك على الكرسي لتشرب كوب السائل الأسود المر وحدك، تدخن قليلا لتظل صامتا وأيضا لتبدد الضيق العميق..وراءك أحاديث تصلك منها بضع كلمات لكنها مبتورة غير ذات أهمية على الإطلاق..كأنما الكلمات تفقد جوهرها حينما تنطق أو لأن ما يقال و حتى ما لا يقال عبث في عبث مادام العالم لا يتغير...
أمامك الناس كل في همه غارق،في ذهنك مشاريع أفكار تنتظر الفرصة لتكتمل وقد لا تحظى بها فتندثر.وبعد ساعة أو أكثر تغادر المقهى، نفحت النادل فوق ثمن القهوة درهما فحاول أن يشكرك بمشروع ابتسامة فاشل.تنطلق عائدا من حيث أتيت لكن من شارع أخر أكثر ازدحاما،فيه يتقاسم البشر الطريق مع السيارات بعد أن احتل الباعة المتجولون وأرباب المقاهي كل الأرصفة. في ذات الشارع تنتصب المحترفات، طويلات عريضات سماهن على وجوههن من أثر الليل والمساحيق الرخيصة، يقطعن الشارع جيئة وذهابا، في انتظار زبون الليلة يختلطن بالنشالين والمحترمين والعاطلين والباعة المتجولين...ولا شيء جديد،دورة الحياة روتينية تقتل ببطء أشد من القتل بعينه.
تنظر إلى الساعة فتجدها التاسعة، لازال هناك فراغ، الليل يمضي ببطء نحو حتفه،هروبا من التفكير في ذلك تمر على غرفة الصديق المتوحد فتتمنى ألا تجده متجهما كما هي عادته أحيانا،لطالما استمتعت بمحاولة قراءة انطباعات الآخرين من أول نظرة،وهذه المرة كان عكس توقعك منشرحا يدخن ويشرب،يشقى بالنهار ليتحشش ويشرب بالليل، كانت معه إحداهن، بعد تلعثم البداية تقتنع مرة أخرى أنه يختارهن على مقاس مضبوط ،صامتات شاحبات لا يتكلمن إلا لماما،يفعلن ويخجلن وحكايات المحترفات تتشابه إلى حد التماهي، حتى الصديق لا يتكلم كثيرا لكنه حين يفعل تحسبه حكيما متبصرا،الأخرى صامتة كالثلج لذلك لم يرقك الجو فاعتذرت باسما بعد أن كرعت بضع كؤوس ودخنت،فكرت أن وجودك قد يكون مزعجا رغم أنهما حاولا أن يلحا عليك بالبقاء لكنك أخيرا تغادر..
في الطريق كنت منتشيا تهاجمك نسائم باردة تنعشك وتساعدك على التفكير الجيد ثم تخطر في البال أغنية : "يا نسيم الريح قولي للرشا / لم يزدني الورد إلا عطشا.." تفكر في صديقك وفي المتوحدين كم هي غريبة طباعهم،الربح والخسارة لديهم سيان والوجود إن لم يكن مثلما يشتهون فلا أفضل من العزلة بحثا عن أنفسهم..لا شيء أفظع من خداع النفس لإرضاء الآخرين وعدم قذف الحقائق في وجوههم ومن لا يجيد النفاق تقتله حتما تلك التي اسمها الكبرياء..
تنظر إلى الساعة مرة أخرى فتجدها الحادية عشرة وكان ضجيج المدينة قد خمد تماما.. ولا زال هناك فراغ ووقت مستقطع.تصل إلى الحي حيث تقطن وقبل البيت تتجه إلى صالة الإنترنت،تفتح حساباتك لتستقبل العالم الأخر منشرحا هذه المرة فأضواؤه وشخوصه وألوانه تتوازى مع العالم الواقعي وما يعرفه الإفتراضيون عنا لأكثر مما يعرفه من نعاشرهم في "الواقع"،يكفي أن تفترض أن هناك شخصا ما،في زمان ما، حتى تصنع له قالبه الوجودي الخاص به داخل مخيلتك، ولن تكتفي بالسؤال عنه حتى يصير مرآة تحاول أن تعكس لك من أنت أو من تريد أن تكونه ..شتان بين الأمرين لكن الإنسان بطبعه ضعيف يريد أشياء حتى لو كان في الواقع لا يحتاجها ،لذلك تكون الحياة دوما أقصر من اكتشاف كل المعاني..والمتعبون من مجرد وجودهم تجدهم في بحث دائم عن عن ملاجئ محصنة ضد القرف: في الحيلة أو الرذيلة أو حتى الخيال...بحثا عن الخلاص..
بعد الحديث الإفتراضي والإطمئنان على أحوال أصدقاء القارة الأخرى وقراءة ما تيسر من هنا وهناك تعود إلى البيت خائر القوى بفعل السهر..
في مذكراتك لم تكتب شيئا جديدا، فقط لإشباع إدمان الأصابع على خنق رأس القلم الجاف نسخت فقرة أثيرة على قلبك لمحمد شكر ي "1" :
"فكرت من جديد في حياتي من خلال الأصفار ..فكرت في كل شيء من خلال لا شيء : إنني غاضب على هذا الجوع البشري الذي لا يكف حتى الموت.لم أعد أذكر كبريائي التي تمنعني من أن أحب.دائما يغلبني الفجور الأقوى من العفاف في نفسي.أبدا لم تأتيني التي في أوانها أشتهيها :لم افهم امرأة واحدة إلا في نزوات الخيال : في الرشفات لا في رشفة .ربما فكرت في كلهن. كانت رغباتي موزعة فيهن .الحياة التي فكرت فيها لم أعشها...سلوا ذالك الذي عاشها ولم يفكر فيها.."
محمد الشاوي
-"1" محمد شكري،مجنون الورد،مجموعة قصصية ص : 171،أفاق للكتابة ،نوفمبر 1997
التعليقات (0)