أيا ما كانت نهاية الوساطات التركية والإيرانية الجارية بين بغداد ودمشق،
وأيا ما كانت طبيعة الاستجابات السورية لقلق حكومة المالكي بعد وصول تفجيرات بغداد إلى المنطقة الخضراء،
فإن الحقيقة تظل كما هي، وهي أن المالكي وحكومته، أو أي حكومة أخرى تتبعه في بغداد،
وفي ظل الاستقواء بنفوذ الاحتلال الأمريكي، أي حكومة من هذا النوع سوف تنتهي ـ وإن تأخر الوقت ـ إلى نهاية دموية على الطريقة العراقية المفضلة.
وربما لا تبدو أمريكا مشغولة بالمالكي،
وبقدر انشغالها بخيبتها في العراق،
ثم تداعي هزائمها المتوالية في أفغانستان، والتي ظن أوباما أنه ينقل التركيز الأمريكي إليها تخففا من ضرائب الدم والمال في العراق، وسعيا لتحقيق نصر في كابول عز عليه في بغداد،
فإذا بأمريكا ـ وقوات الإيساف الأطلنطية عموما ـ تجد نفسها في مصيبة لم تخطر على البال،
وقد استنجدت من رمضاء العراق بنار أفغانستان. ولا تبدو الإدارة الأمريكية مستعدة للتراجع عن خططها بشأن انسحاب ناجز من العراق، وفي المواعيد المحددة التي تنتهي بعد سنتين،
فالخزانة الأمريكية المرهقة لا تستطيع تحمل نزيف مال جاوز التريليون دولار إلى الآن في العراق وأفغانستان،
وشعبية أوباما المتراجعة بشدة لا تمكنه من احتمال رؤية مزيد من نعوش الموت التي تحمل الجنود الأمريكيين،
خاصة أن نزيف الدم الأمريكي لم يتوقف تماما في العراق، صحيح أن شهر آب (أغسطس) الماضي كان أقل الشهور دموية في العراق بالنسبة للأمريكيين،
ويبدو ذلك طبيعيا في ضوء انسحاب القوات الأمريكية من داخل المدن إلى قواعد محصنة خارجها،
لكن المقاومة العراقية ـ في قطاعاتها الأكثر تأهيلا ـ لا تزال قادرة على الوصول للأمريكيين،
ولديها إمكانات استخبارية عالية، ومقدرة ملحوظة على تطوير التكتيكات الحربية، خصوصا مع تخلف قوات الحكومة العراقية الموالية للأمريكيين، وضعف معنوياتها، والاختراقات المتشعبة لجهازها الأمني، وتعدد مصادر النيران المتربصة بها،
ومن أول تنظيم القاعدة وجماعاته الانتحارية، وإلى أدوار أجهزة استخبارات أجنبية تجد المجال مفتوحا لعملها في العراق،
وإلى عصابات سلاح تابعة لمتنافسين سياسيين، وإلى قوات المقاومة العراقية بشقيها البعثي والإسلامي.
ويكاد العراق الآن أن ينتهي إلى صورة فريدة، هي أبعد ماتكون عن الاستقرار بكل تأكيد، وأقرب إلى الخطر ونذره الدموية المفزعة،
فحكومة المالكي ـ أو أي حكومة على طرازها ـ هي أشبه بلص بغداد ومريض بغداد معا،
المعنى اللصوصي لا يحتاج إلى بيان، فنحن بصدد جماعة أقرب إلى لصوص الحرب وأغنياء الحرب معا،
كلهم عاشوا يتحدثون عن جرائم منسوبة لنظام صدام حسين،
وهي لا تقارن إلى نزيف الدم في يوم عراقي واحد الآن،
فقد قتل ما يزيد على المليون ونصف المليون عراقي في سنوات الاحتلال وسنوات حكومات الدمى،
وجرى تهجير ما يزيد على أربعة ملايين عراقي في الداخل والخارج،
وجرت جرائم تطهير طائفي وعرقي غير مسبوقة في التاريخ العراقي كله،
وتحولت الحكومة التي يقيم وزراؤها تحت الاحتلال، أو في خارج العراق أغلب الوقت،
تحول هؤلاء إلى لصوص مليارات من الوزن الثقيل، وبصورة لم ترد على بال ولا خطرت في خيال،
وبرغم تكدس السرقات وصنوف الحماية المرئية والمخفية، فإن صورة هؤلاء العامة تبدو أقرب لفئران مذعورة،
يتحدثون كثيرا عن فولكلور العملية السياسية، وعن الانتخابات (محلية أو عمومية)،
وتحس وأنت تسمعهم أو تشاهدهم، أنك بصدد أشخاص هاربين من شيء ما،
ويشعرون ـ في قرارة النفس ـ أنهم كالقشة في مهب ريح،
فقد جاءوا إلى حكم العراق على ظهر دبابات الاحتلال أو في بطن طائراته،
وليس بوسعهم أن يبقوا يوما واحدا بغير حماية الاحتلال الأمريكي أو التدخل الإيراني،
وهم محشورون بين اختيارين كلاهما أمر من العلقم، فولاؤهم للأمريكيين له الأولوية،
وحيرتهم تزداد مع التحرش الأمريكي المتزايد بإيران نفسها، قطاعات الأكراد في اللعبة تبدو أقل حيرة،
وحسمت أمرها في الولاء المطلق للأمريكيين، فقد كان هؤلاء يطالبون ـ فيما مضى ـ بحق تقرير المصير للأكراد،
وحقق لهم الاحتلال أهدافا أبعد مما حلموا به، فقد تحولت كردستان العراق إلى دولة منفصلة بالكامل، والأكثر من ذلك جرى،
فقد تم تكريد العراق نفسه،
وانتهينا إلى صورة أشبه بكوميديا سوداء، فرئيس العراق العربي كردي، ووزير خارجيته كردي،
وكأن الأكراد قد كسبوا دولتين بدلا من الحلم بدولة واحدة، ويسعون لكسب الثالثة بالاستيلاء على كركوك وحقول بترولها الغنية،
بينما المتصدرون لزعامة شيعة العراق العرب في مأزق، فروابطهم التاريخية والحالية مع إيران سبب واضح للارتباك،
قطاعات أكثر ارتباطا مع إيران سعت لإعادة إنشاء الائتلاف الشيعي بدون المالكي هذه المرة، بينما المالكي ورجاله في قلب الحيرة، ويريد أن يبدو عراقيا لا طائفيا، وسعى لإضعاف حلفائه السابقين بنفوذ السلطة والمال وتأثير الأمريكيين في انتخابات بلدية جرت قبل شهور،
وربما يستطرد في المسعى نفسه في انتخابات عامة مقبلة، لكن تهمة العمالة للأمريكيين تلاحقه،
تماما كما تلاحق حلفائه الحاليين أو المحتملين في أوساط سنة العراق من نوع الحزب الإسلامي،
وليس أمامه من فرص لكسب استقرار، فحكومات المحاصصة الطائفية تبدو غريبة على التكوين العراقي،
وهي أفضل وصفة لتفجير حروب أهلية لا تنتهي، وكلما زاد الميل الأمريكي إلى استهداف إيران،
كلما زاد موقف حكومات الدمى حرجا، وكلما زادت وتيرة مباريات الدم، واستنادا إلى المال الإيراني أو المال السعودي،
وفي بيئة عراقية شرسة تستعصي بطبعها على الانقياد الطوعي.
المحصلة:
أن أخبار العراق فيما يلي سوف تصطبغ أكثر بلون الدم،
ولن يفيد المالكي ـ ولا غيره ـ استفزاز سورية أو غيرها،
فالعراق يحتاج إلى حكم مركزي قوى يلم أشلاءه المبعثرة، والوطنية العراقية تحتاج إلى إعادة بناء من نقطة الصفر،
وهذه مهمة أوسع من مجرد تنظيم انتخابات لا معنى لها تحت حراب الاحتلال،
أو إجراء تعديلات على الدستور تسمح بانتخاب رئيس من الشعب مباشرة لا من البرلمان،
وأي حكومة عراقية ـ بالمالكي أو غيره ـ في ظروف اللحظة لا تحقق المعنى المركزي الحاكم،
وتظل أشبه بمريض خاص جدا، لا يشفى بغير دواء الموت المستعجل،
لكن السؤال يبقى:
من أين تأتي رصاصة الرحمة؟،
ربما تكون في القصة فصول دم طويلة،
وربما تحتاج المقاومة العراقية بشقيها البعثي والإسلامي (المجلس السياسي ومجلس التخويل) إلى وحدة سياسية وعسكرية عاجلة،
فوقت الصدام النهائي يقترب،
والمخاطر لا يستهان بها،
وقد تعب العراق من كثرة الحروب،
لكنه ربما يحتاج إلى حرب أخيرة إضافية،
وعلى رأس الحكم هذه المرة.
نشر بالقدس العربي
مقال ل / عبدالحليم قنديل
طبيب وصحفي ومعارض مصري .
رئيس تحرير صحيفة صوت الأمة المصرية.
رأس تحرير عدد من أهم الصحف المصرية مثل العربي
لا تعليــــــــــــــــــق
التعليقات (0)