مفتي الجمهورية اللبناني :
"مستقبل البلاد أمانة لدى الجميع … وعلاقتنا مع الجميع نُقَيّمها على اتساع المرجعية "
حاورته : مروة كريدية
شكَّلت علاقة "الديني " ب"السياسي" محورًا جدليا شائِكًا على مرّ العصور، وقد حفل التاريخ البشري بأحداث عكست علاقة مأزومة حملت في طيّاتها الكثير من أشكال الصراع على السلطة، فتارة نجد أصحاب العروش قد استعانوا ب"إكليروس القصر" واستخدموهم بمنح صكوك الغفران، وتارةً نجد خلفاء وأمراء استقطبوا "فقهاء البلاط" لمباركة أفعالهم؛ هذا الأمر قد دفع بأوروبا في نهاية المطاف الى التمرد على الاكليروس ورجال الكهنوت أجمعين بحيث تمّ الفصل التام بين عمل الأرض والسماء، وانتهى الأمر بهم الى إقامة دول علمانية مدنيّة قائمة على العقد الاجتماعي، سلطة رجل الدين فيها لا تتجاوز "الصلاة والدعاء " .
أما في المنطقة العربية الحالية والتي شهدت في كثير من مفاصلها التاريخية اتحاد السلطة الدينية بالسياسية عبر "الخليفة" زمن "الخلافة الاسلامية"، فإنها وبعد ان تحوّلت الى دول وجمهوريات كلّ لها لونها ونظامها السياسي الخاص، فإن العلاقة بين "السياسي" و"الديني" أصبحت هلاميّة لا معالم واضحة لها، وان كانت معظم الانظمة العربية قد عمدت الى طيّ الديني تحت وصايتها مُحجِّمةً دوره بما يتلائم مع مصالحها، فيما سعت بعض الدول كتونس مثلا الى تحييد عمل "الديني " عن "السياسي" بالكامل مستصدرة قوانين مدنيّة تُنَظّم من خلالها حياة البشر بما فيها قوانين الاحوال الشخصية .
وفي لبنان الذي يَعجُّ بالطوائف والمتناقضات والانقسامات، فإن جزءًا من الشعب الذي يجد نفسه ضحية تشرذم القوى السياسية كثيرا ما يلجأ الى المرجعيات الروحية آملا بأن تشكل ضابطا ناصحًا للقوى المتنافرة في بلدٍ غدا مستقبله كما أمسه مفتوح على احتمالات اقليمية ودولية متعددة و نقطة تجاذبات لا محدودة ، مما جعل المرجعيات الروحية للطوائف في لبنان تلعب دورا بارزًا في تموضعات السياسة في وقت لا تكاد تخلو موعظة كنسيّة او خطبة جمعة من موقف واضح او مبطن من القضايا السياسية العالقة .
وفيما ترى بعض القوى العلمانية أن هذا التداخل من شأنه ان يكرّس الانقسامات ويؤدي الى انتاج الطائفية السياسية وتكريس المذهبية، في ظل دعوات متتالية إلى ضرورة بناء مجتمع مدني قائم على المواطنية العارية عن اي تبعية روحية، معتبرين أن تداخل السياسي بالديني يُفسدهما معًا علاوة على الشواهد التاريخية والأرث المرّ الذي رزحت تحته البشرية جرّاء تدخل عمل اللاهوتيين في سلوك البشر؛ يرى آخرون أن لبنان بلد فريد وان للمرجعيات الروحية دورٌ ايجابي مهم في ضبط الانقسامات السياسية، وأن من شأنها ان تكون الملاذ الامن للحمة لبنان وعيشه المشترك .
وعلى أرض الواقع نجد أن "رجل الدين " في لبنان يكتسب "مشروعية مُضاعفة " تجعله في حصانة تتجاوز حصانة السياسي، فهو يمتلك الحق بممارسة العمل السياسي كحق مشروع له شأنه شأن أي لبناني آخر، كما يتحلّى بهالة "روحية" تجعله فوق دائرة النقد في معظم الأحيان، فالتعرض " للمقامات الروحية" خطٌّ أحمر عريض في عُرف اللبنانيين ويكاد يكون إجماعًا عن كافة الفرقاء على اختلاف أفكارهم وتوجهاتهم، لذلك فإن الاعلام اللبناني الذي يتميز بالجرأة النسبية والذي ينتقد أداء السياسي جهارًا نهارًا مهما علا شأنه فإنه يتفادى الاقتراب من أي مرجع روحي بحالٍ من الأحوال.
الكاتبة مروة كريدية التقت مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ د. محمد رشيد راغب قباني والذي تولى مهام مقام المفتي بصفته أميناً للفتوى إثر حادثة اغتيال المفتي الراحل حسن خالد مايو 1989 ثم انتُخِبَ مُفتياً للجمهورية اللبنانية أواخر ديسمبر 1996 .
سماحته تولّى منصبه في وقتٍ عسير عصيب أثر حادث هزّ البلاد والذي كما يرى المحللون اغتيال سببته مواقفه السياسية ، وبحسب الدستور فإن مفتي الجمهورية اللبنانية هـو الرئيس الديني للمسلمين وهو الرئيس المباشر لجميع علماء الدين المسلمين ( المادة لا تشير الى السنة او الشيعة ) وهو المرجع الأعلى للأوقاف في لبنان، وممثلهم بهذا الوصف لدى السلطات العامة، وله ذات الحرمة والحقوق والامتيازات التي يتمتع بها أعلى الرؤساء الدينيين بلا تخصيص ولا استثناء.
فماهو الدور الفعلي المنوط بعلماء الدين المسلمين وكيف هي علاقة دار الفتوى بالاطراف اللبنانية الاخرى ، هذا ما حاولنا ان نستوضحه من خلال دردشة قصيرة ، وفيما يلي نص الحوار :
لماذا لا يرى الانسان "العربي" ذاته إلا من "خلال تقييم الآخرين له"؟ لماذا لا يُباشر بحلّ قضاياه العالقة ومعالجتها إلا عندما يثيرها الرأي العام العالمي ؟ لماذا لا يجتمع الفقهاء مثلا لحل قضية مثل "قضية العنف " الا عندما تقوم المؤسسات الانسانية في العالم بإثارتها؟؟
إن كثيرًا من القضايا لا تُثَار في مُجتمعاتنا العربية والإسلامية إلا عندما يَطرحها الغرب في شكل مخالف ومناوئ لحقيقتها في الإسلام وفي قيمنا العربية الأصيلة.
لماذا وماهو المطلوب إذن من وجهة نظرك ؟
المطلوب هو أن نعي قضايا مجتمعاتنا الحيوية والايجابية والسلبية فيها وان ندرسها على ضوء هداية الله لنا في القران الكريم والسنة النبوية الشريفة فما من مشكلة فردية او اجتماعية في المجتمع إلا ولها علاجها في الإسلام وعدم النظر باستمرار إلى مجريات الحياة وواقعها في المجتمع هو الذي يفسح المجال لتفاقم بعض الأمور الاجتماعية التي يستغلها من يريد الاستغلال لالصاقها بالإسلام.
لذلك يجب ان نبني علاقات طيبة بين الناس في المجتمع في العالم والمسارعة إلى مشكلاتنا الاجتماعية مبكرا بمداومة العمل على بناء مجتمعاتنا على قيم الإسلام السامية ومعالجة المشكلات والعادات والتجاوزات الاجتماعية البعيدة عن حقائق الإسلام لنصلح مجتمعاتنا أولا ولا ندع فرصة لمن يستغل بعض الحالات الاجتماعية ليلصق سلبياتها بالإسلام في حين ان الإسلام يعالج كل السلبيات التي ليست من الإسلام في شيء.
هل هذه الامور هي المنوطة ب"رجال الدين" وهم المطالبين بتحقيقها من وجهة نظرك؟
ليس في الإسلام رجال دين وإنما علماء بالدين وهم ليسوا فقط الذين يرتدون اللباس العلمي الديني… بل إن كثيرا من المسلمين الذين اطلعوا وتعلموا مبادئ الإسلام لهم دور بارز وكبير في هذا المجال …. ينبغي ان يكون كل مسلم ومسلمة على قدر من المعرفة بالإسلام وقواعده وأساسياته والتخلق بأخلاقه ليساهم هو أيضا في علاج القضايا اليومية التي تحتاج الى علاج على ضوء معرفته بالإسلام وسمو تعاليمه.
إذا كان هذا الشأن يتعلق بكل "مسلم "…مادوركم إذن انتم دور الافتاء أو ما يُعرف ب"الإسلام الرسمي " ان كان أمر كل مسلم منوط به ؟
للعلماء بالإسلام دورهم ولدور الإفتاء أيضا دورها في تعليم وتوعية المجتمع ولكن للثقافة العامة بالإسلام وشمولها بحيث يكون لكل مسلم ومسلمة قسط وافر من هذه الثقافة فان ذلك يفسح المجال أكثر فأكثر إلى مشاركة كل فرد في المجتمع في الإصلاح الاجتماعي عندما يرى أي خلل بالنصح وبالإرشاد فلكل دوره بالإسلام وهذا الدور مطلوب من كل مسلم ومسلمة.
( المعذرة للمداخلة : تاريخيًّا وعلى امتداد حقبات متعاقبة نرى العلاقة جدلية بين "السياسي " والديني "، فكثيرًا ما كان "الحاكم " يعمد الى إستقطاب ما يُعرف "بفقهاء البلاط " وهناك أمثلة من التاريخ الحديث والمعاصر لمفتين أفتوا بما أراده رؤساء جمهوريات بلادهم… كما أننا نجد في لبنان مثلا تدخلا لعمل المرجعيات الروحية بالشأن السياسي …)
كيف تقَّيم علاقتك مع الأطراف في لبنان؟
علاقتنا مع الجميع نُقَيّمها على اتساع المرجعية بين الجميع وان كان لمفتي الجمهورية رأيه وموقفه الذي يراه محققا للمصلحة الوطنية وان خالف الآخر أو خالفه الآخر فمستقبل البلاد أمانة لدى الجميع، وخاصّة لمن هم في موقع القيادة الدينية و السياسية وهذا هو دور جميع المرجعيات الدينية في لبنان بالنصح والتوجيه
وإذا كان من حقّ أيّ لبناني أن يكون له رأيه في القضايا الوطنية فلماذا لا يكون للمراجع الدينية أيضًا موقفها في النصح والإرشاد وان اختلفت فيه مع الآخر.
ولذلك فان المصلحة الوطنية التي يرى المرجع الديني فيها الخير للوطن ولشعبه عليه ان ينبه إليها وعلى الجميع ان يحترم بعضهم بعضا ويتخذوا مواقفهم دون كراهية أو تجريح تجاه بعضهم.
mhd-kabbani
http://www.elaph.com/Web/Lebanon/2009/5/436495.htm
التعليقات (0)