مرحباً بكم في الخرطوم مَعـشَرَ يهـود
مصعب المشرّف
24 أغسطس 2017م
على خلفية ما أدلى به مبارك الفاضل المهدي في برنامح حال البلد ..... على قناة سودانية 24 عن رأيه الشخصي في فكرة تطبيع السودان مع إسرائيل . فإن المطلوب اليوم العودة إلى تلك الحلقة (في اليوتيوب) قبل إصدار حكم نهائي على رأي مبارك الفاضل.
مبارك الفاضل لم يقل صراحة بالتطبيع مع إسرائيل .. ولكنه كان كمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
مبارك الفاضل قيادي حزبي يتقن فن السياسة . وعلى وعي بمسالك ودروب عالمها القذر .. ونحمد الله أن في السودان من لا يزال يتقن فن السياسة العالمية .. والصبر على مكارهها ... وكيفية العزف على جميع الأوتار .. واللعب بإحترافية على كل الحبال.
ويبدو أن بقاء مبارك ردحا من الزمان في منافيه الإختيارية خارج السودان . وإتقانه لغة الحديث والتخاطب اليومي بالإنجليزية ... وثقته بنفسه .. وشخصيته التصادمية المطبوعة .. يبدو أنه كان لهذه الحالة الخاصة به أسبابها في تراكم خبراته في مجال الإتصال والسياسة الدولية والإقليمية والعربية .. وكيفية التعامل مع كل نظام حاكم بما يشفع له عنده.
عند العودة إلى فيديو الحوار المسجل على اليوتيوب برقم الحلقة (13) فقد أوضح مبارك الفاضل الآتي:
1) أن هناك دول عربية رئيسية طبعت مع إسرائيل ؛ سواء عبر إتفاقيات سلام موثقة ذات بنود علنية برّاقة . وأخرى سرية فادحة الثمن . أو من خلال فتح مكاتب تمثيل تجاري .. وإتصالات سرية على مدار الأربعة وعشرين ساعة ... وأن العلم الإسرائيلي "يرفرف دون حياء" اللحظة فوق سارية أكثر من مبنى من مباني تلك البلدان العربية منها والإسلامية.
2) أن السلطة الفلسطينية (صاحبة القضية) طبّعت كذلك مع إسرائيل. وأنها هي وحماس مع إسرائيل سمن على عسل تحت الطاولة .. وتتلقيان أموال الدعم الصهيوني والماء والكهرباء والدواء .. إلخ بمسميات شتى.
3) أن التطبيع المصري مع إسرائيل وصل إلى مراحل أبعد مما يتصوره عامة الناس . وأن يوسف والي - وزير الزراعة المصري الأسبق في حكومة حسني مبارك قد حصل من إسرائيل على الدعم التكنولوجي والمعينات فيما يتعلق بزراعة الصحراء وتصميم الري بالتنقيط الذي لم يكن المصري يمتلك خبرة بإستخدامه.
4) أن المواطن الفلسطيني لم تكن له في يوم من الأيام أيادي بيضاء على السوداني . بل أن شكوى المغترب السوداني من كـيد وشيطنة المواطن الفلسطيني لا تكاد تنتهي . وضرب مثلاً بأن الفلسطيني إذا جرى تعيينه في أي موقع بدول الإغتراب العربي يكون أول ما يسعى إليه هو الحفر للسوداني حتى يتم فصله من العمل والقفز إلى مقعده الخالي .. أو جلب فلسطيني آخر لإجلاسه مكانه بشتى الحيل والمزاعم والوسائل.
وحتما فات على مبارك المهدي واقع تلاعب الفلسطيني بشعارات ونداءات المقاطعة العربية والإسلامية لنصرة الشعب الفلسطيني بالتوقف عن أكل وشرب وإستخدام منتجات الشركات التي تدعم إسرائيل. أو تلك التي يشار إليها بأنها إستثمارات يهودية ... وهي الشعارات التي صدقها عرب الدول الخليجية في البداية. ثم إكتشفوا فيما بعد أن الفلسطيني المغترب في تلك الدول كان يتناول الوجبات السريعة العالمية (الشهية) التي طالب الناس بمقاطعتها .. كان يتناولها عبر وسيلة التوصيل إلى المنازل Home Delivery
والنغمة الحديثة التي بدأنا نسمعها من بعض الأجيال الفلسطينية الجديدة حين تواجههم بحقيقة أن آباءهم وأجدادهم باعوا أراضيهم لليهود في سبيل الصرف على مومسات بني إسرائيل وشرب الخمر والإنفاق بغير حساب والتباري في إحياء الليالي الحمراء ... تفاجأ بهذا الجيل الجديد يرد عليك بالقول أن الفلسطيني باع أرضه للعربي وأن العربي هو الذي باع الأرض للفلسطيني .. وبنسى الفلسطيني الجديد واقع أنه يقع هنا في مغالطة تاريخية مكشوفة . ذلك أن العرب خلال تلك الفترة ما قبل الحرب العالمية ثم إلى بداية السبعينات من القرن الماضي لم تكن لديهم أموال . وأنهم كانوا أفقر خلق الله . وأن الأموال التي أصبحت تجري بين أيديهم اليوم إنما يعود بداية جريانها إلى عام 1975م . حسن حدثت الطقرة النفطية بعد حرب أكتوبر 1973م.
على أية حال فإن ما يؤخذ على مبارك المهدي أنه طوال محاورته "الذكية" هذه مع مقدم البرنامج . ظل يراوغ . ولم يعطِي إجابة واضحة مباشرة عن سؤال بما إذا كان سيسعى لإقامة علاقات دبلوماسية بيننا وبين إسرائيل أم لا ؟
وكنا نرغب لو أن لدى مبارك الفاضل (وزير الإستثمار) رؤية واضحة إيجابية تصب في مصلحة التطبيع مع إسرائيل ... وأن السؤال الذي يجب أن يطرح نفسه هو : هل من مصلحتنا إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل أم لا؟
لابد هنا أن يكون لدى مبارك الفاضل دراسة جدوى متكاملة ، وكشفاً بالأرباح والخسائر . وذلك على ضوء الحقائق التالية:
1) ن الإستثمار العربي في السودان قد ثبت مؤخراً أنه يتأثر بمدى جودة أو سوء العلاقات الخليجية العربية مع مصر . وحيث أن من المستحيل على السودان أن يرضي مصر في كل ما ترغب به ؛ فأن واقع الإستثمار العربي من هذا المنظور سيصبح غير مستقر . وغير منتج ولا يمكن التعويل عليه كثيراً... لاسيما وأن خلط الأوراق الإقتصادية بالمواقف السياسية وقناعات أفعل ولا تفعل وإن لم تكن معي فأنت ضدي أمر وارد ومجرب في العلاقات العربية البينية خاصة. وعلى نحو يؤدي إلى إنقلاب الاوضاع رأساً على عقب ما بين عشية وضحاها.
2) الإستثمار العربي في السودان يفتقر إلى التكنولوجيا . ورؤوس الأموال الضخمة ... ومن غير المعقول أن يكون كل ماينتجه هذا الإستثمار عبارة عن محاصيل زراعية خام يجري نقلها بأكملها إلى بلدانهم والسلام....
3) الإستثمار العربي والإسلامي في السودان يفتقر إلى الشفافية في بنوده وشروطه التي تدرج تحت جنح الظلام .. وهي في أغلبها مجحفة . وتلبي عادة مصلحة المستثمر نظير عمولات ورشاوى تدفع لبعض أصحاب النفوس المريضة.
حتى اللجوء إلى البرلمان لتقنين شروط الإستثمار على النحو الذي يلبي مصلحة الوطن وشعبه لم يعد محل ترحيب وإطمئنان ؛ بعد أن أقر هذا البرلمان (لمصلحة تجار الحزب الحاكم) تصدير إناث الإبل .. وعلى ضوء ما يجري على أرض الواقع منذ زمن بتصدير السودان لإناث الماعز وإناث الضان على هيئة لحوم مذبوحة مبردة...... وبالطبع فإن مرد كل ذلك إلى جشع هؤلاء التجار ورغبتهم في تحقيق أقصى الأرباح ، مقابل ما يدفعونه من أتاوات وعمولات وأرباح شراكات نائمة وهمية.
4) حاجة إسرائيل إلى المنتجات الزراعية البستانية والخضروات ليست بتلك الدرجة من الضرورة بالنظر إلى تشبعها بمثل هذه المنتجات وجودتها المحلية . وأنها على العكس مما يظن البعض تعتبر إسرائيل من الدول المصدرة للمنتجات البستانية والخضرية إلى أوروبا بإمتياز.
5) وعلى ضوء أجواء عدم شفافية الإعلام العربي الرسمي في تقييم الآخـر. ونزوعه دائما إلى التقليل من شأنه (حتى لا تتكشف عيوب الداخل) . فلا توجد دراسات علمية في أيدي وزارة الإستثمار توضح مدى حاجة إسرائيل للإستثمار في السودان من عدمه حالياً.
على أكثر من وجه وواقع فإن الإستثمار الأجنبي يحتاج إذن لمؤسساتية (عميقة) في كلا الجانبين ....
وبمثل ما هو عليه الحال في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان ..... وعند الأخذ في الإعتبار وضع السودان إلى جوار مصر وقناعاتها بأن لها حقوق في السودان (واهمة كانت أو غير واهمة) فإن الإستثمار الأجنبي في السودان يحتاج إلى قوة سياسية وعسكرية خارجية ضاربة عظمى تحميه وتدعمه . وتفرضه على دول الجوار السوداني التي تعارض توسع الإستثمارات الأجنبية لعدد من الأسباب ....
للأسف الشديد فقد أبتلي السودان بجيران تتباين تناقضاتهم معه .. ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى ودولة جنوب السودان وأرتريا وأثيوبيا تخشى من سودان قوي يثير فيها القلاقل ، ويفرض عليها شروطه وقناعاته.
مصر تدّعي حقوق .. ويخدمها عملاء وطابور خامس ... وتخشى من سودان قوي ، يحول بينها وبين فرضها لشروطها وسياساتها عليه من جهة .. وينافسها في إستغلال موارد مياه النيل من جهة ... وثروات معدنية وبترولية في البحر الأحمر من جهة .. ويحرمها من تحقيق حلمها في التوسع جنوباً بإحتلال المزيد من الأراضي السودانية الصالحة للزراعة أو حتى تكون لها بحيرة السد العالي بأكملها تحت قبضتها وداخل حدود أراضيها .. وهي على قناعة بقدرتها على تحقيق هذا الحلم من واقع وجود عملاء لها داخل السودان بأرخص من أسعار الملوخية في عز الصيف.
فهل بإمكان مبارك الفاضل أن يحقق لبلاده هذه المعادلة . والتوازن الذي يؤدي (بصفة خاصة) إلى تحييد مصر عن طريق جلب إستثمارات لشركات تستند في تبعيتها وملكيتها إلى قوى عسكرية عظمى إقليمية أو دولية ؟
المسألة لا تبدو بهذه السهولة بالنظر إلى أن مصر متمسكة بحق إدارة طموحات السودان من القاهرة ... وأن يظل السودان في حالة عدم إستقرار دائم طالما كانت حالة عدم الإستقرار هذه بعيدة عن حدودها الجنوبية معه ..... والسودان بدوره يساعد مصر في نهجها هذا بسبب أنه غير عابيء بملء الفراغ السكاني في الشمال ... وغير عابيء بمهددات هذا الفراغ على أمنه القومي.
على الرغم من كل المطروح أعلاه فإن الغاية من حماس نظام الإنقاذ إلى إقامة علاقة دبلوماسية مع إسرائيل يبدو أنه من أجل الكسب السياسي فقط ..... خاصة وأن إسرائيل كانت قد سبق وقدمت رجاءاً خجولاً للبيت الأبيض برفع العقوبات الأمريكية عن السودان ....
ومن جانب آخر فقد تكشف للسودان في عصر شفافية المعلوماتية أن القاهرة لم تكن في يوم من الأيام أقصر الطرق إلى واشنطون .. وأنها هي التي كانت تبذل قصارى جهدها لإبقاء العقوبات الدولية والأمريكية على السودان.
ولعل دماغ حكومة الإنقاذ قد إسترجع مؤخراً واقع أن المرّة الوحيدة التي حاولت القاهرة فيها أن تلعب هذا الدور كان عام 1985م. حين توسطت لعقد لقاء بين نميري والرئيس رونالد ريغان .. وأن الفشل كان سباقاً ... وإنتهي بإنتفاضة أبريل قبل أن يعود نميري إلى الخرطوم.
وعليه ......
في مثل هذه الأجواء العربية المشبعة برطوبات الهزيمة الثقيلة والإستسلام لإسرائيل . فقد آن الأوان أن يبحث السودان عن مصالحه بنفسه . فما حَـكّ جلدك مثل ظـفـرك.
أالآن فقط يدرك البعض أن تعيين الإنقاذ لمبارك الفاضل المهدي وزيراً إتحادياً للإستثمار قد كانت له مراميه البعيدة ..... فمنصبه كوزير للإستثمار يمنحه الغطاء الأخلاقي والقانوني للبحث عن مستثمرين من كل مكان ..... ويعطى الإنطباع بأن سعيه اليوم كعراب لإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل إنما الهدف منه هو جلب الإستثمارات اليهودية إلى السودان وفك الضائقة الإقتصادية ......
هو إذن توظيف إنقاذي بإمتياز لمبارك الفاضل صاحب الشخصية التصادمية الفاعلة .....
وعليه .....
ربما سيكون المكسب السوداني الأبـــرز من الإعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية معها ... ربما سيكون قصارى المكسب أن تجد الخرطوم عبر تل أبيب الطريق الأقصر إلى قلب واشنطون.
مرحباً بكم في الخرطوم معشر يهود ......
التعليقات (0)