فاجأ الجميع بهمته ونشاطه غير المعهودين.. أينما يممّت وجهك ترى له: أثراً.. لا يكلّ ولا يملّ من العمل والعطاء.. في إحدى المناسبات المهمة وصفه أحدهم بأنه خلية نحلٍ، وقال آخر: إنه أمة في رجل، وتساءل أحد الحضور قائلاً: إنني أتعجب من هذا الإنسان، كيف يتمكن من إنجاز كل هذه الأعمال والمهام التي تنوى بحملها كواهل الرجال؟ علّق أحدهم: الطموح والتطلع.. الاستثمار الحسن للوقت.. الرغبة في تحقيق الذات. استحسن الجميع هذا القول.. تساءل أحد الجالسين: ألا يمكننا استنساخ عشرة من أمثاله، لنجعل مجتمعنا واحة من الإبداع، نبهر بها الدنيا؟
عندما تُصغي إليه يُخيّل إليك أنك في محضر حكيم من الحكماء، أو قائد من القادة الذين قلّ أن يقذف الزمان بمثلهم.. قد لا تجد نفسك مبالغاً حين يراودك شعور داخلي بأنه ملاك تمثّل بهيئة بشر سويا!!
يتذكر زملاء المرحلة الثانوية بعض كلماته التي لا يستوعبها أكثرهم حينذاك، ففي إحدى جلسات السمر قال لهم: أنا اصطاد فرائسي كالأسد الرابض في عرينه؛ ألا ترون إنني ولدت لكي أكون قائداً أوجه الأتباع والمريدين؟ فمثلي لا ينبغي له أن يكون أسيراً لمناهج المدارس الميتة والمميتة.. هذه الدروس المُعلّبة التي ليس بمقدورها صنع الرجال، بل حتى أشباههم! يجب أن أتجاوزها، ولا أقتصر عليها، وأنتم أيضاً تجاوزوها.
كان يردد: أنا الذي سيُغيِّر هذه العقول الجوفاء النتنة؛ التي آن أوان غربلتها.. كان كثير التهكم ممن يهز رأسه تعبيراً عن الطاعة العمياء.. كان يصرخ فيهم مذكِّراً: «لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً».
ذات مرّة آلمه أن يجد صديقه المحبب إلى نفسه، وقد انصرف عن الدراسة الجامعية بذريعة التفرغ للعمل الرسالي والبقاء قريباً من الأحداث.. كلّمه موبِّخاً: لماذا رضخت لهذا الطلب السخيف واستجبت بكل بساطة لمن لا يُحسن التوجيه؟ انزعج بعمق عندما سمع صديقه يردد: هم أدرى بما فيه صلاحنا! فخاطبه بانفعال: لكن لماذا هم يدرسون؟ ولماذا هم يقرؤون؟ ولماذا هم يكتبون؟ ولماذا نحن الذين كُتب علينا أن نكون بمثابة الدُمى التي بها يلعبون؟! ألا تذكر -يا صديقي- أن (الشيخ صمد) وبّخنا عندما وجدنا نلتهم الكتب والأبحاث قراءة ودراسة! ليتلطف علينا بنصيحة تقول: توجها للعمل، ولا تنشغلا بالثقافة بعيداً عن النضال؛ فالأهم أن تجاهدا، ولتذهب الثقافة إلى الجحيم!! ألم يخدعنا الشيخ بهذه المقولة الساذجة؛ ليحيلنا كخدمٍ له، وعبيد تحت جُبّته؟ قل لي بربك: أي منطق هذا؟! القراءة له، والعمل لنا!!
هكذا هو.. صريح في مواقفه وآرائه؛ لدرجة أن الكل يهاب مجادلته ونقاشه! لم يرضَ أن يعيش كالأطرش في الزفّة.. لم يوافق على مبدأ: إحنا انفصلّ وأنت تلبس! أراد أن يشاركهم في التفصيل وصنع الخطط؛ فاتهم بأنه فرد لا يطيع الأوامر، ولا يصغي لمن هو أكبر وأنضج منه.. قيل إنه لا يفقه معنى أن يكون منتمياً للتنظيم.
مضت السنوات ولم يأتِ أحدٌ على ذكره، حتى تحت عنوان: «المحاربون القدامى»! لم يعد رقماً مهماً في أي مشروع! ومما يثير العجب أنه كان حاضراً بفكره وعمله أيام البأساء والضراء، وها هو الآن يغيب في ظروف الرخاء النسبي الذي تشهده المنطقة!!
هل التهمته الدنيا، كما التهمت غيره بملمسها الناعم؟...
هل تغيّرت قناعته؟...
هل فطن أنه يحفر في الهواء، ويبحث عن السراب؟...
هكذا كنت أتساءل قبل أن أراه مصادفة وهو يهرول؛ مرتدياً ملابسه الرياضية.. استوقفته بشوق؛ جلسنا على العشب سويةً، ونحن نتطلع نحو البحر.. استرجعنا الذكريات الجميلة، استرجعنا الآمال الكبيرة.. سألته عن طموحاته التي حدثني عنها -قبل أن نبلغ الحُلم-، ابتسم في وجهي وقال: لقد تبخّرت الأحلام؛ كلحيتي الكثّة التي كنتُ أطلق لها العنان أبّان المّد الثوري الذي اجتاحنا.
ذكّرته ببعض عباراته: «العاملون هم أمل هذه الأمة».. «انتمِ لمن شئت، وكن عاملاً».. «اعمل أو مت».. بحسرة قلت له: مقولاتك هذه أصبحت تردد كثيراً على ألسنة الأصدقاء.
استمع لحديثي بصمت، وقبل أن يدلف مكملاً رياضته؛ وجه نظره نحوي، وقال: لقد نسيت أيضاً أنني كنت أردد عبارة: «إحنا ضو ليف»، وها أنا أكتشف متأخراً أنني المقصود بهذا المثل، فلا تأسف لحالي يا صاحبي؛ فأنا لستُ أول شخصٍ تسحقه الحياة.
التعليقات (0)